عندما يغطي شوك القلب فرو الذاكرة/ ثريا وقاص


قراءة نصية لـ"شتاء في قميص رجل" لزياد خدّاش
الأستاذة ثريا وقاص
*

القصة وكاتبها
"شتاء في قلب رجل" هي أول قصة تفتتح مجموعة الكاتب الفلسطيني زياد خدّاش القصصية والمعنونة بـ"خذيني إلى موتي"، المجموعة نشرت سنة 2005 وصدرت عن دار الماجد برام الله، فلسطين.

زياد خدّاش من الكتاب الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين مع ذلك الإحساس المهول بالاجتثاث القسري من فضاءاتهم الحميمة ليعرفوا تجربة الاحتلال الإسرائيلي المباشر وتجربة المخيمات وفجائع الحياة على هامش الحياة. وسيقول عن نفسه وفي بوح موجع إنه عبارة عن روح شفافة تعيش على جناح التوتر والقلق الدائمين، روح اقتلعت من أرضها البعيدة لتعيش في مكان طارئ وغريب.

فضاء التلفظ وتردد الذات الساردة
هذه المقدمة الصغيرة عن الكاتب قد تكون، أيضاً، توطئةً لولوج فضاء القصة، هذا الفضاء الذي يكاد يكون المحور الأساسي فيها، فالنص يبدأ بتساؤل الراوي وإحساسه المشوش وغير الواضح بالمكان "مكان غريب، كأني أعرفه، هل أعرفه؟" (ص.5)
المكان الغريب والذي يتردد الراوي بشأنه وصف على الرغم من ذلك بشكل دقيق وشامل كما هو واضح في المقطع التالي "ماسورة ماء ضخمة، ترتفع عن الأرض مترين، تمتد من جبل إلى جبل، بينهما واد سحيق. هذا مكان غريب، كأني أعرفه، هل أعرفه؟ بقايا نفق مطمور حدائق عشب ناعم وشوك أصفر وأخضر، شجر زيتون على سفح الجبل، بركة ماء قذرة، في الوادي شجرتا سرو ضخمتان ونوع آخر من الشجر لا أعرف نوعه، صخور كثيرة، دغل خفيف، البيوت طارئة على أطراف المكان، الـمستوطنة التي على جبل لـم تكن موجودة من قبل، إنه اليوم الأول في هذه المدرسة الجديدة"(ص.5)
في هذا الوصف، نلاحظ أن حاسة النظر وحدها تلامس المكان وتقدمه إلى القارئ كمكان جديد يطَؤه الراوي لأول مرة حين جاء ليستلم عمله كمدرس في هذه المدرسة الجديدة، ولكن الذاكرة تزاحم النظر، فتتحدث عن بيوت طارئة وعن مستوطنة لم تكن موجودة، إذ كيف يمكن استنتاج ذلك بعين ترى المكان لأول مرة؟.
ولعل هذا التردد الذي يصاحب الراوي ويصاحب النص منذ الأسطر الأولى، ما كان ليستقر لولا غياب إدراك بقية الحواس الأخرى، فها هي ذي الذات الساردة تصرّح بأن ثمة نداءات خفية، نداءات ستفهم لو التحمت بالمكان، فتعلن أن "هناك ينبغي أن أتواجد صباح كل يوم، أنيق الملابس، محتشم المخيلة والنظرات والروح، مطلاً من نوافذ الصفوف على روائح وأصوات غامضة كأنها تعرفني، روائح الماء الآسن في البركة والتراب الذي يفقد عقله تحت قطرات المطر الأولى، صوت الماء وهو يهدر في الماسورة الضخمة" (ص.6)
هذا الـ "ينبغي أن أتواجد" يضع المقطع كله على مستوى الرغبة والأمل وكأن تحقيق ذلك لا يزال بعيداً على الرغم من علمنا بوجود الراوي الفعلي في المكان ذاته وعلى الرغم من نوافذ قسم المدرسة الواسعة والتي تطل عليه، فما الذي يبطل وظائف الحواس الأخرى الآن إذن؟ هل هو اختراق الذاكرة أم هو شرود الأحاسيس كما يقول النص نفسه؟ "وأنا ساكت، مخترق الذاكرة، شريد الأحاسيس" (ص.6)
ثم كيف يمكن تفعيل الذاكرة في هذا النص؟

رأينا أن النظر لا يزال متردداً بين المعرفة وعدمها وأن الحواس الأخرى لا تزال غافيةً تحت التمني، ولكن الفضاء في المقابل كان يجيش بالذكريات، فكيف له أن يحس بها أو بعبارة أخرى، كيف يمكن له الإمساك بها؟
عليه وببساطة أن يتسلل إلى الذات ليوقف وعيها للحظات حتى يتسنى لهذه الأخيرة أن تستعيد عملية التذكر، وهذا ما حصل للراوي عندما أحس بأنه يتنفس بصعوبة فيقترب من النافذة وسط عيون طلبته المستغربة ويحدق إلى هذا الفضاء المترائي له وراء الزجاج إلى أن يصاب بدوار فيفقد وعيه (ص.7) وعندما سيستعيد وعيه سيصحو على ضجة روحية هائلة فيهرب من عيون الطلبة إلى المكتبة وهناك سيقفل وراءه الباب ويدع النافذة تهرع إلى عينيه، بمعنى يدع المكان يأتي إليه، ليبدأ الحكي "الأمكنة نفسها، من زاوية أخرى، هنا، هنا بالضبط بجانب سور المدرسة كنت أمشي معها ومعه، إلى تلك التلة العالية، في أصياف بعيدة، حرة ومجنونة، طفلان في العاشرة من عمرنا، بنت حلوة في الحادية عشرة"(ص.7)

الطفولة وتشوك الذات
والحكي لا بد له أن يبدأ بالطفولة..
محكيات الطفولة في تأثيث فضاءات الذكريات هي المنطلق لها غالباً خاصة في محكيات السير الذاتية الحقيقية أو التخييلية لأن الطفولة تعتبر دائماً قاعدة الحكي وبدايته كما هي بداية الحياة.
وفترة الطفولة تسرد في معظم الأحيان كزمن جميل مليء عفوية ولهواً وسعادةً بحياة تمر كلمسة يد حنون والنص في بداية التذكر سيقدم لنا محكياً مشابهاً ونمطياً لما ذكرت "نأتي هنا في عطلات المدارس، نتسلق الشجر، نرمي بعضنا البعض بالحصى والثمار، نصعد على الماسورة ونترك أجسادنا تسحل وحدها حتى نصل آخر الوادي، كنا نصيح والريح تصيح معنا، نسبح في البركة القذرة، نصعد التلة، ونلهث نلهث نلهث، اسمي زياد، اسمه سامر، اسمها هيفاء"(ص.7)
يتبين لنا من خلال هذا المقطع أن كل شيء يوحي بتذكر طفولة مفتوحة على مناظر شاسعة وروائح من بهجة وعلى صداقة سرية وحب يتفتح على أراجيح من منافسة وغيرة، وصديقة مبهمة توزع ابتساماتها بين الصديقين كما توزع مسافات اللعب معهما.

والطفولة تعتبر فوق هذا كله عبوراً مهماً في تعلم الحياة خاصة وأنها، كما قلنا، حقبة طافحة بالحنان والحنين، حقبة تمد بظلالها على حاضر محبط ومخيب لأكثر من انتظار ولهذا فهي الزمن المحبب للحفر وللفهم وسنلاحظ أن حفر الطفولة في "شتاء في قميص رجل" كان الحفر الذي أنبت شوكاً مكان شعر الطفل ذي السنوات العشر، وشوكاً في قلب الراوي البالغ الذي يعاود التذكر بكثير من الألم؛ "شعرك حقل شوك" قالت له ذات يوم حبيبته الصغيرة هيفاء التي لامست شعر صديق طفولته سامر الناعم بنظرة غريبة ونظرت إلى شعره هو بألم كما حكى "ثم حولت نظرها إلي مبتسمة ومتألمة وقالت فيما يشبه العتاب؛ أما أنت يا زياد فلا أحب أن ألمس شعرك لأنه يشبه دخولي حافية القدمين في حقل شوك هاهاهاها" .(ص.8)
"حقل الشوك" هذا سيحفر في الذاكرة مساحة للنسيان خاصة أن الراوي سيتوقف عن مشط شعره زمناً طويلاً خوفاً من إدماء أصابعه وسيتركه ينمو، كما أنه سيهرب حتى إلى الجبل خوفاً من أسرته التي تحاول حلق هذا الشعر له.
وسنلاحظ أن الراوي قد عاش مع ثقل الشوك وتداعياته حتى بعد معافاته قليلاً من هلعه المرضي والمهووس منه ذاك؛ لأن الشوك لا يمكن التخلص منه بسهولة، "منذ تلك الظهيرة وأنا أتحسس حقل الشوك فوق رأسي وأقترب كثيراً من البكاء، ما زلت حتى اليوم أتردد كثيراً في تمشيطه خوفاً من جراح قد تصيب أصابع يدي" (ص.8)

الشوك ورموزه
والشوك فوق ذلك هو رمز الحياة دون حياة أو بعبارة أصح رمز الحياة على الهامش لأنه نبات الهجران والنسيان، ولكنه يستطيع أن يرمز أيضاً إلى الأرض البور، أرض لا تعرف لا ثقافة الزراعة ولا حدود مصطنعة، إنه نبات الحرية ونبات الصدفة والفطرة والطبيعة المتمردة على نسيان البشر.
وهو حين يحضر لحظة التذكر في النص فكأنه يدعو إلى معانقة الأرض من جديد في محاولة مصالحة مع ماض مجتث من جذوره ولعل ابتسامة الطفلة، تلميذته، التي لا تكف عن التبسم والحانية عليه في لحظة إغمائه مسعفة إياه بكوب ماء ستكون رمز العودة إلى الحياة الحقيقية وإلى المكان الذي اتضح الآن أنه مكان مألوف بالفعل فأجاب عن تساؤلات الشك في بداية النص (هل أعرفه؟) والسفر الذي جاء به صدفة إلى المكان وأعاده إلى الذكرى يكاد يكون دعوة لنية غير مقصودة للسفر في رحاب النفس أو لانتظارها في مكان القلب من ناحية كما أنه ذهاب نحو الآخر/ الطبيعة حتى يتمكن من اكتشاف ذاته من خلالها وفهم هروبه وهروب الذاكرة لزمن طويل من ناحية أخرى.
ونستطيع التأكيد هنا أن هذا المكان هو مكان الطفولة بحق سواء تعلق الأمر بطفولة الذكرى يوم كان الراوي يجوبه برفقة صديقته وصديقه وهم أطفال أم بطفولة تلاميذه زمن السرد والتلفظ فهو إذن يعبر في الوقت نفسه عن سراب بخصوص الماضي وعن أمل في طفولة تلاميذه الضاحكة والمبتسمة على الدوام بخصوص المستقبل أما الشوك، هذا النبات الحر و المكتفي بذاته (إذ لا يحتاج لا سقياً ولا عنايةً) فهو يعني أيضاً التحرر من الوقت لأن الشوك يقاوم كل أشكال الصيرورة الزمنية ويمنعها وذلك بانتشاره كنسيان في أماكن الحياة وأماكن النبات؛ هذا النبات الذي يتغير حسب الفصول ودورانها بينما هو، أي الشوك، لا يتغير كثيراً ولا يعرف الفصول، وفي النص نلاحظ أنه فوق ذلك يقتحم حتى أماكن التذكر والذاكرة مثل الرأس... أفليس الشعر فرواً حقيقياً يغطي مركز الذاكرة؟ وحين يصبح هذا الشعر حقل شوك ألا يغطي هذا الشوك بشكل ما ولو رمزياً مكان الذاكرة؟

الفراق والاحتلال كتأصيلين للنص والذاكرة
وإذا عدنا قليلاً إلى مشهد النص الأول الذي هو الفراق والذي يبدو ساكناً لنصوص خدّاش، فسنرى أنه لا يفتتح النص والحكي فحسب وذلك بسرد حادثة ترك الراوي لحياة سابقة (حياة نستنتجها فقط لأن النص لا يقول عنها شيئاً) ليبدأ أخرى كمدرس جديد بل هو سيعيده إلى مشهد الفراق الأول و"الأصلي" مع هيفاء والذي شكل نواة الذاكرة والحياة وأدى إلى اكتشاف تصدعات الروح وجرافات الاحتلال الإسرائيلي في بلدة تقع على سفح جبل بدأت تقتات منه إسرائيل حتى ضاع كما ضاعت ورقة هيفاء التي وضعتها هناك آخر يوم يراها فيه السارد، هذا اليوم الذي تزامن مع وصول المحتل.
على هذه الورقة الضائعة كانت الفتاة الصغيرة قد كتبت اسم الذي اختاره قلبها بينه وبين صديقه وبضياعها سيبدأ عالم الشوك ينمو، لا يقينياً وجارفاً لكل مظاهر الحياة؛ "ستأتي جرافات ضخمة، تحفر أساسيات مستوطنة إسرائيلية، سنراقب من بعيد الجرافات، وهي تحفر في جلودنا، كارثة اسمها ضياع ورقة هيفاء، أهالينا يتحسرون على الجبل المسروق ونحن نتحسر على ورقة صغيرة" (ص.10)
ولكن هل ورقة الطفلة الضائعة تلك، حيث سر القلب، كانت ستنقذه فعلاً من اجتياح حقل الشوك لرأسه؟
ثم أرى نرى في هذا السفر نفسه إلى بلد التعرجات المفتقدة ونتوءات النفس شكلاً من الاستعادة الأولى لوعي امتصه اللاوعي وخزنه بإصرار داخله كشوك يحاصر النبات فيحد من انتشار الحياة أو كاحتلال يحاصر النفس فيحد من حريتها ومن انطلاقتها؟
السفر في الأمكنة عند خدّاش يرافقه سفر في داخل النفس كما قلنا وما الإغماء الذي هو نفي العالم وغياب عنه إلا نفي النفي أو نوع من هروب إما نحو العودة وإما نحو الإقرار بشيء ما.
أما النظر والإدراك فقد أتاحا اللقاء من جديد مع الطبيعة والطفولة من جهة ومن جهة أخرى كانا الوسيلتين الأكثر رسوخاً في محاولة تركيب الذكرى وتركيب العالم الذي بدا أولاً جامداً ليصبح بعد ذلك ديناميكياً في تغيراته ومساره نحو قدره وميلاد حاجة الانطلاق ومواصلة رحلة البحث على الرغم من الشوك الذي ينمو ليدمي الأصابع والعين ويقلق حتى القارئ بعض الشيء.

الصدفة والذات
وإذن فالفراق أو الابتعاد ليس سوى عملية تقرب شيئين أساسيين هما الصدفة والذات.
أقول الصدفة لا عقد النية لأنها وكما لاحظت في عوالم قصص خدّاش تلعب دوراً محورياً في معانقة الرغبة والنص والذكرى وربما أيضاً في معانقة الأمل في حياة أخرى دون تعريف ودون جذور والتي تحضن فيها الحياة هوامشها وأشواكها.
والسفر في موطن التذكر كان محاولة لتحرير النظر أولاً ثم لتجاوز الحياة السلبية والناقصة التي يعيشها الراوي في حاضره زمن التلفظ، للوصول إلى مواقع التصدع في طفولة تشوكت مبكراً بسخرية فتاة وجرافة احتلال وهكذا نستطيع القول إن الفضاء المنظور إليه هو الذي عاود الإمساك بالطفولة، تماماً مثل الشوك الذي ليس في حد ذاته إلا محاولة الطبيعة للإمساك ببقايا حياة لتنطلق منها حياة أخرى، حياة أكثر ضحكاً وإنسانيةً وأملاً.
وبعث الطفولة ثم بعث هيفاء في ابنتها قد يكونان بداية تحرر من تصدع قديم فينبثق حقل الشوك الرمزي كشيء متعالٍ؛ ألم ينبت في النص على أعلى طرف في الإنسان، رأسه؟ ونكاد نرى هنا صراعاً وجودياً ضد فقدان الذاكرة وضد سراب نفسي عميق يعيد السارد إلى حكيه كما يفعل مسافر مليء بالتنبؤات حين يخطو نحو عالم مدرك ومعرف ومشكل للقلب وللهوية.
وهذه الصورة قد تبدو هشة ولكنها منبعثة من عمق الذاكرة ومن خلال هذا الابتعاد الأول والسير نحو حضور مكاني مقتحم ومحسوس ومتجذر وإن كان غير مدرك ولا معقلن في البداية. ولكن سنلاحظ أن مواصلة الاستحضار ومواصلة السير دائماً وأبداً سيحدان من الفرار الذي لم يكن إلا وقفاً للذاكرة وللحاضر أيضاً.
والشوك الشبيه بالمعرفة غير المحدودة والذي يجذب الراوي يترجم ولا شك في رغبته في الخروج من عقم التاريخ ومن الحياة التي تكرر نفسها في قوالب جاهزة تحد من الحرية والخيال.

الشوك ومصالحة الحياة
ولكن كيف للشوك أن يحقق هذا التمازج الغريب للزمن والفضاء، للآن والماضي، للهنا والهناك، وللذكرى والمستقبل؟
الشوك يرمز دون شك إلى هذه الحياة العذراء المتوحشة والتي تنمو بعيداً عن تكنولوجيا البنايات المتوالدة كالفطر وبعيداً عن جرافات الاحتلال التي تقتلع الهوية عن أمكنتها.
والملاحظ أن المسألة هنا في النص ليست بمسألة قتل الوقت أو إلغائه وإنما هي فقط مسألة تمديده، وما الماضي إلا نظرة هيفاء الأولى المتألمة الذي يلتقي بمستقبل نظرة ابنتها المبتسمة والمحبة للمكان ("أستاذي أنا أحب هذا الوادي كثيراً، أمي كانت تلعب هنا، حدثتني عن النفق والشجر والبركة والماسورة والجبل والورقة وسامر وآخر نسيت اسمه، يحمل على رأسه حقل شوك"(ص.10)) ليصنعا معاً حاضراً حيث يلتقي الحلم والحياة التي تمر كذكرى أو كتأزم ويلتقي الزمن المختزل والمتحول إلى فصول دورانية تعيد نفسها في حركات دائرية وإعادات وفي رغبة في خلق حياة تتوه من غير هدى وتتحدى، كما الشوك يتحدى، الخراب والهجر وجدران الاحتلال والجرافات والإقصاء وتجمد الزمن.
وكلام الصغيرة سيصعق الراوي بحديثها ذاك فيهرب بيدين تقطران دماً والإشارة هنا إلى هاتين اليدين الداميتين تبين لنا حقيقة محورية ومهمةً فكأنما الراوي قد تجرأ أخيراً على لمس حقل الشوك فوق رأسه وإزاحته عن ذاكرة النسيان ليبدأ الإحساس الحقيقي والوعي الحقيقي بفظاعة ما حدث للمكان، للجبل ولكل ما تحبه الصغيرة كاستمرار لحب أمها وبلدتها، فيبدأ الألم والرعب اللذان ظلا محبوسين ومقموعين كل هذه السنين؛ "مصعوقاً أهرب من قاعة المكتبة يداي تقطران دماً، الصغيرة ما زالت تبتسم" (ص.10)
وهكذا وبعد سنين من الهروب من المواجهة وبعد سنين من تربية شوك النسيان مخافة التألم والجرح، جاءت ابتسامة المستقبل لتجبر السارد على مصالحة الماضي والذات على الرغم من كل ما قد يسيل هذا من دماء الألم فيخرج من قاعة المكتبة، مكان اختبائه من اقتحام نظرات الطلبة، نظرات المستقبل، هذه المكتبة التي قد نرى فيها وربما تعسفاً، موطن النسيان والسلوى؛ أليست فضاء الكتب وفضاء الكتابة، التي تعتبر من بعض وجهات النظر عالماً مغايراً للواقع، هذه الكتابة التي يبدو أنها كانت متعالية وغائية هي الأخرى عن الحياة، فأرادت في نهاية النص الخروج إليها بعد صعقتها الأخيرة أمام إرادة الطفلة المتمسكة بالحياة وبكل ما يمثلها من أودية المنبت ومن أمكنة الجذور؟.


* كلية الآداب الجديدة، المغرب



مراجع
ــ زياد خدّاش، "خذيني إلى موتي"، الماجد، رام الله، فلسطين، 2005
- Calame, Claude " pour une sémiotique de l’énonciation : discours et sujet " in Costantini et Darrault- Harris .(1996) Sémiotique. Phénoménologie. Discours. L’Harmattan
- Chalonge, Florence de. (1996) " Le corps et la place " in Costantini et Barrault Harris. –Dir. Sémiotique. Phénoménologie Discours .L’Harmattan
- Communication, Le Sens du regard, no 75, année 2004, Seuil
- Coquet, Jean- Claude. (1997) La quête du sens. P.U.F.
- Fontanille, Jacques. (1999) Sémiotique et littérature. Essai de méthode. PUF.
- Landowski, Eric. (1997) Présences de l’autre .PUF.
- Sémiotiques. (1993), 4. Logiques spatiales (Régis, Luc -dir)

0 التعليقات:

إرسال تعليق