عن حسن حوراني أجمل الغرقى ...



عن خرسي الـمفاجئ أمامه، رغم كل الكلام الذي (أُحوّشه) له، عن انثيال ذاكرة الـملح في الجسد عند قدميه، عن النسخة الأولى الضائعة من مخطوطة (بلادنا فلسطين) لـمصطفى الدباغ، عن رؤية روحي الـمكسّرة وهي تنسل من جسمي وتمشي على أطراف استسلامها السعيد إلى عينيه الهائجتين؛ لتحصل هناك على غِناها ونقصانها، عن خوفي الـممتع من يديه العميقتين، وصوته الكهفي وزمجرته وهمساته الليلية، سأكتب عن البحر، عن سؤال ضياعه وضياع سؤالي. عن دموع وذهول الشاعر أحمد دحبور أمامه في أولى الزيارات، عن قيساريا الذبيحة وهي تنتظر تحرشاته بقدميها ليوقظها من نومها عند الخامسة صباحاً، عن حدائق اللهاث الـمقدسة في رئة عيسى العوام، عن يد زميل مدرستي الذي يكبرني سناً والتي أغرقتني مازحةً في زحامه ذات طفولة بعيدة، في رحلة مدرسية مكتظة بالأوامر والـمساطر والطوابير والحدود. عن الجسد الأرجواني الـمجنون وهو يسحبني في ذروة عاصفة خريفية إلى بحر الجسد بالقرب منه، عن فراري الجبان من البحر الأول والثاني، عن سخرية الجسد الأرجواني مني ومن نصوصي الـممتلئة بالغوص والأسماك والـموج، عن منتحريه ومنتحراته الجميلات والجميلين، وعن الذين يفكرون الآن أو سيفكرون بعد قليل في اتخاذه ملاذاً أبدياً للسكن، أو ستارةً ضخمةً على نافذة القلب للاختباء عن الناس، سأكتب عن البحر، عن ذاكرة أمي الفارغة منه، عن خجل أبي السبعيني أمام هداياه، عن غرقى الهروب الكبير الذين كادوا يصلون لكنهم في آخر اللحظات سقطوا في فمه مستسلـمين، عن البنات الحائرات الـمحجبات الهاربات من عيون الأزمان وآذان التاريخ إلى شاطئ الاكتشاف، ورمل الضعف الجميل، عن لسعة سؤال تلـميذي أشرف: "أستاز: نفسي ألـمس البحر، وينه البحر؟ أنا بشوفه بس على التلفزيون وفي الأفلام"، عن حبي لله هناك، عن انفتاح نوافذ الاعترافات، عن ذكائي الذي ليس لي في فهم العالـم، والقدرة الـمفزعة على الاستنتاج، واسترجاع أشد لحظات الطفولة امتلاء بالبياض، وأشد لحظات الـمراهقة انهماراً بالأحلام، التي ما زالت أحلاماً، عن دموعي التي تشبه تضامناً ما أو استعطافاً ما أو غضباً ما، عن جزيرة العشب على طرف خاصرته وخاصرتينا، هي وأنا، في لحظة انفجار حسي فائضة وغير مفهومة، عن طعم الإجاص الأسمر في فمي للـمرة الأولى، عن صياح الشبان الحاسدين الوحيدين اليائس فوق تلة قريبة، عن نصي البحري الذي فقدته (مدينة من صرخات) والذي كتبته هناك بلساني. سأكتب عن البحر، عن صدفة أن تكون هي صديقتي، وليست الأخرى، عن حلـم السباحة فيه عارياً إلا من عريي، ذات ظلـمة شتوية مخنوقة، عن الرغبة في الـموت هناك بهدوء دون قبر أو جنازات أو بيت عزاء، فالنوارس جنازتي والـموج بيت عزائي، ورائحة البحر قبري، عن بلاد بلا بحر، وبحر بلا بلاد، عن حلـمي الدائم به وفجري الـمبلل به، سأكتب عن البحر، البحر، عن الرسام حسن الحوراني وهو يقول للأصحاب قبل أن يبتلع هو البحر: "أنا سعيد سعيد سعيد". سأكتب عن سعادة ولغز الـموت في البحر، عن صوت حسن وهو يسيل: من قال إن غرقى البحار أموات؟ لا يموت من يغرق في البحار، إنه يستبدل فضاءه اليابس بفضائه الرطب، كما إنسان يستبدل معطفه القطني بمعطف مائي، ليواجه العاصفة الـمطرية، لا غبار في البحار، ألا يكفي ذلك؟ لا كذب، لا زمن. لا يموت من يموت في البحر، لا يموت. حسن ابتلع البحر، لوح له بلونه فأتاه راكضاً، يسأل: كيف قبضت على جلدي؟ (أنا الإنسان). أجاب حسن وانحنى مبتسماً وملاطفاً بعينيه موجة أو سمكة ترقص على قدميه، هل هي لوحة أخرى دموية ومغامرة وقاتلة، عن بشري غريب لا تهمه حياته بقدر ما تهمه سعادته، من يجرؤ على القول إن السعادة هي الحياة فقط؟ يستدرج حسن البحر بكل أسماكه وبواخره وحيتانه وموجه وغرقاه ومرجانه إلى رئتيه الفراشيتين ليؤكد أو يعمق أو يرتل ارتفاع الإنسان وعبقرية كينونته؟ سأكتب عن حسن، عن البحر، عن فلسطين، عن الدباغ والعوام، عني، عنها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق