أكان يجب أن أحترق حتى تروا ناري؟ سامحنا يا محمد البوعزيزي.

كنت أريد أن أكتب رسالة حب إلى تونس، وتذكرت فجأةً رسالة حبي إلى بغداد. أعرف أنني سأكتب رسالة حب إلى بلاد عربية أخرى، كان المفروض أن يكون عنوان هذا النص هو رسالة حب إلى تونس، كتبت الحرف الأول من النص (ر) وفجأةً قفز من الحرف وجه غاضب وجميل نصف محروق، هو وجه محمد البوعزيزي: صرخ في وجهي: لماذا الآن يا مثقف يا عربي؟ أكان يجب أن أموت حتى تكتب عني، لماذا لم تكتب عني وأنا أجوع وأمرض وأخاف وأصفع على وجهي أمام الناس، وأتسول، وأهرب، وأهان... لم أستطع أن أكمل الرسالة، لم أكتب حرفاً ثانياً، غيرت المضمون فوراً، وهأنذا أكتب.

وأخيراً حصل ما توقعته، تخليت عن مشاهدة صور انتفاضة تونس لأراقب بتعب ردة فعل المثقف العربي، كنت أتوقع هذا السيل العرمرم من مقالات الإشادة بشجاعة وبطولات الشعب التونسي ضد أردأ الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي، تصفحت زوايا المثقفين والصفحات الثقافية في الصحف العربية، تجولت في عشرات مواقع الأدب والثقافة الإلكترونية ولم أجد سوى ما كنت عرفت أنني سأجده، بلاغة بلاغة بلاغة، شعر كثير وحماسة، بكاء، ورثاء، وكأن قدر هذا المثقف هو الغيرة من زملائه والثرثرة في البارات والكتابة، لا نزول إلى الشارع، لا تورط إنسانياً مطلوب مع هموم الناس، لا مشاركة ميدانية في الفعل، لا تحريض على الوعي، لا رفض لإغراءات أنظمة البلاد.

في عهد الاستبداد (البنعلي) تعامل مثقفون عرب كثر مع النظام، سكتوا عن جرائمه بحق المثقف والعامل والمواطن والمرأة والاقتصاد والكرامة الوطنية التونسية، بل وأشادوا به، ومدحوا علمانيته (الكاذبة) وتصديه لإرهاب الأصوليين الإسلاميين، (ذريعته الجاهزة لخنق حرية الناس والسيطرة على البلاد إلى الأبد) ودعمه لنضال شعب فلسطين، واستضافته مقاتلي الثورة بعد بيروت، الآن نقرأ لأولئك المثقفين العرب أنفسهم المقالات والقصائد والبيانات تضامناً مع انتفاضة شعب تونس ضد الاستبداد، كيف نفهم هذا النفاق؟

هل الكتابة هي فقط أن نكتب؟ أليست هي رؤيةً حيّةً على الأرض وممارسات إنسانيةً وهويةً جسديةً، ومواقف تضامنيةً فعليةً مع المهمّش والمقموع من إنسان وأفكار... ومع كل هذا الظلام في حياة المثقف العربي؟ ثمة تجارب حب مضيئة نفذها أدباء عرب، يحق لي الآن بفخر مقهور وحزين أن أتذكر تجربة تيسير سبول وخليل حاوي، في التضامن مع آلام الأمة انتحاراً، الشاعرين العربيين اللذين انتحرا احتجاجاً على هزيمتي 82 و67. اكتشف الشاعران الجميلان أن الكتابة أمام هذا الذبح الصريح لكرامة الأمة فعل فاضح الشلل وناقص الجمال، وفادح الخسارة فلم يجدا سوى الموت حلاً، فعلى الأقل سيعفيهما الموت الصغير العادي من التفرج على الموت المروع الكبير، أتذكر باحترام وإعجاب تجربة الروائي الياباني (ميشيما) الذي انتحر بطريقة الساموراي احتجاجاً على ضياع وهزيمة قيم بلاده الأصيلة أمام قيم الغرب الوافدة.

ثمة مثقفون ينتحرون، أيضاً، لا عزلةً أو خوفاً أو جبناً أو غباءً بل احتجاجاً وقتالاً وقهراً وانتماءً لنبض الهواء وصدقاً مجنوناً والتصاقاً حميماً بجلد البلاد، لنمنح هؤلاء حبنا المبالغ فيه إذن، ولنحيي أرواحهم الشريفة التي قاتلت بموتها استبداد الطغاة؛ حفاظاً على بياض أيام ستأتي لأطفال البلاد، يا محمد البوعزيزي، سامحنا لأننا لم نكن هناك لنصفع الشرطية القبيحة التي صفعتك، ولنجرجر جسد رئيس البلدية الذي طردك، وتجاهلك في شوارع الفقراء، سامحنا لأننا رأيناك فقط حين رأينا ألسنة النار وهي تنهب جمال وجودك؟ كم هو محير سؤالك يا صديقي: أكان يجب أن أحترق حتى تروا ناري؟ على شاعر عربي غاضب ما أن يحرق نفسه، ليثبت قدرة الكلمات على إشعال الكلام. وليطفئ بناره نار الصمت وعار المثقف

1 التعليقات:

rami يقول...

المثقف ليس له عار .. بل تلفعه أكاليل الغار من أخمص رأسه حتى أعلى رجليه ...
المثقف ينحت في صخر الجهل والتخلف بسكين الريادة النابية ..
لكن البوعزيزي يا عزيزي .. لم يكن ثورة ولا ظاهرة ..
فقد كان شاباً حطمته سفالته الفجة .. لم يكن خريجاً ولا متعلماً .. لكن بوق الفوضى الخلاقة جعل صوته أعلى من كل صوت .. وكاميرا الشرق الأوسط الجديد ضخمت صورته حتى غابت خلفها جبال الحقيقة ..
فليعذرني قلمي الذي أحترمه أولاً .. ثم ليعذرني من يستخدم عقله ويحترمه ..
ولا أريد أن يعذرني من يبحث في القشور عن جذور الحقيقة

إرسال تعليق