حوار مع نهاد الحاج محمد ( سائق محمود درويش )

تعودت على غيابات الأستاذ محمود درويش لذلك مازلت حتى اللحظة بانتظاره
حاوره زياد خداش


بالنسبة إلي من الصعب فصل ملامح وجه نهاد الحاج محمد عن ملامح محمود درويش، لـم يكن نهاد مجرد سائق للشاعر العظيم، كان عنواناً من عناوينه وإشارة من إشارات وجوده وتحركاته في رام الله. بلطف شديد، كان نهاد يرفع هاتفه الخلوي مجيباً عن سؤال يتكرر باستمرار في نهاراته ولياليه: "كيف ممكن انشوف محمود درويش؟". على مدار مراحل الحوار كان نهاد يأتي إلى بيتي أنيقاً معطراً تماماً بشكل مبالغ فيه، وحين سألته: ما سر هذه الأناقة الزائدة؟ أجابني: ألسنا في حضرة الأستاذ. هو نهاد الخجول والوسيم وحافظ أسرار شخصية محمود درويش، والـمصلح لكل أعطال بيته، الذكي (كما وصفه محمود)، القارئ لشعر محمود، وشعر غيره، والـمتوقع لكل كلـمة أو غضبة أو بسمة أو حيرة أو نأمة أو إحساس يصدر عن الشاعر الراحل في مواقف كثيرة، نهاد الذي وجد نفسه في منتصف ليلة 1/1/2009 بعد شهور قليلة على رحيل الشاعر، يقف بسيارته أمام بيت أحد أصدقاء محمود الذين سهر محمود في بيتهم في ليلة رأس السنة الفائتة "انتظرته حتى يخرج، كما أفعل تماماً، لكنه لـم يخرج، لأول مرة لـم يكن الأستاذ دقيقاً في مواعيده". بعد رحيل الأستاذ كما يخاطبه دائماً نهاد، انقلبت حياته رأساً على عقب، ما زال يعيش سؤالاً كبيراً هذا الـمقعد الفارغ بجانبي، هل معقول أن يبقى فارغاً من الأستاذ؟ ومنذ رحيل الأستاذ توقف عن قراءة الجرائد، كل تصرفاته ما زالت محكومةً برغبات الشاعر الكبير. الحوار كان متوتراً جداً، كنت أعيد صياغة السؤال أكثر من مرة، وكان نهاد يجيب بشكل متدفق، ولـم يكن يعرف من أين يبدأ وكيف ينتهي، إن الكلام عن محمود ليس سهلاً، في رأس نهاد تلال من الذكريات والأسرار والـمواقف مع الشاعر العظيم وستحتاج منا شهوراً طويلةً لكتابتها، نهاد وافق أخيراً على هذا الحوار، وهو الأول بعد رحيل الأستاذ، وفاءً ونوعاً من رد بعض الجميل للأستاذ "إنه واجبي أن أوضح لكل محبيه إنسانية وطيبة وشفافية وذكاء شخصية الأستاذ". هنا حوار صاخب وعاطفي وإنساني مع سائق محمود درويش فلنتابعه:
س1 ــ عامان على رحيل محمود درويش، ماذا تقول في ذلك كسائق لـمحمود درويش لازمه طيلة اثنتي عشرة سنة تقريباً؟
ج ــ الحديث عن الأستاذ محمود ليس سهلاً، وليس باستطاعتي لـملـمة الكلام عند الحديث عن الأستاذ، وأنت تعرف كم ترددت في الـموافقة على إجراء هذا الحوار عن الأستاذ، وأنا أعترف لك أنني خائف الآن وينتابني شعور بخوف شديد من نسياني أصغر الـمواقف التي منحني إياها الأستاذ، خائف جداً من أن أبدو وكأنني أركب موجة الحزن العام على الأستاذ، حتى هذه اللحظة لا أعترف برحيل الأستاذ لأسباب عديدة، منها أنني تعودت على غياب الأستاذ، حيث كان دائم التنقل بين رام الله وعمّان وخارجهما، وأنا حتى هذه اللحظة أنتظر عودة الأستاذ، لا أستطيع أن أسلـم لواقع رحيله، يلاحقني الأستاذ محمود في الـمنام واليقظة، ولن أنسى لحظة مهاتفتي لأكرم هنية في الـمستشفى بأميركا عندما أخبرني أن أدعو الله معهم ليحفظ صحة الأستاذ، لحظتها تيقنت أن الأستاذ لن يعود، في أول شهور رحيله، لـم أعرف للنوم طعماً، كان الخبر فظيعاً، هل معقول أن لا أرى الأستاذ مرةً أخرى؟؟ لن أعترف برحيل الأستاذ على الرغم من أنني أعرف أنها سنة الحياة، لكنني لن أعترف أبداً، وسوف أظل بانتظاره إلى الأبد.
س2 ــ حدثنا عن قصة عملك كسائق لـمحمود درويش.
ج ــ كان ذلك في العام 1996، حين قرر الأستاذ محمود أن يعود إلى بلاده، كنت أعمل في مكتب وزير الثقافة آنذاك الأخ ياسر عبد ربه وقد اختارني السيد الوزير لأكون سائقاً للأستاذ محمود، وقد أبلغني الأستاذ، أن الرئيس الراحل قد صرف له سيارة مع سائق من الأمن لكن الأستاذ محمود رفض سائق الأمن، وعرض علي العمل لأكون سائقاً له، في البداية صعقت من هذا الاختيار، كنت فرحاً جداً وفخوراً إلى حد الذهول، سألني محمود هل ترغب في أن تكون سائقي؟ فأجبته إنني كنت قارئاً لشعرك وقد قرأت قصائدك في السجن وكنت أقف كلـما رأيتك تلقي قصائدك في الأمسيات وتسألني الآن هل ترغب في أن تكون سائقي؟؟. فضحك الأستاذ، وقال لي "كمان بتعرف تحكي؟" فكانت هذه بداية العلاقة، كنت محظوظاً بالعمل معه، حدثت بعض الأخطاء في البداية؛ بسبب عدم معرفتي بشخصيته ولأني أعمل أول مرة سائقاً بشكل عام، كان الناس يسألونني عن عملي فأجيبهم أنا سائق الشاعر الكبير محمود درويش وهذا قمة طموحي.
س3 ــ كيف كان يعاملك، احكِ لنا عن مواقف معينة؟
ج ــ في السنوات الخمس الأخيرة، توطدت علاقتي مع الأستاذ محمود، كنت أشعر بأن اهتمامه بي بشكل شخصي قد زاد، كان يسألني دائماً ماذا قرأت البارحة ولـمن؟ وكان يسألني عن رأيي بقصائده، فأجيبه، كانت هناك ثقة ومداعبات وطرائف وأسئلة شخصية. كنت دائماً أخاف من اقتحام عالـم الأستاذ الشخصي، لكن دائماً كان يفتح لي الأبواب، كان مهذباً جداً معي، أحياناً كنت أخطئ في عملي (كأن أتأخر في الحضور إليه) لـم يكن يعنفني أبداً ولـم يكن يرفع صوته علي أبداً. تأخرت عليه عدة مرات مصادفة، فقال لي بعد عدة أيام مداعباً "هناك رسالة ما تريد أن توصلها إلي عبر تأخيراتك، أليس كذلك؟" فنفيت ذلك، لكنه أصر على رأيه "هناك مطالب معينة لك تريد أن توصلها بتأخيراتك، أليس كذلك يا نهاد؟". بكل تواضع ودون عصبية كان يناقشني وبأسلوب فيه من الدعابة الكثير. كان كريماً جداً معي، من كل النواحي، كان يصعقني بكرمه واهتمامه بوضعي الـمادي، أظن أن سر انسجامي مع الأستاذ محمود هو أنني استطعت حفظ أسرار شخصيته، بمعنى، كنت أعرف ما كان يحب وما كان يكره، وكنت حريصاً أكثر على أن أكون دائماً محافظاً وبدقة على سلوكي وحضاريتي وعلاقتي الطيبة مع الناس وذلك خوفاً من أن أسيء إلى مكانة الأستاذ وسمعته.
س4 ــ قل لنا موقفا دافئاً لن تنساه مع محمود درويش؟
ج ــ كانت الدنيا ثلج في رام الله، رن هاتفي، فإذا به الأستاذ محمود من بيته في عمّان، سألني أسئلة كثيرة؟ وتحدثنا طويلاً حول قضايا كثيرة؟ اكتشفت لاحقاً بعد حديث طويل أن الهدف من الـمكالـمة كان هو أن يطمئن إلى أحوالي. هل لديك مدفأة؟ هل بيتك على ما يرام؟ كان يسألني بحنان غريب.
موقف آخر، حين تزوجت وكلـمته عبر الهاتف، كان في عمان، فطلب الحديث إلى زوجتي وقال لها "ديري بالك على نهاد" وحين أنجبت ابنتي ياسمين كان هو في عمان، أرسل لي (نقوطها) عبر الأستاذ ياسر عبد ربه، وبعد أن عاد بعد عدة أسابيع لـم ينس ياسمين، زرناه في بيته أنا وزوجتي وياسمين، وأهديناه علبة شوكلاتة، ما زالت حتى الآن في براده، ويوم زواجي ساعدني في تكاليف العرس، وكان يفكر دائماً كيف سوف يساعدني في دفع أقساط الشقة، كنت داخلياً أشعر بأن الأستاذ محمود يعتبرني ابناً له.
موقف آخر، لن أنساه، كان في أحد الـمساءات يجهز عشاءً له، فاتصل به أصدقاء "وعزموه" على العشاء، فاضطر إلى أن يلبي الدعوة، اتصل بي، وحين وصلت، طلب مني أن أدخل، أخبرني أنه مضطر للـمغادرة، (وعزمني) على عشائه الذي كان يجهزه، كان موقفاً لن أنساه.
كان الأستاذ محمود من أرق الناس في معاملته لي. حتى حين كان يريد أن يتحرك إلى مكان ما ليلاً، كان يتصل بي ويبادرني بالسؤال التالي: "هل لديك مشاوير خاصة؟ هل أنت مشغول؟ هل أنت متعب؟"، وذلك قبل أن يطلب مني أن أحضر وأقله إلى مكان ما، هذا الشعور الصادق استمر معي عشر سنوات.
س5 ــ كيف ترى نفسك قبل محمود درويش وبعده؟
ج ــ سأكون صريحاً معك، قبل الأستاذ محمود لـم أكن قارئاً كما أنا الآن، لـم أكن اهتم بأي شيء ثقافي، مع الأستاذ محمود، كنت أقرأ وأهتم بالحياة الثقافية، كنت أخاف من سؤال الأستاذ محمود "لـمن قرأت وماذا قرأت الليلة؟" كنت أحب أن أكون جديراً به، أن أنال إعجابه، أن أقترب من عالـمه، في البداية كنت أقرأ كواجب، لاحقاً تعودت وصرت أقرأ كعادة واستمتاع وفهم، واكتشفت أنني أمتلك موهبة القراءة، وكان يسألني وأراه سعيداً بإجاباتي.
س6 ــ أعطني مثالاً على أسئلة محمود لك؟.
ج ــ في أمسية حيفا مثلاً التي أثارت جدلاً واسعاً، سألني قبل الأمسية ما رأيك بما يحدث؟
أجبته إن حيفا ستتحرر مدة ساعتين أستاذ محمود، وسيلقى الشعر الوطني هناك، في حيفا، وكان الأستاذ محمود سعيداً جداً بإجابتي، رأيت ذلك على ملامح وجهه، بعد الأمسية حين عاد إلى رام الله بصحبة سهام داوود، منظمة الأمسية، أصر على معرفة رأيي بالأمسية. وقال لسهام أريد أن أعرف رأي الناقد نهاد في الأمسية، فأجبته إنها أجمل أمسية عملتها وستعملها في حياتك.
س7 ــ حدثني عن آخر لحظة رأيت فيها محمود درويش قبل مغادرته رام الله إلى أميركا؟
ج ــ قبل سفره إلى أميركا بخمسة أشهر (أريد أن أعود قليلاً إلى الوراء) أصاب الأستاذ محمود تعب مفاجئ، كان هناك مغص شديد وإرهاق، كان الشريان قد بدأ يتوسع، فسافر إلى عمّان وقابل طبيبه، وعلى أثر هذه الواقعة قرر الأستاذ محمود أن يجري فحوصاً لقلبه وصحته. فاتصل بطبيبه في باريس، فلـم ينصحه بعمل عملية القلب، وكنت سألت الأستاذ عن صحته، فأجاب هي مجرد فحوص وأنا لـم أقرر بعد عمل العملية، أريد أن أعرف نسبة النجاح والفشل وبناء على هذه الـمعايير سأقرر، وكان الأستاذ محمود يخاف من مضاعفات العملية فيما لو أجراها، مثل إصابته بالغيبوبة أو الشلل، لـم يكن الأستاذ يخاف الـموت. وقد وصف له طبيب عراقي شهير جداً، حيث سافر إليه في هيوستن، في ولاية تكساس، آخر لحظات رأيته فيها، كانت حين أوصلته من البيت إلى الـمكتب بانتظار تكسي الجسر، أتذكر صوته وهو يغادر قائلاً (رداً على سؤالي عن وسيلة الاتصال به في أميركا)، جوالي مفتوح وبإمكانك الاتصال بي.
س8 ــ ماذا عن آخر أيامه في رام الله؟
ج ــ في شهر حزيران 2008، كان قد تقدم الأستاذ محمود بطلب فيزا للسفر إلى أميركا، وقد تأخرت الفيزا، كثيراً، وكان قد زار أهله مدة يومين في قرية الجديدة، ثم سافر إلى فرنسا، حيث آخر أمسياته كانت هناك، وكانت ناجحة جداً وكان الأستاذ سعيداً بها للغاية. ثم عاد إلى رام الله حيث كانت الفيزا جاهزةً، كان الأستاذ محمود يحب الفواكه الصيفية كالـمشمش والعنب الخليلي والتوت والتين، قلت له سأحضر لك مشمشاً بلدياً وتيناً وتوتاً أبيض كان يحب التين الناضج الحلو. وحين سافر لـم يكن هناك أي هاجس لـموت قادم، أعطاني نقوداً لأسدد فواتير ما، وقال لي سنسدد باقي الفواتير بعد عودتي من أميركا، وهذا دليل على تمسك الأستاذ بالحياة وعدم توقعه وفاته، كما قال بعض الأصدقاء. كان الأستاذ متمسكاً بالحياة حتى آخر لحظاته.
س9 ــ هل كان محمود خائفاً من الـموت؟
ج ــ كان الأستاذ خائفاً من الشلل، لا الـموت، كان يفضل الـموت على الشلل والإعاقة، الـمخاوف التي حسب حسابها الأستاذ محمود هي التي أدت إلى وفاته. وهي خوفه من انتشار الكولسترول في جسمه، تواصلت معه قبل العملية بساعات عن طريق أصدقائه الأستاذ أكرم هنية والأستاذ علي حليلة، وآخر مكالـمة كانت حين رد علي الأخ علي حليلة حيث طمأنني إلى نجاح عملية الأستاذ محمود. فوجئت بمكالـمة ليلة الجمعة من الشاعرة سهام داوود تقول لي فيها إن الوضع خطير جداً، وكنت دائم الاتصال بجوالات الـمحيطين بالأستاذ ويوم الجمعة مساء عرفت أن الوضع غاية في الخطورة، ذهبت إلى الأستاذ ياسر عبد ربه ورأيت في وجهه علامات رحيل الأستاذ. لـم أنتظر طويلاً هناك، لـم أستطع تحمل ملامح الفجيعة في وجه أبي بشار.
س10 ــ صف لنا يوم محمود درويش في رام الله؟
ج ــ كان صباح الأستاذ محمود بطيئاً، كان يصحو عند التاسعة، أشتري له الجرائد وأذهب لإحضاره إلى مكتبه في مركز خليل السكاكيني، تقريباً عند الحادية عشرة صباحاً. طبيعة أيامه زمن مجلة (الكرمل)، تختلف عمّا بعدها. أيام (الكرمل) كان شبه يومي يأتي إلى العمل وكان غداءه شبه اليومي مع صديقه ياسر عبد ربه (أبو بشار) ومع بعض الأصدقاء الـمشتركين للاثنين. وفي بعض الـمساءات كان الأستاذ، يمارس رياضة الـمشي مع بعض الأصدقاء، في حي الطيرة الذي يسكنه، وكان مولعاً بلعب النرد مع عدد من الأصدقاء، وكانت تمر على الأستاذ أحياناً أيام عديدة لا يخرج فيها من البيت، وحين سألته لـماذا تعتكف في البيت لأيام؟ أجابني إنه "بيتوتي"، وأخبرني أنه كانت تمر عليه أسابيع في بيته بعمان لا يخرج فيها من البيت، كان يقرأ بنهم ويكتب أحياناً.
س11 ــ محمود درويش كان عاشقاً للقهوة كيف كنت تتعامل مع هذا العشق؟
جــ كنت حريصاً على أن تكون القهوة دائماً في بيته وبمواصفاته التي أحفظها وهي، نصف شقراء ونصف سوداء مع (هال) ظاهر، كان الأستاذ يعشق رائحة القهوة وكان يشمها باستمتاع في السيارة وأنا أحملها، وسأروي طرفة مرة من الـمرة اشتريت له القهوة، كعادتي، في اليوم الثاني سألني هل غيرت الـمحل الذي تشتري منه القهوة؟ فاستغربت سؤاله وسألته لـماذا؟ فأجاب إن طعم الهال قد تغير، فذهبت من فوري إلى صحاب الـمحل وسألته "هل غيرتم نوعية الهال؟" فاستغرب سؤالي، وقال لي لـم سؤالك؟ فأجبته إن القهوة هذه هي للشاعر محمود درويش، فقال لي مصعوقاً، صحيح لقد غيرنا نوع الهال البارحة.
س12 ــ علاقته مع الحاسوب كيف كانت؟
ج ــ لـم يكن يجيد استخدام الحاسوب، وقد أهداه مرةً الأستاذ ياسر عبد ربه (لاب توب)، وحاول الكاتب حسن خضر تعليمه استخدامه، لكنه لـم يتكيف مع هذه الوسائل، أحياناً كنت أستخرج له من الحاسوب مواد ثقافية من مجلات أو مواقع أو صحف عالـمية، وكنت، أيضاً، أحضر له ما يُكتب عن شعره من مقالات وتحليلات.
س13 ــ حدثنا عن ملامح الأستاذ قبل الأمسيات الشعرية بساعات؟
ج ــ في آخر أمسية له في رام الله 9/7/2008 وبينما نحن متجهون إلى قصر الثقافة ــ مكان الأمسية ــ كان برفقة صديقه الراحل سهيل جدعون، وحين وصلنا قصر الثقافة كان هناك مئات السيارات، سمعت الأستاذ محمود يقول لصديقه سهيل وكان التوتر بادياً على صوته، كل هؤلاء الناس جاؤوا إلى أمسيتي؟؟ فقلت له أنا: أستاذ هذه بداية قدوم الناس، فأجابني مداعباً "الله يعينهم على ها الساعتين". وقد سألته مرةً لـماذا تشرب الـماء بكثرة خلال الأمسية الشعرية، هل هو العطش؟ فأجابني: لا أعرف حقاً.
س14 ــ ماذا تقول لأدونيس الذي قال في محمود درويش ما قال؟
ج ــ لست ناقداً ولا شاعراً ولا كاتباً ولكني مواطن عادي، شاهدت إساءة الشاعر أدونيس للأستاذ، فاستغربت طروحاته، التي يقول فيها إن قضية فلسطين ساعدت محمود درويش، فأنا أدعو الشاعر أدونيس إلى أن يكتب عن فلسطين لترفع مكانته كما رفعت مكانة محمود درويش كما يدعي، ثم سنطلب من النقاد الـمقارنة بين قصائد الشاعرين؟. أظن أنه يغار من الأستاذ محمود درويش بسبب أن جماهير الأستاذ محمود في كل عواصم العالـم تتجاوز مئات أضعاف أهم شعراء تلك العواصم،
وأقول لأدونيس فلنفحص هل تتفق معك جماهير الشعر في كل أنحاء العالـم؟؟ أم هو رأيك وحدك، وهذا ما أظنه، فلندعُ إلى أمسيتين لك ولصوت الأستاذ في أية مدينة تريدها، وسنرى حكم الجماهير على الأمسيتين، وأنا أرشح قصيدة واحدة تُقرأ بصوت الأستاذ أمام قصائد أدونيس، القصيدة التي أرشحها هي "السروة انكسرت".
س15 ــ علاقة الأستاذ مع الـمعجبين كيف كانت؟
ج ــ كان الأستاذ يكره الفضوليين جداً، كان منظماً ودقيقاً في مواعيده، ويتضايق من الذين يأتون إليه دون موعد. ويصرون على الدخول في لحظة وصولهم نفسها، في الأماكن العامة كالـمطعم ــ مثلاً ــ كان الناس يأتون إليه ويسلـمون عليه وهو يأكل، ويطلبون منه صوراً معه، كان يترك الأكل ويلبي طلبهم ثم يعود ثانية إلى الطعام، وكان الأستاذ مهذباً جداً وحضارياً في تعامله مع الناس. كان يمنعني من استخدام "الزامور" لأنبه سائقاً آخر أغلق الشارع، على الرغم من أن الأستاذ قد يكون على عجل.
س16 ــ ما قصة محمود درويش مع قيادة السيارات؟
ج ــ كان الأستاذ يخاف من سرعة السيارات، ويمتعض من السائق الـمتهور، ويحب السائق الهادئ والنظيف، لـم يمتلك رخصةً في حياته أبداً، كان شديد الانتقاد لسائقي العمومي في كل أنحاء العالـم، وكان يقول لي إن سائق العمومي هو هو في كل أنحاء العالـم، وهم يتمتعون بالصفات نفسها.
س17 ــ يقال إن محمود درويش كان يطهو بعض الأكلات بشكل متقن، حدثنا عن علاقته مع الطهي والطعام.
جــ كان الأستاذ يحب الأكل البيتي، حتى عندما كان أصدقاؤه يدعونه إلى الغداء في الـمطاعم كان يفضل أن يكون الغداء في البيت، غداؤه اليومي كان يتكرر بشكل شبه يومي وهو (ستيك العجل) مع صحن السلطة العربية أو قلاية بندورة بلحم رأس العصفور من لحم الضان، كان مولعاً بالسمك، وكان يتقن أكلة الفاصولياء البيضاء، (ويعزم) أصدقاءه عليها باعتزاز. وكان يحب أكلة الكوارع التي كان يعدها بإتقان شديد صديقه الأخ ياسر عبد ربه، الذي كان الأستاذ يحب جداً الأكلات التي يعدها (أبو بشار). وهناك قصة سأرويها عن السمك والأستاذ، كنت أحضر له سمك يافا الطازج من بائع سمك في رام الله، فسأل أحد الأصدقاء البائع لـماذا سمكنا يختلف عن سمك محمود درويش؟ فأجابهم كونوا محمود درويش لأعطيكم سمك محمود درويش.
س 18ــ احكِ لنا عن أصدقاء محمود درويش؟
ج ــ ماذا تقصد بسؤالك؟ لـم أفهم؟ هل تقصد الأصدقاء قبل رحيل الأستاذ أم بعد الرحيل؟ قبل الرحيل كانوا كثراً، بعد الرحيل الأوفياء فقط بقوا أصدقاء الأستاذ، وهم يعرفون أنفسهم، وهم من رتبوا بيته حين دخل إلى رام الله للاستقرار، وهم من اهتموا بضريحه، وكل من ساهم ويساهم في إنشاء صرح الأستاذ محمود، ومن رفع الإساءة عن الأستاذ التي لحقت به عبر فاجعة نشر ديوانه الأخير، هؤلاء هم أصدقاؤه حسب وجهة نظري.
قبل رحيله كان للأستاذ شبكة صداقات واسعة، على مستوى عربي وعالـمي، من الـمثقفين والسياسيين ورجال الأعمال، ومنهم أصدقاء شخصيون جداً. أعطيك مثالاً، في آخر سنتين، تقريباً، كان يسهر بشكل يومي عند صديقه رجل الأعمال الفلسطيني، الراحل، سهيل جدعون.
س19 ــ عند أية ساعة كان محمود يخلد إلى النوم؟ وما علاقته مع التلفاز؟
ج ــ لـم يكن يتجاوز الثانية عشرة والنصف، كان يحب الدراما التاريخية السورية، ومباريات كرة القدم، ويشاهد بعض الأفلام الأجنبية، لـم يكن الأستاذ يحب أن يرى نفسه على الشاشة، وسألته مرة، هل رأيت فيلـمك الذي أخرجته معك سيمون بيطون، حيث عرض على القنوات الـمحلية؟ فقال لي، لا أحب مشاهدة نفسي على التلفاز.
س20 ــ هل كنت تستنتج من خلال هيئة محمود درويش أنه مقبل على كتابة ما ؟ هل كنت تلاحظ إمارات الـمخاض الإبداعي في جسده وسلوكه؟.
ج ــ كنت أكتشف علامات قدوم عمل شعري جديد للأستاذ من خلال أسئلته لي، إلحاحه على سؤال مثلاً هل نوّر اللوز في البلد؟ فسألته هل من عمل جديد؟فأجابني إنه يعمل على عمل جديد، فكان عمله الرائع (كزهر اللوز أو أبعد)، وكان دائم السؤال عن سر اختفاء عصافير الدوري حول أشجار مكتبه في السكاكيني، كنت أعرف أن ثمة أشعاراً تتكون من خلال أسئلته عن أشياء معينة، كنت أعرف أنه بصدد كتابة ما. سأروي هنا حادثة طريفة، كانت مرافق بيت الأستاذ في رام الله تعاني من أعطال متزامنة في الـماء والكهرباء والتدفئة والتلفاز، وبعد أن أمضيت وقتاً طويلاً في إصلاحها طلب مني الأستاذ محمود أن أرافقه إلى مكتبه في البيت، وهناك طلب مني أن أقوم بكتابة الشعر نيابة عنه، كان الأستاذ يضحك وهو يقول لي أنت تقوم بكل شيء نيابة عني فلـم يبق سوى الشعر هيا اكتب عني (وخلصني).
س21 ــ ماذا عن مسودات قصائد محمود درويش، كيف كنت تتعامل معها؟ كشخص قريب جداً من محمود؟
ج ــ كنت أرى الـمخطوطة الأخيرة التي تذهب لرياض الريس، مثل مخطوطة (حالة حصار) وفي (حضرة الغياب) (وأثر الفراشة)، وكان الأستاذ يطلب مني أن أصور هذه الـمخطوطات وكنت أرسلها أنا عبر (أرامكس) لرياض الريس. وكان الأستاذ يحتفظ بنسخة عن الـمخطوطة لديه، وأتوقع أنه كان يرسل معي الصورة ويبقي الأصلية لديه. لـم يكن أحد على الإطلاق يرى مخطوطته الشعرية قبل أن تصبح كتاباً، وبعد صدور الكتاب كان محمود يهدي عشر نسخ تقريباً لأصحابه، وأريد هنا أن أكشف عن أن الأستاذ كان يكتب ثلاث نسخ من الـمخطوطات بمعنى ثلاث مراحل، وهذه معلومات منه، حيث وصف نفسه في حديث مع أحد أصحابه في السيارة، مرة، بأنه (نكد) في الكتابة، بمعنى أنه كان يكتب مخطوطة ما، ثم يلقي بها جانباً ويبدأ في عمل آخر ثم يعود لاحقاً إلى الأولى وهكذا، ثلاث مراحل من كتابة الـمخطوطة يكتب الـمسودة الأولى ثم يعدل عليها ثم يعدل على الـمعدل عليها. وهكذا تمر الـمخطوطة بثلاث مراحل من التعديل. في (أثر الفراشة) كانت هناك مسودة سابقة في بيته في رام الله بعناوين مختلفة ونصوص مشطوبة، وتبين لنا أنه لـم يتلف الـمخطوطة الثانية، هذه الـمسودات موجودة وتم التحفظ عليها.
س22 ــ ما رأيك وما هو موقفك من طباعة ديوان محمود درويش الأخير بعد وفاته؟.
ج ــ لو عرفت لجنة الأصدقاء الذين أشرفوا على طباعة عمل الأستاذ الأخير كيف كان الأستاذ يكتب شعره لـما أقدموا على خطوتهم التي أدت إلى هذا السجال، لقد أساءت طباعة هذا الديوان إلى الأستاذ بكل الـمعايير، صار هناك نقاد يقيمون شعر الأستاذ وهم لا علاقة لهم بالنقد. ألـم يكونوا يعرفون أن هذه الـمخطوطة لـم تكن جاهزة؟؟ لا أريد أن أشكك في نواياهم، أعتقد أنهم تصرفوا بحسن نية، لكنهم اخطؤوا خطأً كبيراً، فلو كلف أحد النقاد الذين كان الأستاذ يثق بهم مثل الأستاذ صبحي حديدي، لـما حدث ما حدث، فالـمخطوطة الأصلية لـم تصل لـ(رياض الريس)، بالـمناسبة أنا الذي كنت أرسل مخطوطات الأستاذ إلى رياض الريس، وما زلت أحتفظ بفواتير بريد (أرامكس)، الذي حدث على ما أظن أنهم اخطؤوا، فقد فرغوا الـمخطوطة على الحاسوب ثم أرسلوها، لـم يرسلوا الأصلية كما كان الأستاذ يفعل. تخيل كارثة أن يقوم أي شخص بتفريغ أشعار الأستاذ على الحاسوب؟؟ من يقوم بذلك عليه أن يكون شاعراً وإنساناً مؤتمناً وذكياً وحريصاً.

س23 ــ هل تستطيع أن تتخيل غضب محمود لو قدر له أن يعرف ما الذي حصل لأشعاره الأخيرة؟
ج ــ لـم يكن الأستاذ ليسمح لأحد بأن يتدخل في عمله الشعري أبداً أبداً، كان يفصل بين عمله وحياته الاجتماعية.
س24 ــ بعد رحيل الأستاذ أين أنت الآن مهنياً، وألاحظ أنك ما زلت تحتفظ بسيارة الشاعر الكبير؟
جــ أعمل الآن في مؤسسة محمود درويش التي تأسست بعد رحيله، وما زلت أحتفظ بالسيارة، وكل شيء كان يؤمنني عليه الأستاذ ما زال معي، لأثبت لكم مجدداً أن محمود درويش لـم يرحل كما تعتقدون. بعد أشهر من رحيل الأستاذ انتبهت إلى أنني لـم أغسل السيارة، علـماً أنني كنت أغسلها بشكل يومي حين يكون الأستاذ في رام الله. وقد بقيت السيارة معي بطلب من الأخ ياسر عبد ربه، حيث كنت رافضاً أن أركب السيارة بعد رحيل الأستاذ، وقد أصر الأخ ياسر عبد ربه على ترك كل شيء لـمحمود على حاله، حفاظاً على طقوس محمود ووفاء منه إلى صديقه الأقرب إلى قلبه وبيته وأريد هنا أن أنوه بوفاء ياسر عبد ربه النادر لـمحمود درويش بعد رحيل الأستاذ.
س25 ــ لـماذا تأخر باعتقادك بدء العمل بصرح محمود درويش حتى الآن؟
جــ حسب معلوماتي، واطلاعي، لكوني أعمل في الـمؤسسة، هناك بعض رجال الأعمال الفلسطينيين الذين تم التوجه إليهم بطلب الـمساهمة في إنشاء هذا الصرح الوطني الكبير، وعدوا في البدايات بمبلغ ضئيل، مقارنة برأسمالهم، وذكرت أسماؤهم في الـمؤتمر الصحافي، ولـم يوفوا بوعودهم حتى اللحظة، وفوجئت أيضاً بأن رجال أعمال فلسطينيين، لـم يجلسوا في حياتهم على الإطلاق مع الأستاذ محمود قد تبرعوا من أول لحظة، إنني أغار كمواطن فلسطيني، من رجال الأعمال اليهود في أوروبا الذين يساهمون ويتبرعون لإنشاء شارع أو جامعة في إسرائيل.
س26 ــ كيف كانت علاقة محمود مع الأطفال؟
ج ــ كان يحب الأطفال، في آخر سنواته كنت ألاحظ ميله لـمداعبة الأطفال، الأستاذ إنساني للغاية، رقيق إلى أبعد الحدود، وحين هاتفته في أميركا قبل العملية بساعات، قال لي قبل أن تطمئن إلى صحتي، أخبرني هل (حكت) ابنتك ياسمين أم ليس بعد؟ هل صارت تحب أن ترى نفسها في الـمرآة؟.
س27 ــ ماذا عن مواقفه الوطنية هل كنت تناقشه فيها؟
ج ــ كان وطنياً جداً جداً وكان يتألـم لسقوط الشهداء، كنت أدخل عليه في الـمكتب وكنت ألاحظ الألـم على وجهه وهو يتصفح الجرائد. كان يقول لي "تصور اليوم عشرة شهداء"، وأتذكر بوضوح مقدار ألـمه وحسرته على مأساة هدى غالية. وكنت أعرف أنه سيكتب عنها وكتب، أسبوع كامل وهو يتحدث معي عن هدى وعائلتها الشهيدة، كان مسكوناً بفاجعتها إلى أبعد الحدود. ومحمد الدرة أيضاً، كنت أعرف أنه سيكتب عن مأساته وكتب.
س28 ــ كيف كانت علاقته مع أمه؟
ج ــ كان يحبها جداً، لكنه كان يخجل جداً منها. كنت ألاحظ ملامحه حين يحدثني عنها، حين أسأله عنها، ثمة حب واحترام ومحبة في علاقته معها، تعرفت إلى والدة الأستاذ في أوائل سنوات عملي، كانت تزوره في رام الله أسبوعياً مع أبنائها وأحفادها. يحضرون السمك ويتغدون معه. وأحياناً كان هو يزورهم عبر مدينة جنين، في آخر سنواته حين كان يزورها، كنت أسأله عندما يعود عن صحتها، فكان يجيبني إنها بصحة ممتازة وهي تسألني عنك لحظة وصولي إليها، وأسأله: هل ما زالت تتذكرني؟ ويجيبني إنها لا تنسى شيئاً وذاكرتها حديدية، وقد زرتها بعد رحيل الأستاذ، واستقبلتني بحفاوة وطلبت مني الجلوس بجانبها، وكانت تقول لي راح راح راح الحبيب.
س29 ــ هل أنت راض عن وجود ضريح محمود درويش في رام الله؟
ج ــ وجود الضريح في رام الله يسهل على الفلسطينيين الوصول إليه، محمود رمز من رموز فلسطين، وفلسطين كلها تحب أن تراه وتزوره، وقد شاهدنا جنازته. الضخمة التي شارك فيها الآلاف، الأمر الذي شكل حالة استثنائية لشاعر يتم الاحتفاء به شعبياً قبل رسمياً، كنت ألتقي بعمال تركوا أعمالهم ليشاركوا في الجنازة، التقيت بسيدة مسنة كانت تبكي على ضريحه سألتها هل تعرفين محمود درويش شخصياً ؟ أجابت إن ابنها الشهيد كان يحبه، ألا يكفي هذا لأبكيه؟؟ .
س30 ــ هل أنت راض عن جنازته؟ هل من ملاحظات وأخطاء؟
ج ــ كانت غير منظمة، وكان يجب أن تكون أكثر تنسيقاً وترتيباً.
س31 ــ ماذا تقول لـمحمود لو قدر له أن يكون أمامك؟
ج ــ صعب تخيل الـمشهد، في سؤالك هذا أنت تحاول أن تقنعني أنه لن يعود، وهذا مستحيل، الأستاذ محمود سيعود يوماً ما، ثق بذلك؟.


تاريخ نشر المقال 10 آب 2010

0 التعليقات:

إرسال تعليق