قصيدة أبكت الـملايين وأضحكت شخصاً واحداً!!

سؤال واحد وحيد ما زال يدقّ نافذة رأسي منذ قرأت ــ أكثر من مرة ــ حوار أدونيس الشامل مع جريدة "الحياة" اللندنية، قبل عدة أسابيع: هل كان أدونيس سيسخر من قصيدة محمود درويش (إلى أمي) ومنّا نحن عشاق عالـم محمود الشعري ومن الشعر بهذا القدر الواضح من الشجاعة الحزينة والتشفّي القلق فيما لو كان محمود على قيد الوجود الجسماني؟ كلنا نعرف الجواب، ولا داعي للتفاصيل، هل هي ظاهرة عالـمية؟ عظماء من العالـم تورّطوا في السخرية من عظماء بلادهم الأموات: فمثلاً أتذكر سخرية الروائي الإيطالي أنطون تابوكي في حوار مع "أخبار الأدب" أجراه معه الزميل عزت قمحاوي قبل عدة سنوات، حيث قال بما معناه رداً على سؤال حول الروائي الإيطالي إيتاليو كاليفينو: "إن كاليفينو لا شيء في الثقافة الإيطالية"!!.
يقول أدونيس رداً على سؤال محاوره عبدو وازن "ما رأيك بما قاله محمود درويش على سبيل الـمثال، أخجل من دمع أمي، أو أحنّ إلى خبز أمي؟ ألا يترك هذا أثراً وجدانياً فيك؟": "تقصد شعرياً، هذا البكاء الشعري بالأحرى يضحكني" أجاب أدونيس.
كان محمود درويش قد كتب هذه القصيدة متأثراً بموقف حدث معه فجأةً، فقد زارته أمه في السجن وعانقته لأول مرة، فانهمرت هذا الأغنية ــ القصيدة ــ الغيمة الطازجة، أبداً، كينبوع ساخن حُجز طويلاً خلف سد منيع، بما يشبه زغرودة عرس إنساني هو اكتشاف عاطفة الأم تجاهه بعد طول شكوك. (إلى أمي) قصيدة عابرة للحدود وقافزة عن الجغرافية، أبكت الـملايين عرباً وغير عرب، الوحيد الذي ضحك حين قرأها هو أدونيس، لا نريد أن نظلـمه، قد يكون موقفه منسجماً مع واقعه العاطفي تجاه أمه، انظروا ماذا يقول عن علاقته معها: "كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما تركت البيت وانفصلت عنها. لـم أعد أراها إلا قليلاً في العُطَل الـمدرسية. حتى في طفولتي كان أبي هو الذي يدير شؤون (ثقافتي) أو (تربيتي العقلية)، وكانت أمي هي التي تدير شؤون الحياة اليومية. هي في حياتي، منذ البداية، جزءٌ من (الطبيعة)، لا من (الثقافة). الأم مبثوثة في الكتابة، بالنسبة إليّ، كمثل الهواء والشمس والـماء. ذائبة في حياتي وفكري. ليست كائناً مفرداً، مستقلاً، منفصلاً، كأنّه شيء أو موضوعٌ خارجي. هكذا لـم أكتب عنها بالاسم، وإنما أشرت إليها. لا أقدر أن أحوّلها إلى موضوع (إنشاء) مدرسي، كالربيع والخريف، أو الوطن، أو غيرها. ولا أعرف كيف يمكن لشاعر أن يكتب عن الأم، بوصفها (موضوعاً) أو(شيئاً)، يُناجيه، ويصفه، ويمتدحه، أو يعدّد مآثره وعلاقاته بها".
شخص تربى على كون أمه ليست أماً، بل هي مصطلح أو مفهوم أو فكرة، كيف يمكن أن يتأثر برائعة محمود درويش (إلى أمي)؟؟ الغريب جداً هو أن أدونيس هو الذي علّمنا جميعاً أن لا مادة ولا موضوع يستعصي على الكتابة عنه ما دامت هناك مداخل خاصة وجديدة لاختراقها فنياً، حبة الرمل الـمتناهية في اللاأهمية ظاهرياً وفي الصغر يمكن أن تتحوّل إلى محور عمل إبداعي طويل ومركّب بشرط أن تكون زاوية النظر إليها جديدة وغير مطروقة، فكيف بموضوعة الأم وهي اللغة الأولى والبيت الأول، وبداية البصر وفكرة العقل الأولى والوجه الأول لكل كائن على وجه الأرض؟ هذا كلام بدهي جداً ومن الثرثرة الـمجانية التركيز عليه أو حتى الإشارة إليه، وأنا أخجل أن أقوله لعظيم مثل أدونيس، ما الذي يريده أدونيس؟ هل يريد من الشعر أن يشبهه، أن يتماهى مع تجربته النفسية والحياتية، ألا يطيق أن يرى تجارب آخرين يكتبون من أرض مختلفة ومن حساسيات لغوية وعاطفية أخرى، هل على السماء الشعرية أن تكون أدونيسية الرائحة وعلى الأرض أن تتكلـم بلغته وأحاسيسه، وهو يا للـمفارقة الشاعر والـمفكر العظيم الذي وقف حياته على لعن التشابه، والانحياز بقوة للاختلاف والتنوع في الثقافة العربية الـمستنسخة عن نفسها.
شخصياً أنا مولع بقراءة أدونيس، معجب جداً بشبابه الشعري وفتوة روحه الـمبدعة، وأحترم مثابرته العنيدة في مواجهة وتفكيك ظلـمات وأزمات الذهن العربي وكشفه الشجاع وغير الـمساوم والواعي عن مكامن وبؤر العتمة الحضارية التي ما زال العرب يئنون تحتها. وعيي الجمالي بدأ بعالـمي درويش وأدونيس، الأول أرشدني إلى قلب الوردة والآخر إلى ذهنها، مع الأول شعرت ومع الثاني فكرت، أكرر ما قلته في البداية: هل كان سيجرؤ أدونيس على السخرية من نص (إلى أمي) فيما لو كان محمود على قيد الجسم؟ الجواب معروف، الـمحزن جداً في سخرية أدونيس ليس سخريته في حد ذاتها ولا تجرؤه على السخرية من ميت، ولا غيرته الواضحة من مكانة محمود درويش الشعرية، ولا في دلقه هذه السخرية بكل هذا التوتر البادي، الـمحزن حقاً هو إحساسي الآن أن محمود بالفعل ميت، وإلا فأين صوته الغاضب الـمتلاحق السريع الذي نعرفه جميعاً؟ عرفت الآن ما هو بالضبط الـموت: إنه فقدان الـمقدرة على الغضب، هنا ذروة الفاجعة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق