ما يشبه البوح...

راقبته طويلاً من الرصيف الـمقابل، بائع القهوة الـمتجوّل، شاب ضرير ونحيل وقصير في الثلاثين من عمره تقريباً، كان يقف أمام واجهة مقهى ركب الزجاجية، صوته وهو ينادي على الناس يبعث على الغيظ؛ فهو مضحك ومبكٍ ونسائي في آن. قهوة قهوة قهوة، يتوقف قليلاً، ينظر إلى اللاشيء، أو ينتظر اللاشيء، ثم يتابع: قهوة قهوة قهوة. لا أدري لـِمَ أحسست أن لا شيء معه سوى فناجين فارغة وصوت نيِّئ وعينين مظلـمتين ويأس كثير ووقت أكثر. قهوة قهوة قهوة، اقتربت منه قائلاً: "ممكن فنجان قهوة لو سمحت؟" رأيته ينظر إلى رائحتي باستهتار، وسمعته يهمس: "لـم يبق للأسف قهوة، تعال غداً. قهوة قهوة قهوة". ضحكت بصوت عال، وابتعدت، ما أغرب هذا الشاب! لـِمَ يصيح قهوة قهوة، إذا كانت دلّة قهوته فارغة؟.
في طريقي شبه الـمهجور إلى قهوة هجرتني: رأيتني أردد معه بصوت عال: قهوة قهوة قهوة، لـم يكن معي شيء مما أنادي عليه أو له أو به، لـم يكن معي حتى فناجين أو بشر أو مدن، كنت مثله تماماً أغني يأسي.
ü ü ü
كنت ذاهباً إلى هناك... متأبطاً رغبةً شديدةً في عزلة عن كل شيء، حتى عني، إن استطعت.
كنت كارهاً كل شيء، متحللاً من كل شيء، لا يهمني إن هوى نجم كبير على الكرة الأرضية، كما يتوقع العلـماء في أية لحظة، وغير مكترث بمستوطنات جديدة تبنيها إسرائيل على لحم الـمكان، وكنت أقول لي: "لو ابتسمت لي امرأة ما؛ سأخنقها بعيني. ولو رأيت شخصاً يتدلّى نازفاً من نافذة سيارته الـمقلوبة؛ سأبتسم له وأمضي في عزلتي". رأيت نفسي أمر عن أطفال يلعبون على رصيف ما، كنت أرى أفواههم تتحرك كلاماً وصياحاً وضحكات... لكني لـم أكن أسمع صوتاً، نظرت إلى البناية التي يلعبون أمامها، وقرأت (جمعية الأمل للصم والبكم). توقفت عن الـمشي، أصابني إحساس غريب بأن عزلتي وكرهي للعالـم يشهدان الآن نهايتهما هنا، أمام هذا الضجيج الأخرس.
اقتربت منهم، ضحكت لهم، فانهمروا على ضحكتي ضاحكين بلا صوت، تقافزت أمامهم مهرجاً ومقلّداً حركات الحيوانات، لإضحاكهم؛ فانفجر الـمكان الصامت كله ضحكاً مخنوقاً. كانوا يركضون حولي كالغيوم السعيدة الصغيرة التي اكتشفت فجأةً مبرراً لحياتها فهطلت، وكان قلبي قد اكتشف هو الآخر مبرراً لسعادة مفاجئة فهطل. بحثت عن امرأة ما تبتسم في وجهي لأعانقها بعيني، وشعرت لحظتها كم أكره نتنياهو، ونظرت حولي قلقاً من شبه جثة ما تتدلى من نافذة سيارة مقلوبة، وتحتاجني الآن لأسعفها. صباح اليوم التالي، وكعادتي في كل صباح، بدأت أترنم بأغنية ما لساحرة صباحاتي فيروز. فلـم أسمع صوتي.
ü ü ü
تستغرب السيدة من منظر مخدتها كلـما عادت من عملها ظهراً، ثمة شخص غامض يتسلّل إلى غرفتها من النافذة، يبقر بطن الـمخدة، يبعثر ريشها في الأنحاء، عمّ يبحث هذا الغامض؟ لـم تكن تعرف السيدة، هائلة الرهافة، أن هذا الـمجهول هو أنا، لـم تكن تعرف، أيضاً، أنني مولع بلـملـمة بقايا أحلامها الـمتخثرة في قاع الـمخدة، مثل حليب يابس، كنت أريد أن أعرف: "هل كنت يوماً ما من مخلفات أحلامها الـمترسبة في قعر الريش؟". ألـملـم الريش، وأهرب به إلى غرفتي، أعيد استجوابه عشرات الـمرات، لعله يشي لي بحلـمها، وحين يصمد الريش في زنزانة تعذيبي؛ وفاءً لرأس سيدته، أعيد ترتيبه على شكل سكة حديد، ثم أجلس عليها منتظراً قطار حلـمها ليمر، فألحق بعربته الأخيرة، مثل حقيبة ضائعة تبحث عن مسافر لا يأتي.
ü ü ü
امرأة حذاؤها الغيم وقفازاها الشجر ودموعها الضوء، وملابسها الـمطر، كيف يمكن أن تتنبأ أو تقيس مشاعرها تجاه العالـم ونفسها وتجاهك؟.
ü ü ü
أطفئوا أنوار الحديقة، الرجل الأربعيني يرغب في البكاء، فالظلام قميص الدموع.
ü ü ü
وحيد مثل قشة، ولا يكفيني أن أضع رأسي على كتفك، أريد أن أصبح كتفك.
ü ü ü
حزين هذه الليلة وأنت جميلة جداً.
ü ü ü
أُسقط مفاتيحي عمداً في شارع ما يتجمع فيه أطفال حريريو الوجوه والنوايا، وأواصل الـمشي، كأني لا أعرف أن مفاتيحي سقطت مني، في البداية يظن الأطفال أن الـمفاتيح سقطت مني دون معرفة مني، فيلحقونني بصيحاتهم الجدية: "عمو مفاتيحك مفاتيحك". آخذ مفاتيحي منهم شاكراً إياهم، أمشي قليلاً ثم أدع الـمفاتيح تسقط من جيبي بطريقة توحي أنها سقطت دون معرفة مني، فيبتسم الأطفال ابتسامة صغيرة خجولة، آخذ الـمفاتيح منهم مرة أخرى متذمراً من جيوبي الـمثقوبة، أسقطها مرةً أخرى؛ فتتسع ضحكات الكائنات الـمعجونة بالله والسلام والشوكلاتة والأحلام البسيطة النقية، وهكذا إلى أن يدرك الحرير البشري أنني أتعمّد إسقاط الـمفاتيح لأضحكه؛ فتصير الدنيا ضحكات وضحكات.
لـماذا أفعل ذلك؟ لأني أحب الأطفال؟ نعم، لكن هناك سبباً آخر، هو أنني أحتاج إلى حرير الضحك البشري؛ لأطعن به وجه الزمن الـمتجهم داخلي. أسقطوا مفاتيحكم أمام الحرير البشري واطعنوا بها وجه زمانكم، افتحوا بها باب الطفولة البعيدة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق