الشعر يزهر في الربيع / روز شوملي مصلح





لم أكن أعرف ماذا ينتظرني في مدرسة أمين الحسيني الحكومية. أعرف أنني سألتقي مجموعة أطفال يمثلون الصف الرابع الأساسي حتى الصف التاسع. المدرسة بالنسبة لي تحتل معنى أكبر من مبنى، وأكثر من معلم وتلاميذ. المدرسة هي العلاقات الداخلية للمدرسة والعلاقات الخارجية التي تجعل المدرسة في حركة داخلية مستمرة، وفي تفاعل لا ينقطع مع المحيط، حيث لكل فرد فيها ما يتعلمه، وما يقدمه ابتداءً من المدير، وانتهاء بالطفل الذي يشكل نواة المدرسة وأساسها.
ينتابني هذا الإحساس القديم الذي ظننت أنني فقدته منذ تركت التدريس. شيء يشبه شغف الخوض في مغامرة والقلق من ولوجها. كيف سيكون اللقاء وماذا علي أن أقول لأطفال ألتقيهم للمرة الأولى خاصة أن الحديث يتعلق بالشعر وليس بمقرر دراسي!.
لم يكن سهلاً أن يحاورك طفل، أكبرهم لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر. علي أن أستجمع قواي وحواسي كاملةً كي أخوض مثل هذه المغامرة التي لم أعرف كيف ستبدأ، ولا كيف ستنتهي.
اهتمام الطلبة واتصالاتهم الهاتفية قبل اللقاء حول معلومات عني وعن كتبي تشير إلى أنني سألتقي مجموعة تنظر إلى الشاعر بتوقعات معينة. "كم كتاباً أصدرت؟" جاء صوت طفل على الهاتف. قلت: أربعة. قال الصوت: "شكراً" وأنهى المكالمة كما لو كان يكتب موضوعاً، وبحاجة إلى كلمة واحدة كي يكتمل.
الطلاب ينتظرون. وجوه صغيرة تنتظر. هل هم قلقون مثلي؟ أم أن الصغير لا يعرف القلق؟ كنت أقلق في عمرهم، خاصة عندما يأتي مدير المدرسة ليعطينا درس الرياضيات. كرهت الرياضيات ولم أتصالح معها إلا بعد أن التحقت بمدرسة أخرى. منذ ذلك اليوم، تعلمت أهمية المعلم وخطورته، وأنه يمكن أن يجعل الممكن مستحيلاً، والمستحيل ممكناً.
رحب بي التلميذ أسامة من الصف السادس، الذي قدمني وهو يقف إلى جانبي مما أتاح لي المجال كي أرى الورقة التي كان يقرأ منها، والتي كتبت بخط يده. كانت خربشاته تلّون بعض الكلمات التي تطل بين سطر وسطر، وتشير إلى أنه صاحب المجهود في وضع كلمة الترحيب والتعريف بي. واضح أنه استخدم الإنترنت ليعرف عني أكثر. قلت في نفسي: "هذا هو التعلم الذاتي، الشعلة الوقادة التي تجعل من عملية التعلم شغفاً وليس واجباً مدرسياً.
بعد كلّ كلام الترحيب الذي سمعته منهم، والذي أخجلني، تحدثت عن إيماني بهم، وبأن في داخل كل واحد منهم شاعراً، المهم ألاّ نتخلى عن الشاعر في داخلنا عندما نكبر. الشاعر بحاجة إلى دهشة الطفل كي يرى الأشياء كأنه يراها للمرة الأولى. تحدثت عن تجربتي مع أطفال في مثل عمرهم، بل أصغر من عمرهم، كيف قرأنا سوياً في فترة الحصار على رام الله في العام 2002، وكيف كتبنا سوياً قصصاً جميلة، نشرت في مجلة (شعراء) مع مقالة لي بعنوان (قصصهم شهادتي) تتحدث عن تجربتي مع الأطفال في الحصار، وكيف ساعدتْهم هذه التجربة، وساعدتني أنا أيضاً لنتجاوز هذا الوضع المقيت الذي وضعنا فيه جميعاً. وكما أومن بأن في قلب كل طفل شاعراً؛ أومن بأن في قلب كل شاعر طفلاً، دائم الدهشة.
كنت في مثل عمرهم عندما اكتشفت اللغة، وأن اللغة قد تشكل أداة للفكرة، والفكرة أداة لنص جميل. تذكرت فترة كنت قد نسيتها، عندما فزت في الصف السادس الابتدائي بأفضل موضوع للمدارس اللوثرية في منطقة بيت لحم. يومها كتبت قصة بعنوان "بطولة امرأة". حدثتهم عن شغفي بالقراءة، وعن سوق عكاظ الأدبي في كلية بيرزيت قبل أن تصبح جامعة. يومها كنت طالبة في المرحلة الثانوية، وكنت في ذلك الوقت أكتب القصيدة العمودية، وكيف تنافست مع أحد زملائي، صلاح صلاح، الذي كان يكتب قصيدة النثر. وفزت في سوق عكاظ بقصيدة عمودية. الآن أكتب قصيدة النثر. ولولا مثل هذه النشاطات ما كان ممكناً أن أصبح شاعرة. وهنا تأتي أهمية هذا النشاط الذي نحن فيه، لأنه يشكل محطة مهمة في تشكيل الشخصية، وتنمية الجانب المبدع لكل منكم.
كانت هذه مقدمتي قبل أن أبدأ معهم بناءً على طلبهم ببعض القراءات الشعرية. بدأت القراءة بقصيدة كتبتها لوالدتي بعنوان "الشال الأزرق". بعدها انهمرت الأسئلة عليّ. سأل التلميذ فهمي زهور من الصف التاسع: "ما المقصود بربطك خيوط الصوف بالصمت؟" أذهلني السؤال، وكان علي العودة إلى النص كي أجيب. الصوف الصامت يحكي حكاية الحنين بين أم وابنتها، فمع كل قطبة تضاف إلى النسيج تتشكل الحكاية. السؤال الذي تلا كان عن اللون الأزرق وغروب الشمس اللذين يظللان المكان والزمان للقصيدة. البحر والسماء يظللاني وأنا أجلس على شاطئ البحر في بيروت، أنظر للبعيد حيث امتداد البحر والشاطئ لفلسطين، والشال الأزرق يظللني. يسأل يزن البرغوثي من الصف التاسع: "ما معنى أن للخيوط لغة؟ فأماثل بين القطبة والحرف، وكما تتحول الحروف إلى كلمات في اللغة، القطب تولد سطراً والأسطر تولد النسيج كما تولد الحروف الكلمات والكلمات الحكاية. ولأن أمي لا تتقن صوغ الكلمات، فهي تصوغها من الخيوط وهي تفكر مع كل قطبة في قصة الفراق والحنين.
سألني أحمد رشيد من الصف التاسع: "هل ما زلت تحتفظين بالشال الأزرق؟" أعادني السؤال إلى صبرا حيث كنت مسؤولة الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية هناك. شالي أهديته لمناضلة كان تعمل معي في صبرا اسمها بيسان. وأنا سعيدة أن شالي احتضنها هي الأخرى.
سألني عدي حمدان من الصف التاسع أيضاً: لماذا سميت كتابك "كيف أعبر إليك؟" العنوان توضحه صورة الغلاف. إنه يصور الجدار الذي يمنع التواصل. كيف نعبر إلى من نحب وألف حاجز يعترض الطريق.
أما السؤال الذي لم أنتظره من أطفال في مثل هذا العمر، فهو سؤال إسلام أبو هدبة من الصف الثامن: "هل واجهت صعوبة من الأقارب والمجتمع، كونك امرأة تكتب الشعر؟ طبعاً واجهت صعوبة الاعتراف بي كامرأة شاعرة. على المرأة أن تصدر ثلاثة كتب على الأقل حتى يتم الانتباه إليها. حتى في الندوات الأدبية في بلدتي بيت ساحور، كانت الدعوات تأتي لزوجي على الرغم من كونه يعمل في المجال الطبي. لم ينتبه أحد إليّ كشاعرة مهتمة بالأدب. في الغالب، المجتمع لا يهتم خاصة أن دور المرأة مرتبط بالأسرة، وهذا ينطبق على الأقارب الذين ينظرون بالطريقة نفسها إلى دور المرأة. لكن طبعاً كان لأبي دور مهم كونه كان كاتباً. صحيح أنه لم يشجعني على التخصص في المجال الأدبي، ودفعني باتجاه التخصص العلمي، لكنه كان يهتم بكتاباتي، ويقدّرها.
تكسر الأسئلة قراءة التلميذ عمر الزاغة من الصف الثامن، الذي أهداني نصاً جميلاً قال فيه: "عندما نحب نشعر بأننا بعثنا من جديد في عالم أروع، وأجمل. عندما نحب تتغير خطواتنا، ويتغير تفكيرنا في الأشياء، ويتغير إحساسنا بالأشياء. عندما نحب، نحلم بصوت مسموع، ونبتسم بصوت مسموع، ونشتاق بصوت مسموع. عندما نحب، نتطلع إلى المستقبل الرائع والجميل".
أثّرتْ فيّ كلمات عمر، واستأذنت بقراءة من نص لي أقتطف منه "عندما نبدأ بالحب، نكف عن العزف منفردين، وندرك أن الكون صغير صغير، وأن الترنيمة صلاة جماعة".
الأسئلة تنهمر من جديد. يسأل عبد السلام عداسي من الصف الرابع: "ما هي طقوسك في الكتابة، هل تضيئين الشموع؟" ضحكت. أعجبتني فكرة الشموع، ولكنني لست بحاجة إلى طقوس كي أكتب. الفكرة تأتي من أي شيء. المهم أن تجد الفكرة. أضع الفكرة جانباً، وأنساها. فيما بعد أعود إليها، لتصبح قصيدة. سأل الأستاذ زياد: "هل استيقظت يوماً على قصيدة؟" آه. نعم. أكثر من مرة، ولكن في كل الأحوال الكتابة بحاجة إلى لحظة ارتخاء. قد تكون لحظة الانسياب نحو النوم، أو لحظة العودة من النوم. لكن في كل الأحوال الكتابة الإبداعية بحاجة إلى أن نكون مع أنفسنا.
سألني أحدهم : "من هو هاني الشوملي الذي أهديته القصيدة؟ هل بالإمكان قراءتها؟" قرأت قصيدة هاني ابن أخي الذي غيّبه الموت في حادث مروع في سورية حيث كان يدرس الهندسة. في العادة، أتجنب قراءة هذه القصيدة، لما تتركه من ألم الجرح. لكن، من أجلهم، قرأتها.
سألوني: "هل هناك ما أردت أن تعمليه وندمت أنك لم تعمليه؟" أردت أن أتفرغ للكتابة، لكنني لم أفعل ذلك حتى الآن. منذ بداية العام الجديد، سأقوم بذلك، لذلك استقلت، كي أستفيد مما بقي لي من عمْر. كي لا أندم.

سألني التلميذ أنس معلاّ من الصف السابع:"هل تحفظين شعرك؟" في الحقيقة، لا أحفظ شعري أبداً. هل هي الذاكرة؟ أم أنه موقف من الحفظ؟ على الرغم من أنني كنت دائماً أحفظ الشعر في صغري. أذكر عندما كان يُعيّن أستاذ الأدب العربي عشرة أبيات للحفظ من المعلقة، كنت أحفظ ضعف هذا العدد على الأقل. هل هو العمر؟ لا أدري، ولكنني ما عدت أحفظ الشعر، لكني أتذوقه، أكتبه، وأستمتع بقراءته.
قرأ المبدعون الصغار من كتاباتهم، وأذهلوني. أذهلوني بالمعنى الحقيقي للكلمة. أذهلوني بقدرتهم على التخيل والإبداع، بقدرتهم على نسج قصة بحبكة متينة، بقدرتهم، على طرح الأسئلة النقدية، وقدرتهم على التعلم والاكتشاف.
هنا تكمن أهمية المعلم الذي يجعل من اللغة أداة لعب واكتشاف. وربما هذا ما يفعله بالضبط أستاذ الكتابة الإبداعية الكاتب زياد خداش الذي يحمل في داخله طفلاً مسكوناً بالدهشة، لذا هو في حالة اكتشاف دائمة للغة وتركيباتها ليولد معانيَ جميلةً يتفرد بها نصه. وقد استطاع زياد أن ينقل حالته لتلاميذه، فساعدهم ليكتشفوا ذواتهم، فالتقطوا طرف الخيط. إنهم مبدعون صغار، ينظرون إلى كل ما يرون بطريقة مغايرة. والمفارقة، أن الهدف من المدرسة هو خلق نماذج تتبع قوالب اجتماعية معينة، لكن المعلم المبدع، يستطيع أن يجعل من عملية التعليم عملية تعلم، عملية خلق ذاتي، وشغف يحرك وجدان الطفل ويخلق لديه الإحساس بالفرح ومتعة التحصيل.
انتهى اللقاء. تعلمت منه كثيراً، وزادت قناعاتي بأن داخل كل تلميذ شاعراً صغيراً، وناقداً صغيراً، يبحث في هذا العالم الكبير عن موطئ قدم له.
انتهى اللقاء، ولم ينته. ليس بالنسبة لي، وليس بالنسبة لهم. وليس بالنسبة لأستاذ الكتابة الإبداعية زياد خداش. في صباح اليوم التالي، وأنا أعد نفسي للنزول للعمل، رن الهاتف. أول ما خطر ببالي عملي، لكن صوت طفل جاءني من بعيد: "أنا عمر، قرأت كتابك جميعه، ولكني أحببت قصيدة "لِمَ الخوف" كانت جميلة جداً." في اليوم الثاني اتصل عبد السلام عداسي، وقال: "أنا قرأت كتابك، وأحببت كثيراً "عبر الزجاج المضاعف". فهمت لماذا أحب عمر قصيدة لم الخوف، فهي تتحدث عن أطفال الانتفاضة، أما لماذا أحب عبد السلام قصيدة "عبر الزجاج المضاعف"، فهذا ما حيرني.
اتصل أحد الطلبة يعلمني أن صور اللقاء جاهزة وبإمكاني استلامها على CD. أرسلت تاكسي إلى المدرسة ليحضر الـ CD، وعندما سلمني السائق الظرف، كان فيه الـ CD، وأربع وردات بألوان مختلفة، ورسالة تغطي الصفحة بالكامل ودون وقف أو فواصل تقول "نحبك يا أحلى شاعرة في العالم ونشتاق إليك كثيراً من عمر الى خالتي روز".
في اليوم الثالث، اتصل الأستاذ زياد خداش: الطلاب لا يستطيعون الخروج من اللقاء، هل بالإمكان زيارتك في المكتب بعد أسبوع لتقرئي لهم بعضاً من قصائدك وليكملوا النقاش؟" قلت: للأسف تكون استقالتي فاعلة. قال زياد، أحبوك كثيراً، ويريدون أن يلتقوا بك مجدداً" قلت: في بيتي. فقال: "هل له حديقة؟" قلت لا لكن بيتي في بيت ساحور له حاكورة جميلة. قال زياد: إذن نتركها للربيع، وأضاف: عندما يتم توقيع كتابك الجديد، سوف يأتون.
قلت في نفسي "الشعر يزهر في الربيع، لكنه يبدأ قبل ذلك بكثير".

0 التعليقات:

إرسال تعليق