متعة الحياة مع أوشو

استضفت في بيتي، ليلة أمس، فيلسوفاً هندياً اسمه أوشو، رجل خمسيني بلحية بيضاء كثة، وعمامة هندية زرقاء، طرق بابي فجأةً في الموت، بينما كنت ممدداً على بلاط الغرفة أنزف ضياعاً وأتلاشى انحطاطاً ورغبةً في الموت، طلب بخجل مبيتاً لليلة، معرّفاً نفسه بتواضعٍ جمٍّ: "أنا أحد (لاحقاً عرفت أنه أهمهم) المعلمين المستنيرين الذين عملوا جاهدين لمساعدة الإنسانية على تخطي الصعوبات، من خلال تطوير الوعي، ومؤسس مجمع أوشو العالمي الذي يمكن وصفه بمختبر أو تجربة لإعداد الإنسان الجديد، ذلك الكائن البشري الذي يعيش متناغماً مع ذاته وبيئته، والذي يشعر بالتحرر من كل النظريات والنظم العقائدية التي تفرق البشرية في وقتنا الحاضر". استغربت ابتسامة أوشو الدائمة، وهدوءه العميق، وحركة جسده المتأنية، كان يتحرك وكأنه يرقص أو يتناغم مع أجسام غير مرئية، سألته: "لماذا اخترت بيتي بالذات يا أوشو؟" فأجاب: "لأنك تحتاجني، كل شخص بإمكانه أن يطلبني؛ فألبي طلبه، وأطرق بيته". سألته: "كيف عرفت حاجتي إليك يا ضيفي الغامض؟" ردّ علي: "لم أعرف، حاجتك هي التي عرفتني". سكت أنا وسكت هو، وضعت أمامه عشاءً بسيطاً من زيت وزعتر وقطعة جبن وحبتي زيتون ونصف حبة بندورة، غمس الصحن بابتسامته وهدوئه وامتنانه، كان يمضغ ببطء ويغمض عينيه مستمتعاً كأنه يأكل العالم، بعد العشاء جلس على الأريكة مسترخياً، بشكل غريب، ولمّا لاحظ استغرابي قال: "الإنسان يسترخي في حضرة شخص يحبه، عدم الاسترخاء يعني أنك أمام شخص لا تحبه أو لا تعرفه".
"أريد أن أهدأ يا أوشو، أريد أن أتعرف إلى ذاتي، أريد أن أكتشف مكمن سعادتي، وجذور ضياعي، أنا معذب وجبان ومتألم ومنحوس ومعتم وأناني وأحمق، وحساس بشكل منحرف، وكاره، كيف أصبح عكس ذلك؟" ابتسم وأجابني: "أنت ترغب في أن تصبح شيئاً ما، أنت متوتر، التوتر يعني أنك لست مسروراً بما أنت عليه، التوتر يعني الهوّة الفاصلة بين ما أنت عليه وما ترغب فيه، إذا كنت تود تغيير نمط عقلك وتريد أن تصبح أكثر ذكاءً؛ ستشعر بالتوتر، لن نعرف التوتر أبداً حين نقبل أنفسنا جملةً وتفصيلاً، هذا القبول معجزة، إنه المعجزة الوحيدة ولن يفاجئك شيء أكثر من عثورك على شخص يقبل نفسه كما هي".
"هل المشكلة إذاً في مخيلتي المجنونة؟" سألته، أشعل سيجارة ونفخ نفساً طويلاً واسترخى على الأريكة، أجاب: "نوعاً ما ولكن يمكن أن تصبح المخيلة بنّاءةً، فعندما تتركز قدراتك التخيلية على الحاضر، في اللحظة الراهنة، لا في المستقبل، يمكن أن تبدأ في رؤية الوجود كشعر؛ لأن مخيلتك لا تخلق طوقاً، بل تستخدم في العيش، وهذا العيش يقع فيما وراء التوتر".
"وماذا عن الألم؟ يا صديقي الهندي؟ أنا أكثر إنسان يـتألم في العالم".
"لنتخيل شاباً يلعب الهوكي، جُرحت ساقه، ونزف ولم ينتبه إلى جرحه، والآخرون يرونه ينزف، بينما هو غافل تماماً ومشغول باللعبة، بعد نصف ساعة من الإصابة آلمته ساقه كثيراً، وتبين أن الإصابة خطيرة، والجهاز الحسي للساق يعمل على أكمل وجه، وهو الذي نبهه إلى الألم بعد نصف ساعة، فلماذا إذاً لم ينبهه إليه مبكراً؟ الجواب هو لأن انتباه اللاعب كان منصباً على اللعبة لا على ساقه، لا بد أن الساق بقيت تنبهه إلى الألم الذي تعاني منه وكانت العضلات والأعصاب تنتفض وترتعش والساق قرعت كل أبواب التنبيهات الحسية، لا بد أنها حاولت الاتصال بعامل السنترال الحسي، لكن عامل السنترال كان نائماً أو غائباً، وعندما عاد بعد نصف ساعة لاحظ أن الساق قد أصيبت، تذكر ألم المخاض عند الأمهات، بإمكان الأم أن لا تتألم إن أرادت وفهمت معنى الألم، وعلاقته مع الروح والرغبة والحب، ألم المخاض ينتج عن مقاومة الأم للولادة، عن خوفها من الألم وتوقعها إياه، فتتألم، بإمكانها أن لا تتألم عبر التعاون مع الألم شعورياً وتأملياً، أنا لا أؤيد عملية إعطاء مسكنات لمقاومة الألم، لأننا يجب أن نتذكر أن الأم التي تلد طفلها في حالة عدم وعي هي ليست أماً، لأنه حين يولد الطفل لا يولد وحده، إن أمه تولد معه أيضاً، أما إذا ولد الطفل في حالة غير شعورية تصبح العلاقة مشوهة، فلا تولد معه الأم، وحين تصحو من الخدر، تصبح مجرد مرضعة أو مربية، أتريد تشخيصاً وتحليلاً أكثر من هذا يا زياد للغز الألم؟".
لا، أيها العظيم أوشو، فهمت الآن الحكاية، لا ألم خارج دائرة الروح والإرادة، بإمكاننا أن نتحكم بالألم ونؤجله ونجمده عبر إرادة الرغبة والتركيز، يا لك من نور يا أوشو، يا لك من نور، أعطني الحل في كلمة يا أوشو، كلمة واحدة، أعطني المفتاح، قلت له مجهشاً بالبكاء، قال وهو ينهض من استرخائه ويزيح ستارة النافذة وينظر نظرات تأملية إلى ظلال حركة أوراق دالية العنب: "التأمل، التأمل، التأمل، الإنسان داء يصاب بالداء لكنه نفسه داء، هنا تكمن فرادته، سعده وسوء طالعه، من بين كل المخلوقات وحده الإنسان لديه قابلية للجنون، الحيوانات لا تصاب بالجنون أو العصاب ما لم يكن الإنسان هو السبب، لا يوجد في الغابة حيوانات مجنونة، لكنها تجن في السيرك بواسطة الإنسان، حياتها في الغابة طبيعية لكنها تصبح غير طبيعية في حديقة الحيوانات، لا تنتحر الحيوانات لكن كثيراً من البشر ينتحرون، جربت طريقتين لفهم وعلاج الداء المسمى الإنسان: الأولى ــ بالتطبيب. والثانية ــ بالتأمل. كلا الطريقتين علاج للداء نفسه، لكن من الضروري أن نشير هنا إلى أن الطب مجرد محاولة تحليل جزئية تعالج كل داء في الإنسان على حدة، بينما ينظر التأمل إلى الإنسان كداء، كل وجه من أوجهه داء مقيم، يصاب الإنسان بالداء، ويشفى منه، وهذا ما يجعل الطب ينظر إلى الداء على أنه شيء غريب عن الإنسان، لكن هذه الفروق تضاءلت مع الوقت وبدأ الطب يقول: عالجوا المريض لا الداء". هنا وببطء شديد شرب أوشو من كأس الماء التي أمامه مغمضاً عينيه، وأضاف: "التأمل يزيد حساسيتك، تتسع حياتك، تصبح أوقيانوسية لا بركة محدودة لا تعد محصورة بأطفالك وزوجتك وعملك، تغدو لا متناهية يصبح الوجود كله عائلتك، وما لم يصبح عائلتك لن تعرف معنى الحياة؛ لأن الإنسان لا يستطيع العيش دون الآخرين فنحن كلٌّ متكامل، قارة مترامية الأطراف، تربط بين أجزائها ملايين الطرق، وإن لم تكن قلوبنا عامرة بحب الكل والتساوي؛ فإن حياتنا قصيرة الأمد، سيجلب لك التأمل صمتاً هائلاً، لأنه يخلصك من سقط المعرفة والأفكار التي كنت جزءاً منه".
تركني أوشو مطرقاً، نهض واقترب مني، هزني من كتفي: "أين وصلت؟" ــ "إلى شواطئ مدينة التأمل، شكراً أيها الدليل، أيها الطيّب، أيها الإنسان". ــ "لا تشكرني، اشكر ذاتك لأنها تعرف أنها تحتاج إلى علاج، هذه المعرفة هي نصف الطريق". ــ "إلى أين يا صديقي؟" ــ "إلى مريض آخر، أقصد إلى إنسان آخر طلبني قبل لحظات بينما كنت أحدثك". ــ "وكيف طلبك؟". ــ "ثمة جهاز (رجاج) في عقلي يشبه الخلوي، يعطيني اهتزازات، تؤشر على وجود مريض، عفواً أقصد إنساناً، ويحدد لي حتى مكانه ومستوى مرضه". ــ "هل أنت فيلسوف أم صوفي أم طبيب أم نبي؟" ــ "أنا معالج، أنا يوغوي". خرج أوشو من بيتي، شيّعته حتى ياسمينة الحارة، لوّحت له من بعيد، ابتلعه الظلام، صباحاً هاتفتني هيفاء من أبو ظبي : "زياد، كيف حالك؟ البارحة زارني شخص غريب اسمه أوشو، كنت متوترة وعلى وشك الجنون، وفجأة كان يطرق باب البيت، جاء في وقته تماماً، لا أعرف كيف استقبلته بترحاب وثقة، على الرغم من أنني أحس بتوجس من الغرباء كما تعرف، في وجهه شيء مريح جداً، حكى لي أنه كان عند مريض من رام الله، توقعت أنه أنت، أهو أنت؟ هذا الإنسان غير معقول يا زياد، لقد غيّر كل حياتي.
الساعة الآن هي الرابعة فجراً، نحيت الكتاب جانباً، نهضت، فتحت باب البيت، خرجت إلى الشجر.
غمرتني خفة غريبة، خفت على جسدي أن يطير من خفته، فكرت: مَن مِن أصحابي يستحق أن أعيره كتاب (من العلاج إلى التأمل) للعظيم الهندي أوشو؟.

0 التعليقات:

إرسال تعليق