ساراماغو وبائعة الفقوس العجوز وأبي

مات جوزيه ساراماغو، صانع الأقفال (مهنته الأولى) وفاتح أقفال أسطورة الوجود (مهنته الجمالية التي استمرت حتى سعلته الأخيرة)، لفظ عينيه الأخيرتين في إحدى جزر الكناري، قرأت الخبر بالصدفة على موقع إلكتروني، بينما كنت أستريح لبرهات صغيرة من قراءة سيرته (الذكريات الصغيرة)، أمامي تماماً رواياته على رف خاص به تنتظر معجم حواسي وزخم شطحي وحدسي: (الطوف الحجري، انقطاع الـموت، الآخر مثلي، الإنجيل يرويه الـمسيح). أصبت بالصدمة، شيء يشبه أن يموت شخص تعرفه جيداً أمامك بينما أنت تحادثه عن حالة الطقس. كالعادة حين يموت كاتب أقرؤه حد العيش في مدن نصوصه ومصاحبة شخصياته، أشعر بخسارة شخصية، كعادتي السيئة أو الخيرة لا أدري، انهمرت على الأصحاب برسائل نصية: استجاب منهم خمسة هم: مالك وخالد وهيفاء ونهاد ومحمد، بينما (طنش) انفعالي: اثنان: غسان وصالح، ولـمزيد من إغاظة نفسي والسخرية منها، خرجت من البيت مسرعاً، كنت أريد أن أقوم بما يقوم به الـمثقف الـمتعالـم، الذي يظن ــ واهماً ــ أن شعبه كاملاً بكل طبقاته وفئاته العمرية يجب أن يعرف ساراماغو، متشبهاً بما فعلته مرة مخرجة فلسطينية شهيرة حين خرجت بكاميرتها إلى الشوارع مغتاظة وهي تسأل الناس الـمرهقين اللاهثين العاديين على حاجز سردا: "أين باعتقادكم اختفى أرشيف السينما الفلسطينية؟". ثمة متعة مزدوجة هنا، في إغاظة النفس تشفياً من شيء ما غامض، والسخرية اللذيذة الـمضحكة من العاديين الذين نظن نحن الـمثقفين (واهمين) أننا أعلى منهم وعياً وأشف ذوقاً وأشد كثافة روحياً. قلت لبائعة الفقوس العجوز على رصيف سوق الخضار: مات ساراماغو يا حاجة، فأجابت بسرعة: "آه يما، الفقوس بلدي طبعاً" فضحكت في داخلي ليس على كلام الحاجة بل على الـمثقف الأحمق الذي هو أنا، الذي يعتقد أنه أهم من هذه العجوز وفقوسها ولهاثها الشريف الذي أتى متعباً من قرية بعيدة من أجل بضعة شواكل تسد به رمق عائلتها. كما ضحكت سابقاً على الـمخرجة الغاضبة وهي تستعرض تفوقها الثقافي على البسطاء من الناس. اتصلت بأبي وكان بالتأكيد يقيس ضغطه بيده وهو يفعل ذلك منذ 40 عاماً: "يابا مات ساراماغو". ــ "طيب طيب يا زياد بس إياك تنسى تشتري البطيخة". كم أنت والـمخرجة أحمقان! مات ساراماغو، والفقوس سيظل يباع على الأرصفة، والحاجة العجوز ستؤكد للعشرات الـمشككين الـمارين أن فقوسها بلدي، الأرشيف السينمائي سيبقى مصيره مجهولاً، وإن حدث وعرف مصيره ذات يوم، فلن يرقص الناس على الحواجز طرباً وراحة، سيمضون في طرق العذاب بحثاً عن مصالحهم الصغيرة، وسيتجاهل آخرون ومثقفون رسائل نصية يبلغهم فيها مثقف متحمس خبر رحيل الروائي الجنوب إفريقي العظيم ج.م كوينزي، بينما سيستجيب آخرون ويعبرون عن صدمتهم وحزنهم. هكذا هي الحياة: الأدب فيها أياد حزينة لامعة ممدودة في ظلام الحياة، وقلة هم الذين يمدون أيديهم مصافحين، لـم أنت غاضب وحزين؟ الحياة لن تتوقف، أبوك سيظل يقيس ضغطه بيده، وسيظل يؤكد عليك أن تشتري البطيخ، روايات أخرى ستأتي لآخرين سيموتون فيما بعد، استمر في شراء الفقوس وابتسم للعجوز، فقد تكون بطلة مفعمة بالحياة والرموز في رواية سيكتبها شخص قادم ستحبه وتنفعل ألـماً لوفاته وتنقل للأصحاب عبر جهازك الخلوي خبر رحيله، أليست هذه أفكار ساراماغوية؟. ابتسم إذاً وانظر آثاره الجمالية داخلك، واغمز بعينك ممتناً للقدر الذي أتاح لك فرصة العيش في زمن معبودك البرتغالي العجوز، انهض من فورك إلى غرفة 47 في فندق الجراند بارك حيث أقام بضعة أيام ذات انتفاضة، وهناك اكتب بخط كبير على باب الغرفة متجاهلاً ذهول صاحب الفندق: الخلود الخلود لساراماغو، ولأبي العظيم ولبائعة الفقوس الفلسطينية.
zkhadash@yaoo.com

0 التعليقات:

إرسال تعليق