ننشأ مصريين ثم نصبح ما نحن عليه


حبيبتي مصر: ليس فقط لأنك الوطن الأول، الفيلم الأول، الكتاب الأول، اللهجة الأولى، الحب الأول، الرغبة الأولى، وحلم التمرد والسفر الأولين، ليس لأنك أول الأمكنة التي حلمت بالعيش فيها، ولا أول الاصدقاء الذين رغبت في صداقتهم، ولا لأنك أول الأساطير الإنسانية والوطنية، التي كانت معبودة أبي وهي أسطورة القائد جمال عبد الناصر، ليس بسبب كل ذلك أحبك، بل لأنك مصر، فقط لأنك مصر دون تفاصيل، يكفي أن يلفظ الانسان اسمك لتتفتح أمامه أمداء التاريخ والعالم، أسرارا ومعجزات وبطولات. كانت أسرتنا تبدو وكأنها تمت بصلة قرابة مع أسرة جمال عبد الناصر، كنا نعيش معا في بيت واحد، أبي يحكي لنا بحماسة دافئة وغريبة حكايات أسرة الزعيم الكبير: تحية زوجته وأولاده خالد وعبد الحكيم وحسين وعبد الحميد، وهدى ومنى، جمال يحب الجبنة البيضاء، وتحية زوجة طيبة وعادية تشبه امهاتنا وزوجاتنا، وتخجل من رؤية ضيوف القائد، الأولاد والبنات لا يستغلون كون أبيهم رئيسا للبلاد، فمنى لم تحصل على معدل يمنحها منحة جامعية عليها أن تتعلم اذن على حساب أبيها، الأب العظيم لا يستغل المراسل الذي يعمل لديه في المكتب لأغراض بيتية. أول دروس الشرف والأخلاق والنزاهة علمني اياه أبي هو درس أسرة جمال عبد الناصر، الذي شهدت مخابرات اميركا أن عيبه الاجتماعي الوحيد أنه يدخن، درس بليغ ونظيف قرأه أبي وقرأته معه، بعيدا عن أي مرجعيات او عصبيات وانحيازات دينية، ما أكد لي أن الدين هو الأخلاق، وحين كان شخص ما من الإخوان المسلمين يشتم جمال عبد الناصر كنت أثور وأتوتر، وأستغرب كيف تشتم النزاهة وكيف تكره الأخلاق؟ في مراهقتي حين كنت أحب بنتا ما كنت أتخيلها مصرية وأتخيل أني أمشي معها على كوبري عباس أو ميدان التحرير أو كورنيش النيل، لا في شارع البريد برام الله، او في المصيون، ارتبط جمال الاحساس بالحب عندي بأمكنة مصر وجسورها، حتى طيبة الناس وشجاعتهم وانكساراتهم وأفراحهم، ارتبطت عندي بشخوص أفلام مصر ومسلسلاتها ورواياتها، تمنيت أن أكون محمود ياسين أو نور الشريف، لأغوي البنات بوسامتي وخفة ظلي، ولأضحي بحياتي من أجل سعادة محبوبتي، ولأتحدى رفض أبيها لعلاقتي مع ابنته، أحاسيس قلبي النبيلة والانسانية كانت بهوية مصرية، وبلهجة مصرية، مخلوطة بتفاصيل حياة ثقافية وشعبية مصرية من الفطير المشلتت في قرى صعيد مصر الى الكوشري في حواريها الى، (قصص من بلاد الفقراء) ليوسف القعيد معبودي الأول في عالم الكتابة.
حلمت مرة أن يكون أبي (سي السيد) في ثلاثية محفوظ، وأن أكون بطل روايته (السراب)، ذلك الضائع في مهب الوسواس، والماضي المريض، وأن أكون ميخائيل في رواية (رامة والتنين) لادوار الخراط. لم يكن فيلم الجمعة في تلفاز (اسرائيل) مجرد فيلم سينمائي، كان حياة كاملة، أعيشها بملح دمي ورمشات لحمي، كنت أكمل قصة الفيلم في مخيلتي وأعيش تفاصيلها المضافة من مخاوفي وأشواقي، كانت حياتي تبدو للأسرة والأصحاب والمدرسين مشوشة مضطربة مختلطة. حين ينتهي الفيلم كنت أشعر ببرد شديد في مفاصلي، فغدا السبت وهناك مدرسة مملة بست حصص وواجبات ثقيلة وعصا الاستاذ شفيق تنتظر راحتي يدي، أتذكر (ليالي الحلمية)، المسلسل الذي حلمت أن أكون أحد شخوصه، أحد حوارييه، أحد أشراره، أحد بسطائه. حلمت أن أكون ابن المرأة الطيبة التي تسيل براءة وشفافية، كريمة مختار في (العيال كبرت،) وصديق فريد شوقي في فيلم (بداية ونهاية) حين وقف حائرا أمام، مصير أخته التي اضطرت لبيع جسدها حفاظا على بقاء الأسرة، وزميل سعد زغلول في كفاحه ضد الاستعمار، وصديق أمل دنقل أحد أدباء جيل الستينيات في مصر، جيل الرفض و الحداثة والخروج عن الموجود. لا تتوقف مصر عن ان تكونني ولا اعرف كيف لا أكونها، فهي جذور النشأة الثقافية والبدايات العاطفية وهي اول إحساس بعروبتي ووطنيتي، وأظن أن هذا هو احساس كل الشباب العربي، هكذا نحن العرب نولد مصريين ثم نصبح جزائريين وفلسطينيين وسوريين وعراقيين الخ ------.
نحبك مصر فيلما ولهجة وصعيدا وعشقا وتاريخا وكتابا وثورة؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق