غريب بعض الشيء



لست مجنوناً والله، ولا أعاني من فراغ، لكني غريب بعض الشيء، إذ ماذا يعني أن أطارد الرجال الثمانينيين في شوارع رام الله، حرصاً عليهم من تعثر ما أو تعرض لموقف ساخر لا يحترم عمرهم أو متاهة ذاكرة تكسر خبرتهم، أو من التباس شارع مع آخر، أو من قلة صبر موظف؟، أن أترصدهم وهم يهبطون ببطئهم اللذيذ من حافلات القرى، ينتشرون ضجرين أو مرضى في مدينة الليل والحب؟، أصر أصدقائي على أنني أعاني مما أسمونه الاغتراب عن الواقع، وأني أهرب الى أزمان أخرى وأتعلق برموز هذه الأزمان أو بقاياها، وتابع أحدهم: عليك أن تراجع طبيباً، سألته هل ثمة أطباء يعالجون مرض الاغتراب في بلادنا؟ ضحك الصديق ومضى، بينما واصلت أنا مطاردتي وترصدي للثمانينيين في شارع آخر. مرة من المرات، تابعت خطى ثمانيني بالقرب من (فلافل عبدو)، كان يسير ببطء شديد، وكنت قد تعلمت في مهنتي التطوعية هذه الصبر، الثمانيني نصف الضرير الهابط لتوه من حافلة قرية ما، تائها كأنه يزور المدينة للمرة الأولى، كان يلبس قنبازا وسروالا وحطة وعقالا، سمعته يسأل شابا: يا ابني وين (أوتنبيل) عين أم الشرايط، لم يفهم الشاب المستعجل كلمة (أوتنبيل)، أشاح له بيده سأما واختفى، سبقت العجوز، وأرشدته بيدي الى موقف عربات عين أم الشرايط، راقبته بمتعة وألم وهو يصعد الحافلة، مضيت أبحث عن ثمانيني تائه آخر، كان الآخر نحيلاً جداً وقصيراً يمشي باتجاه سوق الخضار، سمعته يسأل المارة بالحاح: (شفتوه شفتوه، كان حوالي هون وضاع، مين هو يا حاج اللي كان حوليك؟، حفيدي، اسامة، حدا فيكم شافه؟، كيف شكله يا حاج، (مكزمر)، يا ابني وطويل، ضحك المارة على كلمة (مكزمر) التي لم يفهموها، ظنوا العجوز مجنوناً ومضوا ومضى هو ومضيت أنا اليه، أرشدته بصعوبة بالغة الى حفيده الشاب الذي نجح للتو في التوجيهي وغرق في سعادته، ناسياً جده. الحكاية الأخيرة التي سأحكيها الآن كلفتني الكثير من الآلام والمشاكل، كنت أتبع عجوزاً ضخماً يجر جثته، في الشارع كأنه يجر خلفه حقيبة أو عربة، كان العجوز عصبي المزاج وكثير التلفت يمنة ويسرة بتوتر، وفي لحظة ما نظر خلفه بسرعة فرآني، ابتسمت له وواصلت نيتي الحسنة خلفه، لم أعرف أن العجوز بدأ يشك بي، قادني العجوز الى مخفر الشرطة، تبعته الى الداخل ظاناً أنه قد يواجه الآن سخرية ما أو تجاهلاً، أو عدم فهم لألفاظه القديمة، التي عفت عليها حداثة مدننا، (كنت أنا قد أخذت على يد جدي التسعيني المرحوم مساقاً خاصاً في الألفاظ القديمة التي لم تعد تستعمل الا على نطاق ضيق جداً وفقط في دوائر الثمانينيين والتسعينيين)، وقفت خلف العجوز وهو يتحدث مع شرطي، وفجأة التفت الاثنان تجاهي، وأشار العجوز نحوي صائحا: (هذا هو هذا هو صرله ساعة لاحقني عشان يسرقني يا سيدي من (قريصة) الارسال وهو وراي)، لم أفهم ما يحدث، ألقي القبض عليّ بتهمة محاولة سرقة مال عجوز سحبه للتو من بنك، حاولت أن أوضح الصورة للشرطة: (يا اخوان أنا عندي محبة خاصة بريئة جدا وانسانية للرجال الثمانينيين، طب ليش بتحبهم ممكن نفهم؟، لأنهم بذكروني بأيام زمان الحلوة والهادئة، أنا بعاني من مرض اغتراب عن زمني هيك بحكي أصحابي، وأنا مش حرامي، أنا زلمة محترم وكاتب، ومعلم مدرسة، كمان حرامي وكاتب ومعلم مدرسة)، سحبني الشرطي بغضب الى (النظارة)، أمضيت هناك ليلة كاملة مع لص ماشية صامت، وقاتل ثرثار، في الصباح حضر رهط من مثقفي البلاد المستائين، يحتجون على سجن كاتب، اعتذرت الشرطة لي، خرجت، شكرت الشعراء والأدباء. لست مجنوناً والله، لكني غريب بعض الشيء. نظر الى وجهي الطبيب نظرة طويلة وقال لي: (صح زياد زمان كانت الدنيا أحلى وأهدأ بس الحياة لازم تمشي ولازم نتكيف معها)، كم عمر جدك دكتور؟ سألته، ثلاثة وثمانون عاماً، أجاب، ممكن اتعرفني عليه؟، زياد أنت بالفعل غريب مش بعض الشيء، كل الشيء.
أمشي الى بيتي، أمشي ببطء متأبطاً كيس حلوى لأحفادي، متوكئاً على عكازتي، أفكر بالزمن الذي لم يتعب من أكل كتفي وقرض فمي وشرب نسغي، تسعون عاما من الحياة، وما زلت أمشي، كم أنا محظوظ، أني سمعت صوتا يناديني، نظرت خلفي، لم أجد أحدا. لكني بقيت مصرّا أمام حفيدي الأكبر أني سمعت صوتا شبابيا يناديني قائلاً (حج حج، بيتك مش من هون، أنت غلطان في الطريق).


تاريخ نشر المقال 27 تموز 2010
جريدة الايام الفلسطينية

0 التعليقات:

إرسال تعليق