ننشأ مصريين ثم نصبح ما نحن عليه


حبيبتي مصر: ليس فقط لأنك الوطن الأول، الفيلم الأول، الكتاب الأول، اللهجة الأولى، الحب الأول، الرغبة الأولى، وحلم التمرد والسفر الأولين، ليس لأنك أول الأمكنة التي حلمت بالعيش فيها، ولا أول الاصدقاء الذين رغبت في صداقتهم، ولا لأنك أول الأساطير الإنسانية والوطنية، التي كانت معبودة أبي وهي أسطورة القائد جمال عبد الناصر، ليس بسبب كل ذلك أحبك، بل لأنك مصر، فقط لأنك مصر دون تفاصيل، يكفي أن يلفظ الانسان اسمك لتتفتح أمامه أمداء التاريخ والعالم، أسرارا ومعجزات وبطولات. كانت أسرتنا تبدو وكأنها تمت بصلة قرابة مع أسرة جمال عبد الناصر، كنا نعيش معا في بيت واحد، أبي يحكي لنا بحماسة دافئة وغريبة حكايات أسرة الزعيم الكبير: تحية زوجته وأولاده خالد وعبد الحكيم وحسين وعبد الحميد، وهدى ومنى، جمال يحب الجبنة البيضاء، وتحية زوجة طيبة وعادية تشبه امهاتنا وزوجاتنا، وتخجل من رؤية ضيوف القائد، الأولاد والبنات لا يستغلون كون أبيهم رئيسا للبلاد، فمنى لم تحصل على معدل يمنحها منحة جامعية عليها أن تتعلم اذن على حساب أبيها، الأب العظيم لا يستغل المراسل الذي يعمل لديه في المكتب لأغراض بيتية. أول دروس الشرف والأخلاق والنزاهة علمني اياه أبي هو درس أسرة جمال عبد الناصر، الذي شهدت مخابرات اميركا أن عيبه الاجتماعي الوحيد أنه يدخن، درس بليغ ونظيف قرأه أبي وقرأته معه، بعيدا عن أي مرجعيات او عصبيات وانحيازات دينية، ما أكد لي أن الدين هو الأخلاق، وحين كان شخص ما من الإخوان المسلمين يشتم جمال عبد الناصر كنت أثور وأتوتر، وأستغرب كيف تشتم النزاهة وكيف تكره الأخلاق؟ في مراهقتي حين كنت أحب بنتا ما كنت أتخيلها مصرية وأتخيل أني أمشي معها على كوبري عباس أو ميدان التحرير أو كورنيش النيل، لا في شارع البريد برام الله، او في المصيون، ارتبط جمال الاحساس بالحب عندي بأمكنة مصر وجسورها، حتى طيبة الناس وشجاعتهم وانكساراتهم وأفراحهم، ارتبطت عندي بشخوص أفلام مصر ومسلسلاتها ورواياتها، تمنيت أن أكون محمود ياسين أو نور الشريف، لأغوي البنات بوسامتي وخفة ظلي، ولأضحي بحياتي من أجل سعادة محبوبتي، ولأتحدى رفض أبيها لعلاقتي مع ابنته، أحاسيس قلبي النبيلة والانسانية كانت بهوية مصرية، وبلهجة مصرية، مخلوطة بتفاصيل حياة ثقافية وشعبية مصرية من الفطير المشلتت في قرى صعيد مصر الى الكوشري في حواريها الى، (قصص من بلاد الفقراء) ليوسف القعيد معبودي الأول في عالم الكتابة.
حلمت مرة أن يكون أبي (سي السيد) في ثلاثية محفوظ، وأن أكون بطل روايته (السراب)، ذلك الضائع في مهب الوسواس، والماضي المريض، وأن أكون ميخائيل في رواية (رامة والتنين) لادوار الخراط. لم يكن فيلم الجمعة في تلفاز (اسرائيل) مجرد فيلم سينمائي، كان حياة كاملة، أعيشها بملح دمي ورمشات لحمي، كنت أكمل قصة الفيلم في مخيلتي وأعيش تفاصيلها المضافة من مخاوفي وأشواقي، كانت حياتي تبدو للأسرة والأصحاب والمدرسين مشوشة مضطربة مختلطة. حين ينتهي الفيلم كنت أشعر ببرد شديد في مفاصلي، فغدا السبت وهناك مدرسة مملة بست حصص وواجبات ثقيلة وعصا الاستاذ شفيق تنتظر راحتي يدي، أتذكر (ليالي الحلمية)، المسلسل الذي حلمت أن أكون أحد شخوصه، أحد حوارييه، أحد أشراره، أحد بسطائه. حلمت أن أكون ابن المرأة الطيبة التي تسيل براءة وشفافية، كريمة مختار في (العيال كبرت،) وصديق فريد شوقي في فيلم (بداية ونهاية) حين وقف حائرا أمام، مصير أخته التي اضطرت لبيع جسدها حفاظا على بقاء الأسرة، وزميل سعد زغلول في كفاحه ضد الاستعمار، وصديق أمل دنقل أحد أدباء جيل الستينيات في مصر، جيل الرفض و الحداثة والخروج عن الموجود. لا تتوقف مصر عن ان تكونني ولا اعرف كيف لا أكونها، فهي جذور النشأة الثقافية والبدايات العاطفية وهي اول إحساس بعروبتي ووطنيتي، وأظن أن هذا هو احساس كل الشباب العربي، هكذا نحن العرب نولد مصريين ثم نصبح جزائريين وفلسطينيين وسوريين وعراقيين الخ ------.
نحبك مصر فيلما ولهجة وصعيدا وعشقا وتاريخا وكتابا وثورة؟

أكان يجب أن أحترق حتى تروا ناري؟ سامحنا يا محمد البوعزيزي.

كنت أريد أن أكتب رسالة حب إلى تونس، وتذكرت فجأةً رسالة حبي إلى بغداد. أعرف أنني سأكتب رسالة حب إلى بلاد عربية أخرى، كان المفروض أن يكون عنوان هذا النص هو رسالة حب إلى تونس، كتبت الحرف الأول من النص (ر) وفجأةً قفز من الحرف وجه غاضب وجميل نصف محروق، هو وجه محمد البوعزيزي: صرخ في وجهي: لماذا الآن يا مثقف يا عربي؟ أكان يجب أن أموت حتى تكتب عني، لماذا لم تكتب عني وأنا أجوع وأمرض وأخاف وأصفع على وجهي أمام الناس، وأتسول، وأهرب، وأهان... لم أستطع أن أكمل الرسالة، لم أكتب حرفاً ثانياً، غيرت المضمون فوراً، وهأنذا أكتب.

وأخيراً حصل ما توقعته، تخليت عن مشاهدة صور انتفاضة تونس لأراقب بتعب ردة فعل المثقف العربي، كنت أتوقع هذا السيل العرمرم من مقالات الإشادة بشجاعة وبطولات الشعب التونسي ضد أردأ الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، تصفحت زوايا المثقفين والصفحات الثقافية في الصحف العربية، تجولت في عشرات مواقع الأدب والثقافة الإلكترونية ولم أجد سوى ما كنت عرفت أنني سأجده، بلاغة بلاغة بلاغة، شعر كثير وحماسة، بكاء، ورثاء، وكأن قدر هذا المثقف هو الغيرة من زملائه والثرثرة في البارات والكتابة، لا نزول إلى الشارع، لا تورط إنسانياً مطلوب مع هموم الناس، لا مشاركة ميدانية في الفعل، لا تحريض على الوعي، لا رفض لإغراءات أنظمة البلاد.

في عهد الاستبداد (البنعلي) تعامل مثقفون عرب كثر مع النظام، سكتوا عن جرائمه بحق المثقف والعامل والمواطن والمرأة والاقتصاد والكرامة الوطنية التونسية، بل وأشادوا به، ومدحوا علمانيته (الكاذبة) وتصديه لإرهاب الأصوليين الإسلاميين، (ذريعته الجاهزة لخنق حرية الناس والسيطرة على البلاد إلى الأبد) ودعمه لنضال شعب فلسطين، واستضافته مقاتلي الثورة بعد بيروت، الآن نقرأ لأولئك المثقفين العرب أنفسهم المقالات والقصائد والبيانات تضامناً مع انتفاضة شعب تونس ضد الاستبداد، كيف نفهم هذا النفاق؟

هل الكتابة هي فقط أن نكتب؟ أليست هي رؤيةً حيّةً على الأرض وممارسات إنسانيةً وهويةً جسديةً، ومواقف تضامنيةً فعليةً مع المهمّش والمقموع من إنسان وأفكار... ومع كل هذا الظلام في حياة المثقف العربي؟ ثمة تجارب حب مضيئة نفذها أدباء عرب، يحق لي الآن بفخر مقهور وحزين أن أتذكر تجربة تيسير سبول وخليل حاوي، في التضامن مع آلام الأمة انتحاراً، الشاعرين العربيين اللذين انتحرا احتجاجاً على هزيمتي 82 و67. اكتشف الشاعران الجميلان أن الكتابة أمام هذا الذبح الصريح لكرامة الأمة فعل فاضح الشلل وناقص الجمال، وفادح الخسارة فلم يجدا سوى الموت حلاً، فعلى الأقل سيعفيهما الموت الصغير العادي من التفرج على الموت المروع الكبير، أتذكر باحترام وإعجاب تجربة الروائي الياباني (ميشيما) الذي انتحر بطريقة الساموراي احتجاجاً على ضياع وهزيمة قيم بلاده الأصيلة أمام قيم الغرب الوافدة.

ثمة مثقفون ينتحرون، أيضاً، لا عزلةً أو خوفاً أو جبناً أو غباءً بل احتجاجاً وقتالاً وقهراً وانتماءً لنبض الهواء وصدقاً مجنوناً والتصاقاً حميماً بجلد البلاد، لنمنح هؤلاء حبنا المبالغ فيه إذن، ولنحيي أرواحهم الشريفة التي قاتلت بموتها استبداد الطغاة؛ حفاظاً على بياض أيام ستأتي لأطفال البلاد، يا محمد البوعزيزي، سامحنا لأننا لم نكن هناك لنصفع الشرطية القبيحة التي صفعتك، ولنجرجر جسد رئيس البلدية الذي طردك، وتجاهلك في شوارع الفقراء، سامحنا لأننا رأيناك فقط حين رأينا ألسنة النار وهي تنهب جمال وجودك؟ كم هو محير سؤالك يا صديقي: أكان يجب أن أحترق حتى تروا ناري؟ على شاعر عربي غاضب ما أن يحرق نفسه، ليثبت قدرة الكلمات على إشعال الكلام. وليطفئ بناره نار الصمت وعار المثقف

عندما يغطي شوك القلب فرو الذاكرة/ ثريا وقاص


قراءة نصية لـ"شتاء في قميص رجل" لزياد خدّاش
الأستاذة ثريا وقاص
*

القصة وكاتبها
"شتاء في قلب رجل" هي أول قصة تفتتح مجموعة الكاتب الفلسطيني زياد خدّاش القصصية والمعنونة بـ"خذيني إلى موتي"، المجموعة نشرت سنة 2005 وصدرت عن دار الماجد برام الله، فلسطين.

زياد خدّاش من الكتاب الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين مع ذلك الإحساس المهول بالاجتثاث القسري من فضاءاتهم الحميمة ليعرفوا تجربة الاحتلال الإسرائيلي المباشر وتجربة المخيمات وفجائع الحياة على هامش الحياة. وسيقول عن نفسه وفي بوح موجع إنه عبارة عن روح شفافة تعيش على جناح التوتر والقلق الدائمين، روح اقتلعت من أرضها البعيدة لتعيش في مكان طارئ وغريب.

فضاء التلفظ وتردد الذات الساردة
هذه المقدمة الصغيرة عن الكاتب قد تكون، أيضاً، توطئةً لولوج فضاء القصة، هذا الفضاء الذي يكاد يكون المحور الأساسي فيها، فالنص يبدأ بتساؤل الراوي وإحساسه المشوش وغير الواضح بالمكان "مكان غريب، كأني أعرفه، هل أعرفه؟" (ص.5)
المكان الغريب والذي يتردد الراوي بشأنه وصف على الرغم من ذلك بشكل دقيق وشامل كما هو واضح في المقطع التالي "ماسورة ماء ضخمة، ترتفع عن الأرض مترين، تمتد من جبل إلى جبل، بينهما واد سحيق. هذا مكان غريب، كأني أعرفه، هل أعرفه؟ بقايا نفق مطمور حدائق عشب ناعم وشوك أصفر وأخضر، شجر زيتون على سفح الجبل، بركة ماء قذرة، في الوادي شجرتا سرو ضخمتان ونوع آخر من الشجر لا أعرف نوعه، صخور كثيرة، دغل خفيف، البيوت طارئة على أطراف المكان، الـمستوطنة التي على جبل لـم تكن موجودة من قبل، إنه اليوم الأول في هذه المدرسة الجديدة"(ص.5)
في هذا الوصف، نلاحظ أن حاسة النظر وحدها تلامس المكان وتقدمه إلى القارئ كمكان جديد يطَؤه الراوي لأول مرة حين جاء ليستلم عمله كمدرس في هذه المدرسة الجديدة، ولكن الذاكرة تزاحم النظر، فتتحدث عن بيوت طارئة وعن مستوطنة لم تكن موجودة، إذ كيف يمكن استنتاج ذلك بعين ترى المكان لأول مرة؟.
ولعل هذا التردد الذي يصاحب الراوي ويصاحب النص منذ الأسطر الأولى، ما كان ليستقر لولا غياب إدراك بقية الحواس الأخرى، فها هي ذي الذات الساردة تصرّح بأن ثمة نداءات خفية، نداءات ستفهم لو التحمت بالمكان، فتعلن أن "هناك ينبغي أن أتواجد صباح كل يوم، أنيق الملابس، محتشم المخيلة والنظرات والروح، مطلاً من نوافذ الصفوف على روائح وأصوات غامضة كأنها تعرفني، روائح الماء الآسن في البركة والتراب الذي يفقد عقله تحت قطرات المطر الأولى، صوت الماء وهو يهدر في الماسورة الضخمة" (ص.6)
هذا الـ "ينبغي أن أتواجد" يضع المقطع كله على مستوى الرغبة والأمل وكأن تحقيق ذلك لا يزال بعيداً على الرغم من علمنا بوجود الراوي الفعلي في المكان ذاته وعلى الرغم من نوافذ قسم المدرسة الواسعة والتي تطل عليه، فما الذي يبطل وظائف الحواس الأخرى الآن إذن؟ هل هو اختراق الذاكرة أم هو شرود الأحاسيس كما يقول النص نفسه؟ "وأنا ساكت، مخترق الذاكرة، شريد الأحاسيس" (ص.6)
ثم كيف يمكن تفعيل الذاكرة في هذا النص؟

رأينا أن النظر لا يزال متردداً بين المعرفة وعدمها وأن الحواس الأخرى لا تزال غافيةً تحت التمني، ولكن الفضاء في المقابل كان يجيش بالذكريات، فكيف له أن يحس بها أو بعبارة أخرى، كيف يمكن له الإمساك بها؟
عليه وببساطة أن يتسلل إلى الذات ليوقف وعيها للحظات حتى يتسنى لهذه الأخيرة أن تستعيد عملية التذكر، وهذا ما حصل للراوي عندما أحس بأنه يتنفس بصعوبة فيقترب من النافذة وسط عيون طلبته المستغربة ويحدق إلى هذا الفضاء المترائي له وراء الزجاج إلى أن يصاب بدوار فيفقد وعيه (ص.7) وعندما سيستعيد وعيه سيصحو على ضجة روحية هائلة فيهرب من عيون الطلبة إلى المكتبة وهناك سيقفل وراءه الباب ويدع النافذة تهرع إلى عينيه، بمعنى يدع المكان يأتي إليه، ليبدأ الحكي "الأمكنة نفسها، من زاوية أخرى، هنا، هنا بالضبط بجانب سور المدرسة كنت أمشي معها ومعه، إلى تلك التلة العالية، في أصياف بعيدة، حرة ومجنونة، طفلان في العاشرة من عمرنا، بنت حلوة في الحادية عشرة"(ص.7)

الطفولة وتشوك الذات
والحكي لا بد له أن يبدأ بالطفولة..
محكيات الطفولة في تأثيث فضاءات الذكريات هي المنطلق لها غالباً خاصة في محكيات السير الذاتية الحقيقية أو التخييلية لأن الطفولة تعتبر دائماً قاعدة الحكي وبدايته كما هي بداية الحياة.
وفترة الطفولة تسرد في معظم الأحيان كزمن جميل مليء عفوية ولهواً وسعادةً بحياة تمر كلمسة يد حنون والنص في بداية التذكر سيقدم لنا محكياً مشابهاً ونمطياً لما ذكرت "نأتي هنا في عطلات المدارس، نتسلق الشجر، نرمي بعضنا البعض بالحصى والثمار، نصعد على الماسورة ونترك أجسادنا تسحل وحدها حتى نصل آخر الوادي، كنا نصيح والريح تصيح معنا، نسبح في البركة القذرة، نصعد التلة، ونلهث نلهث نلهث، اسمي زياد، اسمه سامر، اسمها هيفاء"(ص.7)
يتبين لنا من خلال هذا المقطع أن كل شيء يوحي بتذكر طفولة مفتوحة على مناظر شاسعة وروائح من بهجة وعلى صداقة سرية وحب يتفتح على أراجيح من منافسة وغيرة، وصديقة مبهمة توزع ابتساماتها بين الصديقين كما توزع مسافات اللعب معهما.

والطفولة تعتبر فوق هذا كله عبوراً مهماً في تعلم الحياة خاصة وأنها، كما قلنا، حقبة طافحة بالحنان والحنين، حقبة تمد بظلالها على حاضر محبط ومخيب لأكثر من انتظار ولهذا فهي الزمن المحبب للحفر وللفهم وسنلاحظ أن حفر الطفولة في "شتاء في قميص رجل" كان الحفر الذي أنبت شوكاً مكان شعر الطفل ذي السنوات العشر، وشوكاً في قلب الراوي البالغ الذي يعاود التذكر بكثير من الألم؛ "شعرك حقل شوك" قالت له ذات يوم حبيبته الصغيرة هيفاء التي لامست شعر صديق طفولته سامر الناعم بنظرة غريبة ونظرت إلى شعره هو بألم كما حكى "ثم حولت نظرها إلي مبتسمة ومتألمة وقالت فيما يشبه العتاب؛ أما أنت يا زياد فلا أحب أن ألمس شعرك لأنه يشبه دخولي حافية القدمين في حقل شوك هاهاهاها" .(ص.8)
"حقل الشوك" هذا سيحفر في الذاكرة مساحة للنسيان خاصة أن الراوي سيتوقف عن مشط شعره زمناً طويلاً خوفاً من إدماء أصابعه وسيتركه ينمو، كما أنه سيهرب حتى إلى الجبل خوفاً من أسرته التي تحاول حلق هذا الشعر له.
وسنلاحظ أن الراوي قد عاش مع ثقل الشوك وتداعياته حتى بعد معافاته قليلاً من هلعه المرضي والمهووس منه ذاك؛ لأن الشوك لا يمكن التخلص منه بسهولة، "منذ تلك الظهيرة وأنا أتحسس حقل الشوك فوق رأسي وأقترب كثيراً من البكاء، ما زلت حتى اليوم أتردد كثيراً في تمشيطه خوفاً من جراح قد تصيب أصابع يدي" (ص.8)

الشوك ورموزه
والشوك فوق ذلك هو رمز الحياة دون حياة أو بعبارة أصح رمز الحياة على الهامش لأنه نبات الهجران والنسيان، ولكنه يستطيع أن يرمز أيضاً إلى الأرض البور، أرض لا تعرف لا ثقافة الزراعة ولا حدود مصطنعة، إنه نبات الحرية ونبات الصدفة والفطرة والطبيعة المتمردة على نسيان البشر.
وهو حين يحضر لحظة التذكر في النص فكأنه يدعو إلى معانقة الأرض من جديد في محاولة مصالحة مع ماض مجتث من جذوره ولعل ابتسامة الطفلة، تلميذته، التي لا تكف عن التبسم والحانية عليه في لحظة إغمائه مسعفة إياه بكوب ماء ستكون رمز العودة إلى الحياة الحقيقية وإلى المكان الذي اتضح الآن أنه مكان مألوف بالفعل فأجاب عن تساؤلات الشك في بداية النص (هل أعرفه؟) والسفر الذي جاء به صدفة إلى المكان وأعاده إلى الذكرى يكاد يكون دعوة لنية غير مقصودة للسفر في رحاب النفس أو لانتظارها في مكان القلب من ناحية كما أنه ذهاب نحو الآخر/ الطبيعة حتى يتمكن من اكتشاف ذاته من خلالها وفهم هروبه وهروب الذاكرة لزمن طويل من ناحية أخرى.
ونستطيع التأكيد هنا أن هذا المكان هو مكان الطفولة بحق سواء تعلق الأمر بطفولة الذكرى يوم كان الراوي يجوبه برفقة صديقته وصديقه وهم أطفال أم بطفولة تلاميذه زمن السرد والتلفظ فهو إذن يعبر في الوقت نفسه عن سراب بخصوص الماضي وعن أمل في طفولة تلاميذه الضاحكة والمبتسمة على الدوام بخصوص المستقبل أما الشوك، هذا النبات الحر و المكتفي بذاته (إذ لا يحتاج لا سقياً ولا عنايةً) فهو يعني أيضاً التحرر من الوقت لأن الشوك يقاوم كل أشكال الصيرورة الزمنية ويمنعها وذلك بانتشاره كنسيان في أماكن الحياة وأماكن النبات؛ هذا النبات الذي يتغير حسب الفصول ودورانها بينما هو، أي الشوك، لا يتغير كثيراً ولا يعرف الفصول، وفي النص نلاحظ أنه فوق ذلك يقتحم حتى أماكن التذكر والذاكرة مثل الرأس... أفليس الشعر فرواً حقيقياً يغطي مركز الذاكرة؟ وحين يصبح هذا الشعر حقل شوك ألا يغطي هذا الشوك بشكل ما ولو رمزياً مكان الذاكرة؟

الفراق والاحتلال كتأصيلين للنص والذاكرة
وإذا عدنا قليلاً إلى مشهد النص الأول الذي هو الفراق والذي يبدو ساكناً لنصوص خدّاش، فسنرى أنه لا يفتتح النص والحكي فحسب وذلك بسرد حادثة ترك الراوي لحياة سابقة (حياة نستنتجها فقط لأن النص لا يقول عنها شيئاً) ليبدأ أخرى كمدرس جديد بل هو سيعيده إلى مشهد الفراق الأول و"الأصلي" مع هيفاء والذي شكل نواة الذاكرة والحياة وأدى إلى اكتشاف تصدعات الروح وجرافات الاحتلال الإسرائيلي في بلدة تقع على سفح جبل بدأت تقتات منه إسرائيل حتى ضاع كما ضاعت ورقة هيفاء التي وضعتها هناك آخر يوم يراها فيه السارد، هذا اليوم الذي تزامن مع وصول المحتل.
على هذه الورقة الضائعة كانت الفتاة الصغيرة قد كتبت اسم الذي اختاره قلبها بينه وبين صديقه وبضياعها سيبدأ عالم الشوك ينمو، لا يقينياً وجارفاً لكل مظاهر الحياة؛ "ستأتي جرافات ضخمة، تحفر أساسيات مستوطنة إسرائيلية، سنراقب من بعيد الجرافات، وهي تحفر في جلودنا، كارثة اسمها ضياع ورقة هيفاء، أهالينا يتحسرون على الجبل المسروق ونحن نتحسر على ورقة صغيرة" (ص.10)
ولكن هل ورقة الطفلة الضائعة تلك، حيث سر القلب، كانت ستنقذه فعلاً من اجتياح حقل الشوك لرأسه؟
ثم أرى نرى في هذا السفر نفسه إلى بلد التعرجات المفتقدة ونتوءات النفس شكلاً من الاستعادة الأولى لوعي امتصه اللاوعي وخزنه بإصرار داخله كشوك يحاصر النبات فيحد من انتشار الحياة أو كاحتلال يحاصر النفس فيحد من حريتها ومن انطلاقتها؟
السفر في الأمكنة عند خدّاش يرافقه سفر في داخل النفس كما قلنا وما الإغماء الذي هو نفي العالم وغياب عنه إلا نفي النفي أو نوع من هروب إما نحو العودة وإما نحو الإقرار بشيء ما.
أما النظر والإدراك فقد أتاحا اللقاء من جديد مع الطبيعة والطفولة من جهة ومن جهة أخرى كانا الوسيلتين الأكثر رسوخاً في محاولة تركيب الذكرى وتركيب العالم الذي بدا أولاً جامداً ليصبح بعد ذلك ديناميكياً في تغيراته ومساره نحو قدره وميلاد حاجة الانطلاق ومواصلة رحلة البحث على الرغم من الشوك الذي ينمو ليدمي الأصابع والعين ويقلق حتى القارئ بعض الشيء.

الصدفة والذات
وإذن فالفراق أو الابتعاد ليس سوى عملية تقرب شيئين أساسيين هما الصدفة والذات.
أقول الصدفة لا عقد النية لأنها وكما لاحظت في عوالم قصص خدّاش تلعب دوراً محورياً في معانقة الرغبة والنص والذكرى وربما أيضاً في معانقة الأمل في حياة أخرى دون تعريف ودون جذور والتي تحضن فيها الحياة هوامشها وأشواكها.
والسفر في موطن التذكر كان محاولة لتحرير النظر أولاً ثم لتجاوز الحياة السلبية والناقصة التي يعيشها الراوي في حاضره زمن التلفظ، للوصول إلى مواقع التصدع في طفولة تشوكت مبكراً بسخرية فتاة وجرافة احتلال وهكذا نستطيع القول إن الفضاء المنظور إليه هو الذي عاود الإمساك بالطفولة، تماماً مثل الشوك الذي ليس في حد ذاته إلا محاولة الطبيعة للإمساك ببقايا حياة لتنطلق منها حياة أخرى، حياة أكثر ضحكاً وإنسانيةً وأملاً.
وبعث الطفولة ثم بعث هيفاء في ابنتها قد يكونان بداية تحرر من تصدع قديم فينبثق حقل الشوك الرمزي كشيء متعالٍ؛ ألم ينبت في النص على أعلى طرف في الإنسان، رأسه؟ ونكاد نرى هنا صراعاً وجودياً ضد فقدان الذاكرة وضد سراب نفسي عميق يعيد السارد إلى حكيه كما يفعل مسافر مليء بالتنبؤات حين يخطو نحو عالم مدرك ومعرف ومشكل للقلب وللهوية.
وهذه الصورة قد تبدو هشة ولكنها منبعثة من عمق الذاكرة ومن خلال هذا الابتعاد الأول والسير نحو حضور مكاني مقتحم ومحسوس ومتجذر وإن كان غير مدرك ولا معقلن في البداية. ولكن سنلاحظ أن مواصلة الاستحضار ومواصلة السير دائماً وأبداً سيحدان من الفرار الذي لم يكن إلا وقفاً للذاكرة وللحاضر أيضاً.
والشوك الشبيه بالمعرفة غير المحدودة والذي يجذب الراوي يترجم ولا شك في رغبته في الخروج من عقم التاريخ ومن الحياة التي تكرر نفسها في قوالب جاهزة تحد من الحرية والخيال.

الشوك ومصالحة الحياة
ولكن كيف للشوك أن يحقق هذا التمازج الغريب للزمن والفضاء، للآن والماضي، للهنا والهناك، وللذكرى والمستقبل؟
الشوك يرمز دون شك إلى هذه الحياة العذراء المتوحشة والتي تنمو بعيداً عن تكنولوجيا البنايات المتوالدة كالفطر وبعيداً عن جرافات الاحتلال التي تقتلع الهوية عن أمكنتها.
والملاحظ أن المسألة هنا في النص ليست بمسألة قتل الوقت أو إلغائه وإنما هي فقط مسألة تمديده، وما الماضي إلا نظرة هيفاء الأولى المتألمة الذي يلتقي بمستقبل نظرة ابنتها المبتسمة والمحبة للمكان ("أستاذي أنا أحب هذا الوادي كثيراً، أمي كانت تلعب هنا، حدثتني عن النفق والشجر والبركة والماسورة والجبل والورقة وسامر وآخر نسيت اسمه، يحمل على رأسه حقل شوك"(ص.10)) ليصنعا معاً حاضراً حيث يلتقي الحلم والحياة التي تمر كذكرى أو كتأزم ويلتقي الزمن المختزل والمتحول إلى فصول دورانية تعيد نفسها في حركات دائرية وإعادات وفي رغبة في خلق حياة تتوه من غير هدى وتتحدى، كما الشوك يتحدى، الخراب والهجر وجدران الاحتلال والجرافات والإقصاء وتجمد الزمن.
وكلام الصغيرة سيصعق الراوي بحديثها ذاك فيهرب بيدين تقطران دماً والإشارة هنا إلى هاتين اليدين الداميتين تبين لنا حقيقة محورية ومهمةً فكأنما الراوي قد تجرأ أخيراً على لمس حقل الشوك فوق رأسه وإزاحته عن ذاكرة النسيان ليبدأ الإحساس الحقيقي والوعي الحقيقي بفظاعة ما حدث للمكان، للجبل ولكل ما تحبه الصغيرة كاستمرار لحب أمها وبلدتها، فيبدأ الألم والرعب اللذان ظلا محبوسين ومقموعين كل هذه السنين؛ "مصعوقاً أهرب من قاعة المكتبة يداي تقطران دماً، الصغيرة ما زالت تبتسم" (ص.10)
وهكذا وبعد سنين من الهروب من المواجهة وبعد سنين من تربية شوك النسيان مخافة التألم والجرح، جاءت ابتسامة المستقبل لتجبر السارد على مصالحة الماضي والذات على الرغم من كل ما قد يسيل هذا من دماء الألم فيخرج من قاعة المكتبة، مكان اختبائه من اقتحام نظرات الطلبة، نظرات المستقبل، هذه المكتبة التي قد نرى فيها وربما تعسفاً، موطن النسيان والسلوى؛ أليست فضاء الكتب وفضاء الكتابة، التي تعتبر من بعض وجهات النظر عالماً مغايراً للواقع، هذه الكتابة التي يبدو أنها كانت متعالية وغائية هي الأخرى عن الحياة، فأرادت في نهاية النص الخروج إليها بعد صعقتها الأخيرة أمام إرادة الطفلة المتمسكة بالحياة وبكل ما يمثلها من أودية المنبت ومن أمكنة الجذور؟.


* كلية الآداب الجديدة، المغرب



مراجع
ــ زياد خدّاش، "خذيني إلى موتي"، الماجد، رام الله، فلسطين، 2005
- Calame, Claude " pour une sémiotique de l’énonciation : discours et sujet " in Costantini et Darrault- Harris .(1996) Sémiotique. Phénoménologie. Discours. L’Harmattan
- Chalonge, Florence de. (1996) " Le corps et la place " in Costantini et Barrault Harris. –Dir. Sémiotique. Phénoménologie Discours .L’Harmattan
- Communication, Le Sens du regard, no 75, année 2004, Seuil
- Coquet, Jean- Claude. (1997) La quête du sens. P.U.F.
- Fontanille, Jacques. (1999) Sémiotique et littérature. Essai de méthode. PUF.
- Landowski, Eric. (1997) Présences de l’autre .PUF.
- Sémiotiques. (1993), 4. Logiques spatiales (Régis, Luc -dir)

كل شيء يثمل في( لوين) حتى الحقائق

ليلة لا تشبه ليلةً أخرى، من المحظور أن تشبه، بل من العار. لو فكرت بلونها سأمنحها الزرقة على الفور، فحيثما وجدت الزرقة؛ وجدت حيوية الإنسان وطاقته ومركزه وماؤه وسطع معناه. هي ليست ليلة حساب أو ندب أو احتفال أو مديح أو ذم للذكريات، ليست ليلة مفترق طرق أو بداية ونهاية لعادات، ببساطة هي ليلة تشبه الهدية المعطاة بسخاء من طرف غامض لاستمتاع مدهش بالتفكك والانفصال عن الذات والجسد والماضي والمستقبل، والتأمل والتحلل والانفلات، من كل ما يربط أو يقيد أو يشوش. هذه ليست دعوة إلى انحلال أخلاقي، العكس هو المقصود تماماً، فهي نداء لسياق آخر من الأخلاق، لوجه آخر من الكرم، هي دعوة إلى وفاء نادر وغير مفهوم للحياة. تكريم مجنون لها فهي ليست فقط قماطاً لأطفال، وشخيراً ليلياً وحبال غسيل، إنها التدمير البهي والخدش الفاضح ونزعة التخريب الساحرة، نظلم الحياة إن نحن كنا مطيعين لما اتفقنا على كونه أخلاقاً أو معياراً للحب والنبل، هل هناك أنبل من رجل جميل وحزين يتبول في شارع عام محتجاً أو محتفلاً؟ فحسب ما اتفق عليه هذا الرجل غير مؤدب، فهو يجرح مشاعر المارة، لكننا لو عرفنا قصة الرجل وجمال جراحه أو فرحه، لقلنا له بول على أكتافنا يا هذا، لكننا لا نعرف ولا نريد أن نعرف، نحتاج فقط إلى أن ننفصل عن دبق المعيار ولو قليلاً لنحدق في عيون الحكاية، أعرف كيف سيبدو هذا الكلام للكثيرين: متعالماً ومتحذلقاً واستعراضياً وفارغاً، لكنني لا أراه كذلك؛ لأن كنزي الفخم (مخيلتي) سيعينني على تخيّل رجال فاضلين كثيرين يبولون في بناطيلهم أثناء خوف ما، ما الفرق بين الخوف أو الجرح أو الفرح الجارف؟ ليست المشكلة في التبويل، فالكل يبول، لكنها في مكان التبويل، من حدد المكان وأعطاه شرعية ما؟ من سحب من الشارع شرعية التبويل فيه؟ هنا مركز القصة ودلالتها؟.ليلة (سافلة) بالمعنى الإنساني والجمالي للسفالة لا الأخلاقي، مختلطة، فيها شيء من كل شيء، من الجسد المكسور: الذكريات الداكنة، الغضب المحروق، الحب المخبوء، الندم الساكت، الهيام المحتدم ومن الله المنتظر، لا أنكسر سوى في ثلاث ليال، ليلة عام جديد أو حب جديد، أو نص جديد، انكسار يشبه الاستسلام السعيد النهائي الطوعي المفتوح بجمال سمح على احتمالات طيران أو حرب، في هذه الليلة الثمينة ثمة كتاب ينبغي تمزيقه، سور يجب هدمه أو محرم من السمو أن نرتكبه، أو شرف ما من المثير هتكه، مؤخرة ضخمة من الممتع ركلها، أو حديقة مطمئنة من الأناقة تخريبها، امرأة لا تصدق، من اللذيذ أن نتسبب في بكائها وتتسبب هي في بكائنا، كم هو رائع أن نخرج من البيوت بعرامة مراهق، ونصفق الأبواب خلفنا بغزارة مختل، متدفقين إلى الشوارع والحانات أو أطراف المدن (مصطحبين الذكريات والزوجات والأولاد إن أمكن) حيث عتمات دسمة ما تربض بثقة غبية بانتظار خدشنا لحيائها، أو رجل (فاضل) ينتظرنا شخيره لنعرقله بصيحاتنا، أو امرأة مرتبة تنتظرنا ستائرها لنهزأ بسُمكها.ليلة من غير الأخلاقي أن تشبه ليلة أخرى، في حانة (لوين)، تجمعنا، كنا أميالاً من الأكاذيب والمخاوف الأحلام والرغبات في التحطم، عيون متوحشة حزينة وعمياء لا تريد أن يدلها أحد على طريق أو باب، أو منعطف، مريح جداً أن نتحطم أمام أعيننا، نسمع وقع حطامنا، نلومه، نتنشقه، نفاجأ به ويفاجأ بنا، نحبه ويكرهنا، نلملمه، بأيدينا ونلعب به ونفض به بكارة السنة العذراء، كم هو سعيد أن نتفكك ونرى أطرافنا وأحاسيسنا تتناثر هنا وهناك. ثم نعود إلى البيت من دونها لنفاجأ بها وقد سبقتنا إلى البيت قاعدةً عند العتبة تنتظر المفتاح الذي نسيته معنا.رقصت حطاماتنا في (لوين)، انفصلنا عنها تماماً، راقبناها وراقبتنا، تبادلنا مع بعضنا البعض أنخاب سافل آخر يمر قاسياً مثل مدير مدرسة أصلع القلب، ولا مبالة قطار يرى أمامه عاشقين عاثري الحظ يرغبان في موت سريع ودام على يد عجلاته، فيعجنهما بسعادة مستثارة. فيعجناه، أيضاً، برغبتهما المصفاة القوية بالموت، لتكن ليلة تخريب واحدة على الأقل في السنة، أكثير على الحياة وعلى أجسادنا وأرواحنا أن نمنحها شمس هذه الليلة اليتيمة؟ كل شيء كان ثملاً هناك حتى الحقائق، كالموت مثلاً أو الرغبة في عدم الإجابة عن سؤال يطارد أنفاسنا كل لحظة: لوين رايحين؟

انتحار

كنت أجلس بجانبها في حافلة، أسير قسوتها الغامضة ورائحة شعرها النفاذة عائداً من جنازة صديق منتحر، ادخن بشراهة، اخبئ ما تبقى من دموع عينيٌ في جيب معطفي، اعيد قراءة رسالة الصديق الأخيرة، أرقب مذهولاً الاشياء والأرصفة والناس وهم ينخطفون بقوة غريبة الى الخلف، كنت اتهيأ الحديث معها، كأن اقول لها مثلاً: أيتها الفاتنة كالإعصار يا الهية الخصور، لم يعد في قلبي متسع للكوارث افتحي شبابيك حياتي مزقي ستائر ظلمتي فقد اختنقت روحي في غرف أيامي المقفلة هل قلت لها ذلك؟ لم اعد اذكر ذلك او لم يعد يهمني ان اعرف، الحافلة تتوقف تبصق راكباً وتبتلع آخر فجأة رأيته يصعد الى الحافلة يتقدم نحوى مبتسماً الهي اليس هذا هو صديقي المنتحر لم اكن في جنازة اذن آه تذكرت الآن كنت برفقة صديقية قديمة قالت لي: انها تود مصارحتي بمشاعر جديدة، جلس صديقي بجانبي وسيماً كعادته قال لي: يقولون ان الطقس سيتحسن غداً وانه لم يعد يثق بهم أبداً أبداً ويفكر جدياً في الهجرة الى بلاد أخرى بعيدة هبطت مع صديقي من الحافلة في الطريق الى صديق آخر توقف قرب شجرة هزيلة عارية أشهر مسدساً صوبه الى رأسه وقال لي قبل أن يفجرها قطعاً متطايرة: لم أعد اطيق آلام قدمي وهي تنحشر في حذائي الضيق

في داخلي يعيش عامل منجم

مدينة أخرى تحت رام الله؟ قبل عدة سنين كانت تسيطر عليّ فكرة وجود مدينة تحت مدينتنا، الآن تسيطر عليّ فكرة الهبوط إلى تلك المدينة، بعد أن حسمت حقيقة وجودها من عدمه. نعم، توجد مدينة تحت أرض رام الله، حفريات شارع ركب أعانتني على الاكتشاف، لا أريد أن أفصح كيف، سأموت وسيموت السر معي، المدينة التحتية بحجم رام الله تقريباً، مدينة ببشر مختلفين عنّا شكلاً وسلالةً وأسلوب حياة. وضاح زقطان سألني بدهشة عن سر دموعي الخفيفة وأنا أتأمل الجرافة وهي تفقأ عيني الشارع وتزيل ركامات الأتربة من أمام المقهى، لم أجبه لكنني سمعته يهمس من وراء ظهري للنادل ولاء: زياد محيّر هذه الأيام، إنه يحلم بمدن تنهض من نومها، وبيوت تتساقط فوق الرؤوس، وتهشم الأفكار وتدمي الأحلام، وغبار يجلس في المقاهي مع الناس ويأكل الحمص في المطعم القريب ويشرب القهوة، ومخلوقات عجيبة الشكل نصفها العلوي بشري والسفلي جذوع شجر.
نعم، أقول للذين شاهدوني، ليلة أمس، وأنا أهبط في حفرة بالقرب من مقهى رام الله، مدخلاًً يدي في أحد شقوقها إنني أحاول باستمرار البحث عن ثقب صغير، في شارع من الشوارع لأفحص إمكانية أن الثقب يسلم إلى طرف ما من أطراف المدينة الأخرى، أمن أجل ذلك أعشق المدن المدمرة، وأبحث في الإنترنت عن مشاهد دمار مدن لندن وباريس وبرلين في الحرب العالمية الثانية، وأخط باستمرار على حيطان بيتي وأسوار مدينتي جملة غسان كنفاني الشهيرة في قصته البديعة (شيء لا يذهب(: “آه يا حبيبتي، لو نستطيع تدمير هذا العالم وبناءه من جديد حسب أهوائنا”. وأعلق لوحة بيكاسو الشهيرة (جورنيكا) على سور حديقتي، وهي القرية الإسبانية التي أباد الألمان معظم سكانها ودمروها عن بكرة جدها وليس أبيها.
وأنا أجلس صباحاً قبل يومين في الزاوية القصية من المقهى سمعت رجلاً يقول لأبي إلياس: أستغرب من نفسي يا أبو الياس لماذا أحب أن يبقى هذا الشارع مدمراً؟ لا أريد أن يردموا الحفر ويعيدوا تعبيد الشارع، أستمتع بمشهد الغبار والدمار والحفر، وأستغرب من ذاتي. نظر الرجل إلى وجهي وطلب مساعدتي في التفسير. لم أعرف بالضبط بماذا أجيبه، ولكنني شعرت بأنه يحثني بطريقة ما لا واعية على مزيد من البحث عن أسرار المدينة التحتية.
يقول الشاعر الفرنسي لوتريامون (1870 ــ 1864) في كتابه الشهير ــ التدميري للغة والرؤيا ــ (أناشيد مالدورور) “إنّه لا يعرف ما هو الحبّ وما هي الصداقة، وهو لم يجدهما قطّ بين الجنس البشري ويتكلم على لسان بطله مالدورور بأنه سوف يكون سعيداً عندما يشاهد على الشاطئ باخرة ركّاب تغرق على مقربة منه في المياه. وهو منذ بداية الأناشيد يعلن أنه سوف يسخّر عبقريته في تجسيد ملذات القساوة، ولا يمجد الشرّ بل يصرّح بكلّ وضوح بأنّ أفكار بطله مالدورور العدوانية والمتعجرفة والهدّامة مزروعة في نفوس كل البشر”.
مدمر العالم الافتراضي، شاتم نفسه ولاعن حظه، والمتمني الغرق لكل سفن العالم والجفاف لبحاره، الظلامي الروح، المنفصل حتى عن ذاكرته، مكتشف بقع الظلام في نفوس البشر والسبّاق إلى النبش في طبيعة الإنسان التمزيقية، هذا هو الرجل الغامض الذي كان يمر في الأزقة الباردة والمعتمة مختبأً داخل معطف وقبعة بعيداً عن شوارع الناس النهارية الآمنة، والذي لطالما أعجبني بخوف ممتع في تدميراته وعزلته ومرضه ورفضه لكل متفق عليه بين البشر، وعدم إيمانه بالبشرية وتشكيكه بقدرتها على البقاء، الرجل لم يطبق أيّاً من آثامه التي مارسها أبطال نصوصه حلماً ورؤيا، كان مخلوقاً غريب الأطوار محيّر التكوين محدودباً هزيلاً، أشعث الشعر، خشن الصوت بارز الصدغين. ثمة مدن مدمرة في نصوص لوتريامون، عمال مناجم لغويون، غبار مضيء، مثل حشرات ليل حالك الشهوة شديدة الاعتزاز بذاتها، كم أحب اللغة الغبارية الهائجة، ذات الرياح المتلاطمة الأهواء، لغة لوتريامون ملأتني بالحماسة لأبحث عن دماري الحبيب هناك تحت الأرض.
“أؤكد لك أنه لا يوجد نار في عيني، مع أني أشعر فيهما بالانطباع نفسه الذي كنت سأحس به فيما لو كانت جمجمتي مغموسة في خوذة من الجمر المتأجّج. كيف تريد للحوم براءتي أن تغلي في الدن، ما دمت لا أسمع سوى صرخات ضعيفة جدّاً ومبهمة، ليست بالنسبة إليّ سوى تأوّهات الريح، التي تمرّ فوق رؤوسنا. إنّه لمن المستحيل أن يكون ثمّة عقرب قد ركّز مقرّه ومشابكه الحادّة في جوف محجري المقطع؛ أعتقد بالأحرى أنها كمَّاشات قوية تجرش الأعصاب البصرية. إلا أنني متّفق معك، على أنّ الدم، الذي يملأ الدن، قد تمّ استخراجه من أوردتي من قبل جلاد لا منظور، أثناء رقاد الليلة الأخيرة .” (النشيد الثالث- المقطع الأول – أناشيد مالدورور).
لوتريامون المجنون الملعون المعذب، كان من سكان المدن التحتية، قاده فضوله إلى فتحة مغلقة بإحكام بقرص فولاذي، في سقف سمائه، وحين قدر على فتح القرص بعيداً عن أعين حراس مدينته، خرج إلى مدن الأرض، وجال في أنحائها مدهوشاً، ولما عرف أنه تورط في الشر والتفاهة والكذب حاول أن يعود إلى مدينته، لكن حراس مدينته كانوا قد أحكموا إغلاق الفتحة بطرق حديثة لم يستطع هو معرفتها، حفر في كل مكان وهبط في الحفر ونادى بأعلى صوته ولم يسمعه أحد، هل يعاقبونه على خيانته؟ أم تراهم ظنوه ميتاً؟.
ثمة عامل منجم داخلي يعيش برفش وقبعة فولاذية وملابس سميكة، أطل برأسه من رأسي قبل أيام بينما كنت أحاور سائق الجرافة حول حجم العمق الذي سيحفرونه، في الشارع، هرب السائق وترك جرافته وراح يحدث الناس عن مخلوق عجيب برأسين، يتجول بالقرب من مقهى رام الله.
سأزور بعد قليل المدينة التحتية تلك، وسيغلق شرطي غاضب الفتحة التي سأحفرها بفأسي في منتصف ليلة قادمة أمام المقهى، سأروي لحراس المدينة التحتية قصة ابنهم الغريب لوتريامون الذي مات مقهوراً بسبب إغلاق القرص، كان يريد فقط زيارة مكان آخر، كان شاعراً من حقه أن يغترب قليلاً ويختبر العالم، ثم يعود إلى أرضه، تماماً مثلي أنا، فقد أغلق العمال والشرطة فتحة الشارع، وشتموا جرذان الأرض البشرية (الأدباء والفنانين المجانين) الذين يتوهمون وجود مدن أخرى تنتظرهم.
الآن أكتب لكم من هناك، من تحت الأرض، عتمة عتمة عتمة... لكني ويا للروعة، أرى كل شيء، سأشتاق (أعرف) بعد قليل إلى صباحات الجمعة والسبت مع وضاح وقهوة ولاء، والزاوية القصية في المقهى، سأصيح بأعلى صوتي، افتحوا لي الباب يا أهل مدينتي، لن يسمعوا، أعرف، أو سيزعمون أنهم لا يسمعون، هكذا نحن: صاعدون وهابطون وما رحلة الكتابة سوى نبيذ وموسيقى هذا الصعود وهذا الهبوط، رغم أنف الأقراص الفولاذية وغضب الشرطة، سنظل نصعد ونهبط، تلك هي حكمة وقانون الكتابة وعبثيتها ولعنتها في آن.

الشعر يزهر في الربيع / روز شوملي مصلح





لم أكن أعرف ماذا ينتظرني في مدرسة أمين الحسيني الحكومية. أعرف أنني سألتقي مجموعة أطفال يمثلون الصف الرابع الأساسي حتى الصف التاسع. المدرسة بالنسبة لي تحتل معنى أكبر من مبنى، وأكثر من معلم وتلاميذ. المدرسة هي العلاقات الداخلية للمدرسة والعلاقات الخارجية التي تجعل المدرسة في حركة داخلية مستمرة، وفي تفاعل لا ينقطع مع المحيط، حيث لكل فرد فيها ما يتعلمه، وما يقدمه ابتداءً من المدير، وانتهاء بالطفل الذي يشكل نواة المدرسة وأساسها.
ينتابني هذا الإحساس القديم الذي ظننت أنني فقدته منذ تركت التدريس. شيء يشبه شغف الخوض في مغامرة والقلق من ولوجها. كيف سيكون اللقاء وماذا علي أن أقول لأطفال ألتقيهم للمرة الأولى خاصة أن الحديث يتعلق بالشعر وليس بمقرر دراسي!.
لم يكن سهلاً أن يحاورك طفل، أكبرهم لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر. علي أن أستجمع قواي وحواسي كاملةً كي أخوض مثل هذه المغامرة التي لم أعرف كيف ستبدأ، ولا كيف ستنتهي.
اهتمام الطلبة واتصالاتهم الهاتفية قبل اللقاء حول معلومات عني وعن كتبي تشير إلى أنني سألتقي مجموعة تنظر إلى الشاعر بتوقعات معينة. "كم كتاباً أصدرت؟" جاء صوت طفل على الهاتف. قلت: أربعة. قال الصوت: "شكراً" وأنهى المكالمة كما لو كان يكتب موضوعاً، وبحاجة إلى كلمة واحدة كي يكتمل.
الطلاب ينتظرون. وجوه صغيرة تنتظر. هل هم قلقون مثلي؟ أم أن الصغير لا يعرف القلق؟ كنت أقلق في عمرهم، خاصة عندما يأتي مدير المدرسة ليعطينا درس الرياضيات. كرهت الرياضيات ولم أتصالح معها إلا بعد أن التحقت بمدرسة أخرى. منذ ذلك اليوم، تعلمت أهمية المعلم وخطورته، وأنه يمكن أن يجعل الممكن مستحيلاً، والمستحيل ممكناً.
رحب بي التلميذ أسامة من الصف السادس، الذي قدمني وهو يقف إلى جانبي مما أتاح لي المجال كي أرى الورقة التي كان يقرأ منها، والتي كتبت بخط يده. كانت خربشاته تلّون بعض الكلمات التي تطل بين سطر وسطر، وتشير إلى أنه صاحب المجهود في وضع كلمة الترحيب والتعريف بي. واضح أنه استخدم الإنترنت ليعرف عني أكثر. قلت في نفسي: "هذا هو التعلم الذاتي، الشعلة الوقادة التي تجعل من عملية التعلم شغفاً وليس واجباً مدرسياً.
بعد كلّ كلام الترحيب الذي سمعته منهم، والذي أخجلني، تحدثت عن إيماني بهم، وبأن في داخل كل واحد منهم شاعراً، المهم ألاّ نتخلى عن الشاعر في داخلنا عندما نكبر. الشاعر بحاجة إلى دهشة الطفل كي يرى الأشياء كأنه يراها للمرة الأولى. تحدثت عن تجربتي مع أطفال في مثل عمرهم، بل أصغر من عمرهم، كيف قرأنا سوياً في فترة الحصار على رام الله في العام 2002، وكيف كتبنا سوياً قصصاً جميلة، نشرت في مجلة (شعراء) مع مقالة لي بعنوان (قصصهم شهادتي) تتحدث عن تجربتي مع الأطفال في الحصار، وكيف ساعدتْهم هذه التجربة، وساعدتني أنا أيضاً لنتجاوز هذا الوضع المقيت الذي وضعنا فيه جميعاً. وكما أومن بأن في قلب كل طفل شاعراً؛ أومن بأن في قلب كل شاعر طفلاً، دائم الدهشة.
كنت في مثل عمرهم عندما اكتشفت اللغة، وأن اللغة قد تشكل أداة للفكرة، والفكرة أداة لنص جميل. تذكرت فترة كنت قد نسيتها، عندما فزت في الصف السادس الابتدائي بأفضل موضوع للمدارس اللوثرية في منطقة بيت لحم. يومها كتبت قصة بعنوان "بطولة امرأة". حدثتهم عن شغفي بالقراءة، وعن سوق عكاظ الأدبي في كلية بيرزيت قبل أن تصبح جامعة. يومها كنت طالبة في المرحلة الثانوية، وكنت في ذلك الوقت أكتب القصيدة العمودية، وكيف تنافست مع أحد زملائي، صلاح صلاح، الذي كان يكتب قصيدة النثر. وفزت في سوق عكاظ بقصيدة عمودية. الآن أكتب قصيدة النثر. ولولا مثل هذه النشاطات ما كان ممكناً أن أصبح شاعرة. وهنا تأتي أهمية هذا النشاط الذي نحن فيه، لأنه يشكل محطة مهمة في تشكيل الشخصية، وتنمية الجانب المبدع لكل منكم.
كانت هذه مقدمتي قبل أن أبدأ معهم بناءً على طلبهم ببعض القراءات الشعرية. بدأت القراءة بقصيدة كتبتها لوالدتي بعنوان "الشال الأزرق". بعدها انهمرت الأسئلة عليّ. سأل التلميذ فهمي زهور من الصف التاسع: "ما المقصود بربطك خيوط الصوف بالصمت؟" أذهلني السؤال، وكان علي العودة إلى النص كي أجيب. الصوف الصامت يحكي حكاية الحنين بين أم وابنتها، فمع كل قطبة تضاف إلى النسيج تتشكل الحكاية. السؤال الذي تلا كان عن اللون الأزرق وغروب الشمس اللذين يظللان المكان والزمان للقصيدة. البحر والسماء يظللاني وأنا أجلس على شاطئ البحر في بيروت، أنظر للبعيد حيث امتداد البحر والشاطئ لفلسطين، والشال الأزرق يظللني. يسأل يزن البرغوثي من الصف التاسع: "ما معنى أن للخيوط لغة؟ فأماثل بين القطبة والحرف، وكما تتحول الحروف إلى كلمات في اللغة، القطب تولد سطراً والأسطر تولد النسيج كما تولد الحروف الكلمات والكلمات الحكاية. ولأن أمي لا تتقن صوغ الكلمات، فهي تصوغها من الخيوط وهي تفكر مع كل قطبة في قصة الفراق والحنين.
سألني أحمد رشيد من الصف التاسع: "هل ما زلت تحتفظين بالشال الأزرق؟" أعادني السؤال إلى صبرا حيث كنت مسؤولة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية هناك. شالي أهديته لمناضلة كان تعمل معي في صبرا اسمها بيسان. وأنا سعيدة أن شالي احتضنها هي الأخرى.
سألني عدي حمدان من الصف التاسع أيضاً: لماذا سميت كتابك "كيف أعبر إليك؟" العنوان توضحه صورة الغلاف. إنه يصور الجدار الذي يمنع التواصل. كيف نعبر إلى من نحب وألف حاجز يعترض الطريق.
أما السؤال الذي لم أنتظره من أطفال في مثل هذا العمر، فهو سؤال إسلام أبو هدبة من الصف الثامن: "هل واجهت صعوبة من الأقارب والمجتمع، كونك امرأة تكتب الشعر؟ طبعاً واجهت صعوبة الاعتراف بي كامرأة شاعرة. على المرأة أن تصدر ثلاثة كتب على الأقل حتى يتم الانتباه إليها. حتى في الندوات الأدبية في بلدتي بيت ساحور، كانت الدعوات تأتي لزوجي على الرغم من كونه يعمل في المجال الطبي. لم ينتبه أحد إليّ كشاعرة مهتمة بالأدب. في الغالب، المجتمع لا يهتم خاصة أن دور المرأة مرتبط بالأسرة، وهذا ينطبق على الأقارب الذين ينظرون بالطريقة نفسها إلى دور المرأة. لكن طبعاً كان لأبي دور مهم كونه كان كاتباً. صحيح أنه لم يشجعني على التخصص في المجال الأدبي، ودفعني باتجاه التخصص العلمي، لكنه كان يهتم بكتاباتي، ويقدّرها.
تكسر الأسئلة قراءة التلميذ عمر الزاغة من الصف الثامن، الذي أهداني نصاً جميلاً قال فيه: "عندما نحب نشعر بأننا بعثنا من جديد في عالم أروع، وأجمل. عندما نحب تتغير خطواتنا، ويتغير تفكيرنا في الأشياء، ويتغير إحساسنا بالأشياء. عندما نحب، نحلم بصوت مسموع، ونبتسم بصوت مسموع، ونشتاق بصوت مسموع. عندما نحب، نتطلع إلى المستقبل الرائع والجميل".
أثّرتْ فيّ كلمات عمر، واستأذنت بقراءة من نص لي أقتطف منه "عندما نبدأ بالحب، نكف عن العزف منفردين، وندرك أن الكون صغير صغير، وأن الترنيمة صلاة جماعة".
الأسئلة تنهمر من جديد. يسأل عبد السلام عداسي من الصف الرابع: "ما هي طقوسك في الكتابة، هل تضيئين الشموع؟" ضحكت. أعجبتني فكرة الشموع، ولكنني لست بحاجة إلى طقوس كي أكتب. الفكرة تأتي من أي شيء. المهم أن تجد الفكرة. أضع الفكرة جانباً، وأنساها. فيما بعد أعود إليها، لتصبح قصيدة. سأل الأستاذ زياد: "هل استيقظت يوماً على قصيدة؟" آه. نعم. أكثر من مرة، ولكن في كل الأحوال الكتابة بحاجة إلى لحظة ارتخاء. قد تكون لحظة الانسياب نحو النوم، أو لحظة العودة من النوم. لكن في كل الأحوال الكتابة الإبداعية بحاجة إلى أن نكون مع أنفسنا.
سألني أحدهم : "من هو هاني الشوملي الذي أهديته القصيدة؟ هل بالإمكان قراءتها؟" قرأت قصيدة هاني ابن أخي الذي غيّبه الموت في حادث مروع في سورية حيث كان يدرس الهندسة. في العادة، أتجنب قراءة هذه القصيدة، لما تتركه من ألم الجرح. لكن، من أجلهم، قرأتها.
سألوني: "هل هناك ما أردت أن تعمليه وندمت أنك لم تعمليه؟" أردت أن أتفرغ للكتابة، لكنني لم أفعل ذلك حتى الآن. منذ بداية العام الجديد، سأقوم بذلك، لذلك استقلت، كي أستفيد مما بقي لي من عمْر. كي لا أندم.

سألني التلميذ أنس معلاّ من الصف السابع:"هل تحفظين شعرك؟" في الحقيقة، لا أحفظ شعري أبداً. هل هي الذاكرة؟ أم أنه موقف من الحفظ؟ على الرغم من أنني كنت دائماً أحفظ الشعر في صغري. أذكر عندما كان يُعيّن أستاذ الأدب العربي عشرة أبيات للحفظ من المعلقة، كنت أحفظ ضعف هذا العدد على الأقل. هل هو العمر؟ لا أدري، ولكنني ما عدت أحفظ الشعر، لكني أتذوقه، أكتبه، وأستمتع بقراءته.
قرأ المبدعون الصغار من كتاباتهم، وأذهلوني. أذهلوني بالمعنى الحقيقي للكلمة. أذهلوني بقدرتهم على التخيل والإبداع، بقدرتهم على نسج قصة بحبكة متينة، بقدرتهم، على طرح الأسئلة النقدية، وقدرتهم على التعلم والاكتشاف.
هنا تكمن أهمية المعلم الذي يجعل من اللغة أداة لعب واكتشاف. وربما هذا ما يفعله بالضبط أستاذ الكتابة الإبداعية الكاتب زياد خداش الذي يحمل في داخله طفلاً مسكوناً بالدهشة، لذا هو في حالة اكتشاف دائمة للغة وتركيباتها ليولد معانيَ جميلةً يتفرد بها نصه. وقد استطاع زياد أن ينقل حالته لتلاميذه، فساعدهم ليكتشفوا ذواتهم، فالتقطوا طرف الخيط. إنهم مبدعون صغار، ينظرون إلى كل ما يرون بطريقة مغايرة. والمفارقة، أن الهدف من المدرسة هو خلق نماذج تتبع قوالب اجتماعية معينة، لكن المعلم المبدع، يستطيع أن يجعل من عملية التعليم عملية تعلم، عملية خلق ذاتي، وشغف يحرك وجدان الطفل ويخلق لديه الإحساس بالفرح ومتعة التحصيل.
انتهى اللقاء. تعلمت منه كثيراً، وزادت قناعاتي بأن داخل كل تلميذ شاعراً صغيراً، وناقداً صغيراً، يبحث في هذا العالم الكبير عن موطئ قدم له.
انتهى اللقاء، ولم ينته. ليس بالنسبة لي، وليس بالنسبة لهم. وليس بالنسبة لأستاذ الكتابة الإبداعية زياد خداش. في صباح اليوم التالي، وأنا أعد نفسي للنزول للعمل، رن الهاتف. أول ما خطر ببالي عملي، لكن صوت طفل جاءني من بعيد: "أنا عمر، قرأت كتابك جميعه، ولكني أحببت قصيدة "لِمَ الخوف" كانت جميلة جداً." في اليوم الثاني اتصل عبد السلام عداسي، وقال: "أنا قرأت كتابك، وأحببت كثيراً "عبر الزجاج المضاعف". فهمت لماذا أحب عمر قصيدة لم الخوف، فهي تتحدث عن أطفال الانتفاضة، أما لماذا أحب عبد السلام قصيدة "عبر الزجاج المضاعف"، فهذا ما حيرني.
اتصل أحد الطلبة يعلمني أن صور اللقاء جاهزة وبإمكاني استلامها على CD. أرسلت تاكسي إلى المدرسة ليحضر الـ CD، وعندما سلمني السائق الظرف، كان فيه الـ CD، وأربع وردات بألوان مختلفة، ورسالة تغطي الصفحة بالكامل ودون وقف أو فواصل تقول "نحبك يا أحلى شاعرة في العالم ونشتاق إليك كثيراً من عمر الى خالتي روز".
في اليوم الثالث، اتصل الأستاذ زياد خداش: الطلاب لا يستطيعون الخروج من اللقاء، هل بالإمكان زيارتك في المكتب بعد أسبوع لتقرئي لهم بعضاً من قصائدك وليكملوا النقاش؟" قلت: للأسف تكون استقالتي فاعلة. قال زياد، أحبوك كثيراً، ويريدون أن يلتقوا بك مجدداً" قلت: في بيتي. فقال: "هل له حديقة؟" قلت لا لكن بيتي في بيت ساحور له حاكورة جميلة. قال زياد: إذن نتركها للربيع، وأضاف: عندما يتم توقيع كتابك الجديد، سوف يأتون.
قلت في نفسي "الشعر يزهر في الربيع، لكنه يبدأ قبل ذلك بكثير".