الجنس شجرة أزمة العرب الكبرى الأساسية التي تتفرع عنها غصون الهزائم! / حاورته فاتنة الغرة

الكاتب القصصي الفلسطيني زياد خداش: الجنس شجرة أزمة العرب الكبرى الأساسية التي تتفرع عنها غصون الهزائم!
حاورته: فاتنة الغرة

زياد خدّاش كاتب وقاص فلسطيني يتنفس الشعر ويغزل القصة القصيرة، مهمته الصدمة التي يلقيها على وجه ووعي قارئه باجتراحه دواخله ومخاوفه ومكنوناته التي يقفل عليها بمغاليق من فولاذ.. زياد خداش ذلك الصياد المحنك أو الغواص الماهر الذي يعرف أين يضع شبكته أو طعمه وكيف يعيد تشكيل مفردات عالمه، كاتب مهووس بالجنون وبالمختلف وبالشبقي، صدر له ' نوما هادئا يا رام' في عام 1990، ' موعد بذيء مع العاصفة' في عام 1994، ' الشرفات ترحل ايضا' في عام 1998، وتحت الطبع ' تاء في قميص رجل'.

* زياد خداش تكتب في المختلف المتشابه الذي يشبهنا ويفترق عنا. من أنت بينهما؟؟
* أنا الغريب الأليف، ابن البلد وابن العالم، ابن اهلي وابن بلاد بعيدة لا أعرفها، هنا وطن الكتابة، قدرها المخيف والممتع، تماما في التمزق الجميل والمؤلم بين شاحنتين عنيدتين، شاحنة بلادي وشاحنة الكون، لا خيار أمامي سوى في أن اشبه بلادي، ولا أشبهها في ذات الحريق، قدري أن أسبها وأتنكر لها فيما لو رأيتها تحوم' خجلى حول باص المخيم لا نقود لديها للعودة الى البيت، وأنام نادما وباكيا على بطنها في آخر الليل حين أعود من شطحي وسفري الداخلي واجتياحاتي الوهمية. لا مفر من حمل طعم الوطن في نصف القلب المتعب وحمل توق خيانته في النصف الآخر، حاولت مرة أن أكون بلا وطن وبلا أهل وبلا أنا فكتبت هذيانات تشبه رقائم طينية، حاولت تفكيكها ولكني لم أتعرفها، وكنت بحاجة لخيط أريان لأعود الى جسدي وبيتي، ومع أني من صناع وأحباب المتاهات في الكتابة، الا انني أنفر من مجرد الرغبة الشكلانية الاستعراضية المقيتة في تدويخ القارىء أو اثارة حيرته بصورة فارغة من المضمون أو الدلالات.
* حينما نقرأ نصوصك زياد نشعر وكأننا نقرأ سيرة ذاتية متوزعة بين هذي القصص على اختلاف شخوصها، فالبطل دائما فيه منك وكأنك في كل نص تقدم زاوية مغايرة منك فهل هي محاولة خيانة للذات؟؟
* لا حياة لنص دون حضور كاتبه فيه. كل كاتب فينا موجود في نصه، النص ينبع أصلا من جسد الكاتب ومن روحه، في المقابل جسد الكاتب وروحه جزآن حميمان من جسد وروح العالم، لا خيار لانفصال. حين أجلس لأستجيب لإغواء فكرة، أبدأ في الإطلالة من نافذة روحي، ثم أنهض وأطل من نافذة الكون، تتواشج الإطلالتان وتشكلان نصي، جسدي الثاني، فنصي هو تماما جسد لآخر ينتمي إليّ لكنه بطعم العالم، نصي هو أنا والعالم، لذلك لا انفصال، أما عن اختلاف زوايا النظر إلى عالمي في كل نص، فلا شبهة خيانة فيه، إنه شهية اقتحام أو رغبة فضول عارم أو هو حيرة أمام تعدد أو تكسر وتناقض عالمي الداخلي، فأنا منقسم على ذاتي بصورة فظيعة.
* ربما يعتبر الجنس ثيمة أساسية في نصوصك يدخل بشكل أو بآخر متواريا أو فجاً. هل هي محاولة لصدم القارئ بشكل متعمد أم هي وجبة جنسية أم هاجس خاص؟؟
* الجنس فضلا عن كونه مادة خصبة للتأمل والاستكشاف الوجودي والشهوي هو اسلوبي في الاستمتاع بصدم القارىء ومراقبته وهو ينز شهوة خائفة وغضبا على ذاته وعليّ وعلى بلاده. هدفي 'توتير القارىء ووضعه امام حقائق وجوده الصارخة، هكذا أفهم الفن، صدم القارىء ولطمه بما يخجل منه ويهرب، حتى يفهم ذاته ويناقش مآزقه بكامل الانفتاح، الجنس' شجرة أزمة العرب الكبرى الأساسية التي تتفرع عنها غصون الهزائم والأمراض، علينا ان نهز ونقشر لحاء هذه الشجرة ونعريها ونتخم من ثمرها حتى تصبح شهوة محترمة وطبيعية. كل' ما هو ممنوع 'صديق مواجهتي وكل ما هو محظور رقصتي المنتظرة المجنونة في ساحة الانكشاف والمحاسبة والتفكيك، والجنس أحد مداميك عمارتي الفنية، لا اطيق نصا لأحد لا يصدم مخيلتي ويشوش مسارات عقلي، وهوية خطواتي، ويشكك في حقائق حياتي الراسخة. لا يأتي الفن ليثبت الموجود ويكرس المألوف بل للتشكيك فيهما ونبشهما والحفر حولهما وفيهما، وكان الجنس أداتي في الكشف والنبش والحفر.

* رام الله، غزة، حيفا، ماذا تعني لك هذه المدن؟
* غزة: بنت جميلة جدا محشورة في مخزن خوفا من شباب الحارة.
حيفا: نمرة القلب الوحشية.
رام الله: وجهي.
* يقول البعض انك تكتب بشكل مفرط يصل الى حد الثرثرة ما رأيك؟
* إذن هناك تهمة جديدة، أسمعها لأول مرة، وهي أني أكتب بشكل مفرط، لا أدري إن كانت هناك مسطرة معينة لقياس الإفراط في الكتابة من عدمه، أنا أكتب 'حين أحس أني مضطر للكتابة. هناك نص أسبوعي أكتبه في زاوية ' دفاتر الأيام' في جريدة ' الأيام' الفلسطينية. ربما هي كتابتي الأسبوعية التي أعتاش منها تصنع هذا الإحساس بالإفراط، لأني أكتب هناك نصوصا أدبية وليس مقالات. الكتابة بالنسبة إلي هي مائي الذي أغسل به معدتي صباحا من السموم، ثم ان السؤال الأهم هو كيف أكتب وليس كم أكتب.
* حينما نتحدث عن رام الله لا بد من ذكر مكتبة بلدية رام الله ومقاهيها والغرفة التي كنت تسكنها ومجددا قبر درويش الذي تعشقه حد الثمالة، ما الذي شكلته هذه الأماكن فيك؟
* الغرفة وضريح محمود والأصدقاء ومكتبة رام الله ومقاهي رام' الله كل هذه الأمور وغيرها هو بعض من مرجعياتي المكانية والنفسية في الكتابة. أنا أعشق الأمكنة عشقا يشبه مرضا ما،'نصوصي لا تستطيع التنفس خارج مكان ما. نصوص كثيرة كتبتها البطل فيها هو مكان ما بلا شخصيات أو زمن، فقط تداعيات وهذيانات وشطحات بؤرتها مكان ما. تستجيب لغتي لوجه الأمكنة بشكل فطري، وكأنها فطرت على صحبة الأمكنة، أراقب قصصي وأعرف كم أنا مكانيّ بشكل لعين ومكروه أحيانا، ما إن أبدأ نصا ما حتى أقول مثلا: في مكان ما، أو: هناك خلف المبنى الرمادي قررت تركها، أو: تحت الشجرة العالية اكتشفت ريبتي اللذيذة.... الخ. يحدث أحيانا من ولعي بالأمكنة في نصوص الآخرين زيارة هذه الامكنة الحقيقية وعمل مقارنات ما بين تفاصيلها الحقيقية وتفاصيل وجودها في النص، ثمة متعة مخيفة في اكتشاف التطابق، مرة من المرات قرأت ( العين المعتمة) لزكريا محمد، يكتب فيها عن مكان ما بالقرب من متنزه رام الله، هرعت الى هناك كأني أكتشف المكان من جديد، أنا الذي يعرف هذا المكان جيدا جدا، ومرة أخرى في كتاب مريد البرغوثي الأخير ( الآن هنا الآن هناك)، كتب عن شجرات السرو الثلاث على أطراف مكان ما، بالصدفة كنت أجلس في نفس المكان وأنا أقرأ في الكتاب. 'شعور غريب أصابني، كنت أنقل عيني المصعوقتين ما بين الشجرات الثلاث في النص والحياة، وأحاول أن أعرف من الأصل فيهما؟ ومن الصورة؟ من الأقرب الى حقيقة الوجود؟ من الأجمل؟ كانت متعة مخيفة فيها بعض الألم الغامض.
* هل شكلت شلة الأصحاب ملامحا لشخوص ابطالك؟؟ مالك الريماوي ، صالح مشارفة، جمال القواسمة، خالد جمعة، مهيب البرغوثي، وماذا تعني لك هذه الاسماء؟
* انا رجل أقدس الصداقات، لكني أتصرف بصورة غبية. أصحابي أنفسهم يستغربون عاطفتي الزائدة تجاهم. أحدهم يمرض مرضا عاديا، فأتصل به مرارا لأطمئن، فيستغرب ضاحكا. في المقابل حين يتصرف أحد الأصدقاء معي بشكل بارد في مناسبة تستدعي حرارته كما أظن أنا، أشعر بإحباط شديد وأبدأ في اتخاذ موقف يكون غريبا ومباغتا بالنسبة إلى الصديق. لاحقا حللت ما يحدث، فعرفت أني أريد من الأصدقاء أن يكونوا مثلي، أي طيبين الى درجة الغباء، وهذا مستحيل. نعم أنا طيب غبي، أمي والأصدقاء ثيمتان أساسيتان في نصوصي، لا أدري ربما هو الشعور بالوحدة داخليا، رغم أني دائما أقول لي: كل شيء على ما يرام. وحياتي تسير بشكل جيد. نعم شكـّل بعض هؤلاء الأصحاب ملامح لبعض أبطالي، خاصة صالح مشارقة الذي نسميه جميعا ( القناع)، بسبب كثرة الشخصيات التي تحتشد تحت شفتيه. هو شخصية غنية جدا وملتبسة باجتماع وصراع القيم الريفية والمدينية في روحه. الأصدقاء الذين ذكرتِهم هم أعز الأصدقاء، جميلون، وجميل أنا بهم، بمعاركنا وأسرارنا وذكرياتنا وغيرتنا الخفية من بعضنا بعضـاً، ساندوني في أزماتي وانتكاساتي الكتابية والشخصية وساندتهم في مثلها. الأصدقاء أثمن ما في الوجود.
* تكتب القصة القصيرة منذ وقت ولك مجموعات متعددة وملامح الرواية تتجلى في نصوصك. هل سنرى يوما رواية لزياد خداش أم انك ستكتفي بالقبوع في ملجأ القصة القصيرة؟
* سأكتب الرواية يوما ما، شرط ذلك الوحيد هو أن يطيل الله في عمري، لأنها هاجسي القديم. لدي أفكار سمينة ومعقدة لا أستطيع دلقها في إبريق القصة لأنه نحيل. أحب القصة القصيرة، معشوقتي الطفلة ذات الشعر القصير والأقدام الصغيرة، هي تعشق بوساتي الخفيفة في خاصرتها الرقيقة، وترفض العضّ لأنه لا يناسب لحمها حسب ما تقول. أما أنا فقد زهقت البوس الناعم وأشتاق إلى العضّ. أحلم بالرواية، امرأتي السمراء ذات الشعر الطويل والنهد' الممتلىء بحليب السهول البعيدة التي ستعشق عضّي وتطلبه. سأكتب يوما ما روايتي، أشرب السهول الطويلة، وأخبز الأمكنة، على نار واسعة.
* لِمَ لم يأخذ كـُتـّاب القصة القصيرة حقهم في تسليط الضوء على منتجهم الإبداعي كالروائيين؟ وهل يقلقك هذا؟
* لا يقلقني هذا أبدا. تقلقني الحالة العامة للثقافة الفلسطينية. الروائيون أنفسهم لم يأخذوا حقهم في الانتباه. الحالة الثقافية في فلسطين مخزية. لا أحد يأخذ حقه، هنا يتم تبادل الانتباه بصورة تشبه الصفقات. اندهش من نصي لأندهش من نصك.هذا هو شعار مثقفي فلسطين. ومع الحضور المخيف للفيس البوك صارت الصورة أكثر غرائبية، ( اللايك) يتبادل بين الأدباء وأشباههم، ( كل شخص يستطيع ان يصبح أديبا) بشكل مشترك، اذا لم تضع لي ( لايكا) لا أضع لك، بغضّ النظر عن قيمة النص الفنية. أي عار !! أي عار!!
* تحمل عشقا لمحمود درويش ولحسين البرغوثي لا نظير له. ألا تشعر أنك قد تضيع كمبدع في لغتهما؟؟
* حبي لمحمود درويش وحسين برغوثي حب ناضج، لا ذيلية إبداعية أو تبعية لغوية. هذان الاثنان صنعا بذرتي الجمالية، ثم تركاني اكتشف ذاتي الابداعية، وأصنع صوتي الخاص. لم أسمع شخصا يقول أني متأثر ابداعيا بأحدهما.'أنا واع لتجربتي تماما وأعرف بمن تأثرت في بداياتي وبمن لم أتأثر. لكني 'تأثرت عاطفيا بغيابهما، فأنا شخصيا أعرفهما ولي معهما ذكريات حلوة وضحكات، خاصة حسين البرغوثي. هل ماتا حقا؟ ما أسوأ الحقيقة.
* فقدت صديقين عزيزين على قلبك وفي وقت مبكر جدا على الرحيل: نصر أبو شاور وعايد عمرو. كيف كان وقع الغياب عليك إنسانيا وإبداعيا؟
* كان الراحل عايد عمرو صديقا حميما لي. كنا نلتقي معظم أيام الأسبوع. كان جزءاً من يومي، بصوته السريع، وعشقه للجعة، ووفائه لصديقه الشهيد نصر أبو شاور وغضبه المؤقت، أتذكر مشياتنا في شارع الحسبة في مساءات رام' الله الصيفية، ضجرين وناقمين على العالم، ثم نأوي متعبين الى مقهى شعبي، نشرب القهوة ونحلم بنصوص ومشاريع ثقافية كمجلة مثلا، أو نتحدث عن نصر وحالة أسرته بعده، وكيفية مساعدتها، وعن الراحلين الشعراء الجميلين كالقيسي أو علي فودة أو فواز عيد'أو مروان برزق. كان عايد وفيا جدا لهؤلاء ولا يكف عن التفكير في إنصافهم عبر أمسيات أو إحياء ذكرى وفاتهم أو ميلادهم. لم أكن أعرف أن عايد سينضم إلى هؤلاء المنسيين، وسأجلس مع صالح أو مالك في نفس المقهى نفكر كيف ننصف عايد عمرو ثقافيا، ونفكر في أسرته معيشيا بعده.
* أخيرا زياد.. نصك لاذع ويستند إلى تراث قرائي واضح. من هم آباؤك؟ وهل قتلتهم جميعا؟
* كان إدوار الخراط أول الآباء. فتنت أيما فتنة بلغته الشعرية وأجوائه القصصية الشبحية وشخصياته المتعبة والشهوية والمحبطة. التقيت به أواخر التسعينيات في بيته في القاهرة. كان ودودا جدا، وحين أخبرته أنه كان أحد آبائي طلب مني أن أذبحه، فأخبرته أن دمه قد سال منذ سنوات على مذبح إبداعي، فضحك.

0 التعليقات:

إرسال تعليق