محمود درويش الذي يزداد حياة

عامان على غيابه الغريب، غيابه الذي لا يشبه الغياب، تماماً مثل حضوره الذي لا يشبه أي حضور، عامان من شباب شعري مستمر، ومن حياة تزداد حياةً، من شرفة بيته تحت التراب، لم يهدأ محمود درويش لحظة واحدة، كأنه بدل بيته فقط، أو ثيابه أو نظارته أو لون قلمه، كتب الكثير من القصائد، وأحيا العديد من الأمسيات، وأجرى حوارات مع الصحف، وترجمت كتبه إلى لغات جديدة، لم يتغيّر شيء، ما زالت حالة الحب الخاصة التي اسمها محمود درويش تعيش في كل مكان، كل شخص يقرأ محمود فهو يقيم أمسية مصغرة في قلبه، أمسية حقيقية بصوت محمود وإشارات يده وكوب مائه، آلاف الأمسيات تنتظرنا في المستقبل.
في كل مكان أسمع اسمه: في الشارع والمقاهي والمدارس وندوات الشعراء وجلسات السياسيين، واتصالات العشاق الهاتفية، ونصوص المبتدئين، وخطابات الثوريين، ما الذي تغير إذاً؟ لا شيء سوى أنه توارى جسداً تعباً أو ضجراً أو حيلة، أو لأسباب أخرى لا نعرفها، لم يعد السؤال الآن لماذا مات محمود درويش؟ وكيف يموت عظيم كهذا؟ صار السؤال الآن كيف نستفيد كشعب وأفراد من إرث محمود درويش الجمالي، ونعلم أجيالنا الجديدة أسلوبَه في الجمال والحلم بأبعد أقاصي حدود الحياة، كيف نحول شعره إلى فن الحياة، كيف نغيّر بفلسفته الشعرية مفهومَ الموت والحياة والوطن والإنسان؟. ماذا كانت فلسطين قبله وكيف صارت معه؟ فلسطين معه أجمل، أقرب إلى الإنسانية وألصق بمعناها الطبيعي وأبعد عن مجازها الإنشائي ورمزيتها القاتلة، فلسطين التي تريد أن تعيش، العادية التي تخطئ وتطوّر ذاتها وتتأمل تجربتها، وتخلع عنها صفات البطولة والعملقة والأسطرة، فلسطين الجزء من العالم لا مركز العالم، التي يمتزج هواؤها مع هواء الشعوب الأخرى، فيصير أنقى وأعمق وأقرب إلى ذاته، وأجدر بالحياة، فلسطين الإنسان لا فلسطين الخرافة.
عامان على غيابه الذي لا يشبه الغياب، عامان على سقوط الكثيرين في امتحان محمود درويش الشامل، أعرفهم واحداً واحداً أولئك الساقطين في كل الامتحانات الذين (هلكوه) اتصالات وزيارات في حياته (وهلكوه) دموعاً من ألمنيوم في مماته، البنفسجيون (نسبة إلى ورد البنفسج الذي كانوا يضعونه على رأس محمود وهم لا يعرفون أنه كان يكره هذا الورد، لأنهم ببساطة لم يقرؤوه جيداً، ولم يعرفوه جيداً) الذين لا يحفظون اسم قصيدة واحدة من قصائده، الذين كانوا يركضون خلف ظله ليحصلوا على شرف صورة معه، ولم يحدث أن صادفهم أحد هناك عند سفح التل، وحيدين في الظلام والصمت والبرد، الذين لا يأتون إلى محمود إلا بصحبة الحشود والكاميرات والخطابات، الذين استخدموه جسراً لصعود إعلامي أو شرف ثقافي أو هيبة سياسية أو مصلحة مهنية.
عامان على غياب محمود درويش، الغياب الذي لا يشبه الغياب، وكل شيء كما تركه، لا شيء تغيّر، لا شيء اختفى، على النقيض تماماً، تأججت فينا الرغبة في قراءته أكثر، أحببناه أكثر، تمثلناه أكثر، عرفناه وعرفنا أنفسنا أكثر، صاحبناه أكثر. الخسارة الوحيدة لغيابه هي أننا حرمنا من تجارب شعرية جديدة، لم نعد بانتظار مفاجأة شعرية بتقنيات ورؤى جديدة كما عودنا سيد الارتقاء من الأعلى إلى الأعلى. عامان على غيابه ولم نعد نرى في العالم العربي أمسيات شعرية يتدفق عليها الآلاف، وحوارات مع صحف تحدث ضجيجاً وجدلا وتطلق أسئلة مفيدة، ولم يعد النقد العربي يستفيد من تجارب شعرية جديدة ليستنبط منها أدواته النقدية الجديدة، كما كان يفعل مع شعر محمود درويش، عامان على غيابه، من الذي غاب عن من؟.

0 التعليقات:

إرسال تعليق