الانتهاكيون يجددون القدوم

سأقول كلاماً مباشراً وعاماً، لا تحتمل تفاصيله هذه الزاوية؛ لأنه ليس نقداً بالطبع، بقدر ما هو رأي شخصي: في معظم نصوص الكتابة الفلسطينية ــ شعراًً وقصةً وروايةً ــ نفتقد فعلاً غائباً بإلحاح... هو الانتهاك، الانتهاك الذي يخلع عن اللغة ثوبها الثقيل الـمحتشم، ويوصلها إلى ينابيعها الـمندثرة بركامات أتربة الخوف من الواقع، الانتهاك الذي يقشر برتقالات الشعور ويهب لبها للريح والغيوم، الانتهاك الذي يفتح أبواب الإحساس على إطلاقيتها لا على منتصفاتها، الذي يدمر عنجهية الـمعطيات الواقعية، ويلوي عنق الزمان، ويكسر دماغ العادي.
ولأن كل واقع في أي مكان في العالـم هو حالة عهر لا يخجل من نفسه؛ تجد الكتابة نفسها ــ كمشروع إنساني شديد الإحساس بالعدالة والنبل والطفولة ــ في حرب جمالية مستمرة مع معطيات هذا العهر، الحياة بمجملها كجوهر مشروع ظلـم، أن تعيش في الحياة؛ يعني أن تتألـم، أو تتعرض للظلـم وجودياً واجتماعياً وإنسانياً... .
الحل ليس في الـموت طبعاً، فالحياة جميلة بالفعل: سفر وشهوات وطعام وتناسل... لكن هذا الجمال محكوم عليه بالإحساس بالخواء والنهايات واللامعنى.
مع الكتابة والفنون ــ عموماً ــ يصبح جمال الحياة إلهياً وأبدياً وقريباً من الحس الأسطوري، في الكتابة نجد الحل، أو الإحساس بالبديل ولو كان افتراضياً أو داخلياً أو نحيل التأثير، وهذا ما يفسّر إحساس الكاتب أو الفنان بطاقة جسدية وروحية معمقة تقترب من إحساس الخلق، أثناء خلقه للعالـم الفني.
للأسف خيّبت معظم النصوص الفلسطينية آمالي أثناء بحثي عن روح الانتهاك فيها، على الرغم من كل ما يدفع للانتهاك والتمرد والعبث والانحراف في الحياة والواقع الفلسطيني. بلاد انتهك (وما زال) قلبها وجسدها من قبل احتلال مجرم، وتقاتل شعبها على الـمنصب والـمال، وتفرقوا أيدي سبأ، وخانها القريب والبعيد، ومات فيها الأطفال والنساء دون أن تهتز للعالـم شعرة في رأس أو في مؤخرة، في هذه البلاد كم هو حري أن يجن جنون لغة ومضمون كتابات أدبائها للذهاب إلى أقاصي الطاقة في الكتابة، لوصف مدى فداحة اللامنطق فيها، وعمق البشاعة وقدرتها الجريئة على تبرير ذاتها والدفاع عن نفسها ولبس لبوس الجمال والـمنطق والضمير.
في الكتابة الفلسطينية تنتصر اللغة الـمحجبة والـمحافظة التي تمشي "الحيط الحيط" وتبيع وجهها للـمحظور بطريقة خنوعية تسوّغ ذاتها بخطاب الالتزام الأخلاقي ونسق البلد الـمحافظ، وظرف الاحتلال، وكأن دور الأديب في الحياة هو مباركة الـموجود وتعزيز السائد!!! ثمة احتلال لغوي في اللغة الأدبية الفلسطينية، تحرير اللغة من احتلالها واجب جمالي فني (أخلاقي) بالـمعنى الانتهاكي طبعاً، سأسرد بعض الأسماء التي أرى أنها تحرر في نصوصها اللغة من احتلال الحجاب، ففي الكتابة الفلسطينية أتتبع منذ فترة أصواتاً مكرّسة وجديدة في الـمشهد الإبداعي الفلسطيني، مارس ويمارس أصحابها بجمالية باهظة هذا الانتهاك جزئياً أو بشكل منهجي ورؤيوي في نصوصهم، فاضين عذرية اللغة، ومعرفينها على وعيها الحقيقي لا الـمزيف، مجبرين إياها على أن تكون نفسها، دون أن تحسب حساب الأهل والـمعلـمات، أن تسهر ليلاً، وتتخلى عن تقليد النوم مبكراً وألاّ تنظر إلى الساعة كلـما مر وقت؛ تحسباً من غضب الأخ الأكبر حين تكون في معمعان سهرة منفلتة من الزمن، ضاجة بالنميمة والشهوات والرقص والانحراف.
حزامة حبايب، جمال القواسمة، وليد الشيخ، نعيم الخطيب، مهيب برغوثي، راجي بطحيش، طارق الكرمي. وجدت عند هؤلاء الساردين والشعراء الفلسطينيين رؤيا انتهاكية جمالية تحطّم أصنام اللغة وتعيد اكتشاف نمور مائها العميق الصافي الحقيقي، ذات الأصوات الـمليئة بالسطوع والسلاسة والشراسة والبهاء.

üüü
حزامة تكتب الانتهاك الجمالي بشكل منهجي عبر نصوصها القصصية. أرى أنها سيدة الساردين الـمنتهكين الذين نزعوا فتيل الاحتشام الخائف الـمرتعش من مصباح الأدب، فصار الفضاء الأدبي في إبداعاتها على ضوء فتيلة الانتهاك أكثر حقيقيةً وإبهاراً، ففي نصوص مجموعتها القصصية الأخيرة (من وراء النافذة) 2010، الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية، تحتشد اللغة بينابيعها الحقيقية لا الزائفة، لا خضوع هناك ولا سدود عاليةً تقف أمام فيضانها.

üüü
كذلك يفعل مهيب برغوثي في ديوانه الأول (عتم)، الصادر عن دار الـماجد 2009، يكتب مهيب واقعه وإحساسه بلغة جمالية مباشرة بالـمعنى التلقائي، التي يقول فيها ما يحس به تماماً، هي لغة طفل يتمخط في كف يده، ثم يتذوق مخاطه ويبول على نفسه ويقتحم الـمطبخ ليشرب ويأكل ثم يحطم الصحون ويشتم ليل الجيران النائمين، إنها لغة البدايات والفطرة والرفض والأحاسيس الأولى والنزعة التدميرية الفرحة الـمندهشة والـمحتجة والغاضبة، لغة الغبار وبقايا صحون الطعام والدم الـمتخثر في جرح قديم ورائحة الجوارب والـمني وصوت (سيفون) الـمراحيض، هي لغة طفل يدوس ضاحكاً على عجين أمه، فيما هي تحادث الجارة، لا يخشى مهيب في بوله أو دوسه لائمة لائم!! ذلك هو الانتهاك، تلك هي العفوية الترويعية الجمالية الشعرية.

üüü
نعيم الخطيب في كتابه السردي، الصادر حديثاً جداً عن أزمنة (على الغارب)، يصف في أحد نصوصه ليلة حرب وخراء يعيشها هو وأسرته مع أسر كثيرة في بيت أحد الجيران أثناء هجوم الاحتلال الأخير على غزة، اللغة وقحة بشكل مفرط الجمال والحقيقة، لا مواربة ولا هرب من الإحساس السريع، ثمة طشت (خراء) يصنعه نعيم لأطفال العائلات، تفادياً للإحراج وتنظيماً للزحام، وثمة حرب شرسة وأطفال آخرون يموتون، وثمة امرأة تتجول مجنونة في شوارع الـموت تطرق أبواب البيوت باحثةً عن حفاظات لطفلها، اللغة كانت في نص نعيم "الحرب والخراء" تماماً متطابقةً مع إحساس نعيم بها، انتهاكية متذمرة (قرفانة) عارية تقطر قوةً واستياءً وثقةً، لـم تعد تعنيها أية حسابات أو علاقات، إنها الـموت وطريقته السريعة والعبثية، إنها لغة الانتهاك.

üüü
جمال القواسمة في معظم نصوصه القصصية خاصة في نصه "جدران بلا ملامح" في مجموعة (هزائم صغيرة)، الصادرة العام 1998 عن الـمؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيث تتسلل من قضيب البطل فراشات وملائكة ونجوم، وقصة "ضفادع" من مجموعة (شامة في السماء) الصادرة العام 1997 عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين، حيث حثالة البشرية متمثلة في زبال ــ ضفدع، تعشقه بنت، وحديث البصاق والـمناهل والـمجاري وزبالات الـمدن والحياة والحب، هدفه واحد هو تنظيف الحياة، فيصبح شعارهما تنظيف الحياة من قاذوراتها، لغة جمال انتهاكية سافرة الشعور وفيها تداع حلو يعري نفاق اللغة الـمعتادة ويحرق مدفأتها ويمزق كمي قميصها.

üüü
وليد الشيخ في معظم كتبه الشعرية مارس الانتهاك بشكل التذاذي (أن تمارس تلك العادة في الـمراحيض العامة على رسومات فاجرة لنساء فاجرات)، يكتب وليد انقلاباته على وجه اللغة وظهرها غير عابئ بنسب اللغة أو حسبها، إنه شاعر لا يمتهن سوى مهنة الجمال الانتهاكي، مطلوب لعدالة اللغة (الشرعية)، متهم بالتحرش بجسد اللغة يدوياً، هو شريد ومطرود من قصر اللغة الكاذبة، لا ينام في البيوت ويرفض دعوات الأصدقاء؛ خوفاً من مصيدة رجال الأمن اللغوي، لا يثق بأحد، لا يحتاج إلى غرفة نوم أصلاً، هو ينام في شرفات لغته الخاصة متدثراً دوماً بشراشف "الأيروس".

üüü
راجي بطحيش في معظم كتبه السردية كتب الاقتحام والخدوش والتدمير وكشف عن جسد اللغة لحافها وعرّى مفاتنها للشمس والضوء، ففي (تل أبيب) مدينة لغته وحداثته وميناء أسئلته ومختبر إحساسه، ومحرق رؤيته ووقاحته الحلوة ومغامراته رأى بعيني لغته الخاصة ما لا يجرؤ أحد على رؤيته، راجي مقتحم بيوت اللغة، ومفجر البلبلة الوجودية والجسدية والوطنية وقالب الطاولات الحسية فوق رأس (الاحتشام)، ومطارد الـمتعة في كل مكان، مدوخ قلب اللغة وساحبها نحو الشمس.

üüü
طارق الكرمي في معظم نصوصه الشعرية عبر كتبه: (عين الأعمى الجميل)، (وضحى الوحيد)، (ما أجمل الفحم الأبيض) وغيرها كان وفياً لفكرة الانتهاك، حد انتهاكه للانتهاك ذاته، يكتب طارق بلغة الفحم الأبيض متخلياً كلياً عن التزامية سياقات اللغة الـمعتادة، لا تصلح نصوصه لـمنابر؛ لأن الجمهورالتقليدي الذي يبحث عن إيقاع الاحتشام والبلاغة والطرب ودغدغة العواطف الوطنية والتحريض والأخلاق لن يجد عند طارق مراده. الـمجانين والـمنفيون والصاعدون إلى غيوم الروح والباحثون عن لغة القاع الينبوعية، هم وحدهم من يرقصون على إيقاع عالـم طارق الانتهاكي، (أضع قدمي على حجر بحجم قلب ثور) (إلى الأعلى أفرد ذراعي، مشهراً كرأس الصواعق سبابتي، فألـمس السماء).
هؤلاء هم الانتهاكيون الانقلابيون الفلسطينيون الرائعون، يجددون القدوم، زارعين الاضطراب والزوابع في قلب اللغة (الشرعية) ومثيرين الجدل حول منشأ لغتهم ووطن رؤيتهم، رحبوا بهم معي، فلا حياة أدبية دون انتهاك.

0 التعليقات:

إرسال تعليق