يوافيكم زياد يوم الثلاثاء/ حسن البطل

عنوان خبري كأنه، في لغة زياد خداش، فحم مطفئ لا يشتعل. لكن، جمرته ولهيبه، أي لغته، خلاف العنوان الخبري. ليس لكل كاتب لغته، ولزياد لغته ولو كان في ظني أفتى من يملأ، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، زاوية "دفاتر الأيام".
ستقولون: الكاتب هو الأسلوب، وسأقول إن اللغة عماد الأسلوب. المفردة وتركيب الجملة، ورقصة الجملة الصاخبة مع الفكرة: تفكيكية وتركيبية معاً. أليست القنبلة الهيدروجينية هي هكذا.
أصدق زياد في ما يكتب، لأن نصه المتفجر ألقاً وقلقاً، هو نفسه كاتب النص في ضحكته الصاخبة القصيرة بين كل انفجارين من الحدة والغضب العابر. "لا توجد قراءة بريئة" كما قال لوي التوسير، وبالأحرى لا يوجد كاتب بريء.
يكره سلك التعليم، لكنه يحب تلاميذه، ويحقنهم بحب الشغب، لأن الشغب هو شغف سائب. يحب الرواية والشعر، لكنه يلتزم حافتي نهر النص، ونهر نصّه صاخب هدار، كأنه النهر في رأس الينبوع، وليس يترنح قبل مصبه، متفرعاً في دلتات، أو أكواع ميتة ومهجورة، أو مستنقعات راكدة.
ليس غيره من "يبوس" الكتاب الجيد كما كنا، صغاراً، نبوس فتات الخبز المرمية. يبوسه فعلاً بشفتيه ثم يرفعه إلى جبينه. من يفعل مثل هذه العبادة من الكتاب والقراء؟ لا أحد ولا أنا أيضاً.
في مطلع انخراطه كاتباً في "دفاتر الأيام"، كان يصبّ قلقه عليّ يوم الأحد: ماذا سأكتب يوم الثلاثاء. لم يتوقف عن هذا السؤال، لكنني توقفت عن طرح أفكار وخيارات عليه.. لأنه "خوّان". في رأسه فكرة لا يُفصح عنها، لكنه، مثلي، ما إن يجلس خلف "اللاب توب" حتى "يخون" فكرته الأصلية، ويترك نفسه عارياً في لجة فكرة أخرى. هذا "توليد" للكتابة من وحي لحظة الوحي. الكتابة هي كتابة، وأصدق الكتابة هي "الانكتابة" كما عنونت أنا واحداً من أعمدتي (أبحث عنه عبثاً لأهديه له).
له عاداته طبعاً التي يركبها جنيّ وساوسه من المرض ومن سوء التغذية. إذا شاع وباء ما أو مرض معد، لا يتورّع زياد أن يُصافحك بيده اليمنى، ثم نقطتان من "جل" قاتل للجراثيم.. وضحكة فجة تليها ليس فيها أي اعتذار.
من عاداته أن يمشي ويمشي بين قعدتين قصيرتين في المقهى. من هو المشّاء المجنون الذي يمشي، مرة في الأسبوع، من مخيم الجلزون إلى مقهى رام الله، أو المشاء المهووس الذي يمشي ثلاث مرات أسبوعياً من مقهى رام الله إلى مطعم شقيرة، آخر الطيرة.. ذهاباً وجيئة، ثم يطلب كباية من الأعشاب (لا قهوة ولا شاي).. وإلا فمشوار من المقهى إلى ضريح محمود درويش، الذي يحبه حباً خاصاً، وعلّم تلاميذه على محبته وكتابة نصوص عنه.
في معظم المناسبات الثقافية يذكرني برسالة نصية: "يللا.. أولد مان"، لكننا سوية أول المنسلين الهاربين بعد العرض، هو إلى حيث أدري ولا يدري أنني أدري، وأنا إلى مقهاي. أدري أنه سيسألها رأيها في زاويته الأسبوعية، وهي لا تدري أنه لن يتزوج بأي أنثى كانت. ربما يذكرني زياد بشبابي، لكنه لا يذكرني تماماً بوساوسه الزائدة فيما يأكل وفيما يشرب. هذا مفيد للصحة وهذا غير أقل فائدة؟ هل البرغل مفيد أكثر من الفريكة أم العكس؟ هل اللحم الأبيض (دجاج وسمك) أصحّ للصحة من اللحم الأحمر.
لكنه، ذات مرة فاجأني. أعطاني حبّة "زيت سمك"، فذكرني بأيام طفولتي في مطاعم "الأونروا" المجانية. يسألني : هل لديك نقص في الفيتامينات؟ لديّ شح وراثي في فيتامين B12 وربما فيتامين B complex، يقول: قد تنفعك حبة "زيت سمك" يومياً.
رهاني عليه أن يكتب عن حال الثقافة والمثقفين قبل عهد السلطة وبعدها.. لكنه يعدني ولا يفعل، رغم أن مقارناته جيدة. رهانه عليّ أن أطلق الكتابة السياسية لكنني لا أعده ولا أنوي أن أفعل.
قال لي: هل تعرف يا حسن؟ بعض كتاب "الأيام" كأنهم حملة أباريق والقراء كؤوس فارغة.. أنا لست كأساً فارغة لأي إبريق فكري مدجج بالمرجعيات الثقافية من "الإنترنت".
يتعجب؟ كل هؤلاء المثقفين لا يملأون "دفاتر الأيام" بانتظام.. وأنت تملأ عمودك اليومي.
سيوافيكم زياد، كالمعتاد، يوم الثلاثاء من كل أسبوع.

حسن البطل

0 التعليقات:

إرسال تعليق