المهندسة الشاعرة المشاءة- غناء خافت في حقيقة معتمة


أنت تراها حين تراها، هي لا تراك حين تراك، مهندسة ومشّاءة وشاعرة، لا تهتم إن أنت غضبت أو تذمرت؛ لأنها لـم تنتبه إلى حيزك الذي شغله مرورك حين تعبر بالقرب منها، لفظة الانتباه غير واردة في قاموسها الشعري والحياتي، (حالة إقمار) دائمة تعيشها، كل الشوارع قابلة لتصير غيرها في كل لحظة أمامها، فتسأل رجلاً ماراً: سيدي من أين الدرب إلى عملي؟ تمشي كأنها تركل الشوارع بعينيها، كأنها تسوق الأرصفة بيديها، كل الأشخاص قابلون لأن يصيروا غيرهم في أية لحظة أمامها، لا تستغربوا إن نسيت الـمهندسة الـمعمارية أسماءكم على الرغم من جلسات وأحاديث كثيرة ذرفتها معكم في "زرياب" أو "سنغريا"، هي تجيبكم بصدق تصدقه هي وحدها: والله لـم أر أحداً، والله لا أعرف أحداً. لكن قصيدتها ترى كل شيء، وتفهم كل شيء، لكنها تتنصّل من كل شيء، كأن دالية كتبت لقصيدتها كتاب توكيل بأن تعيش حياتها، تأكل وتسافر وترقص باسمها، وتتكلـم مع الجيران والأصدقاء وبائع بسطة الكتب: مرحباً، أنا قصيدة دالية، أود أن أشتري لشاعرتي كتاباً لبودلير.
تستعمل حواسها، تخاطب الناس، تجاملهم، تعترف بظلالهم وهم يعبرون: اتركوني وشأني واذهبوا إلى وكيلتي القصيدة. أسمع صوت عينيها وهما تهربان من التزام "فعل رؤية" شيء ما لفت أنظار الجميع إلا أنظارها، هي ذاتها تجهل إن كان ثمة حيز تشغله كينونتها الـمادية في العالـم أم لا؟.
قصيدتها ولدت قبلها، وما هي سوى انفعال قصيدتها أو أسلوبها في التجسّد، أو زفرتها في وجه لا منطق الكون، لغتها الشعرية تجميع لشظايا قنبلة تستعد كل لحظة لانفجار، تعتيم مضيء لشاشة الحواس، تعطيل لعقل الجملة الـمستقر، تكسير لعظم الكلام، تحميم حميم بصابون الفراغ (لفظتها الـمعبودة) لجسد غير قابل للـمس، هكذا أرى لغتها. "حين كنت غياباً، كان دمي يطفو في النهار، وكنت سماءً غريبةً تحلق في السؤال، حين كنت موجوداً، كان دمي يعري الشمس، وكنت دفق الطيور في الجسد".
شعلة هي من قبس قصيدتها، الـمهندسة متفوقة في الرياضيات وخبيرة بدقة الـمسافات وتوزيع كتل الألوان: "من يلوح لي الآن؟ يدي حفنة رمل كلـما رفعتها نمت في خيال القصيدة، واهتز الـمكان"، لا تعرف الشاعرة كيف تقيس الطريق (على سبيل الـمثال) إلى رام الله التحتا، هل بوحدة قياسنا الـمعروفة والسهلة (الأقدام)؟ أم بالزمن؟ أم بذهنها السائل الـمتموج الـمليء بالطرق الـمبللة بدم القمر؟ "ناسية أن الطرق قد اختفت من القصيدة، أمشي إليك بقدمين من غبار، وأنا أنزف دم القمر".
أعرف الشاعرة منذ سنين طويلة، نصها مثقف بكبرياء قاس، واعتزالية باردة، ومعنى شديد الغور منطوٍ على لا مبالاة اللا معنى، مفعم بالفراغات والنقصان والفجوات، الـمهندسة التي تعلـمت في الجامعة كيف تصنع الدقة في مقاربة الـمسافات بين جدران البيوت وحدائقها، تتعمّد ترك مساحات بيضاء في الـمتن لتضيّع عين الـمتجرئ على قراءتها، وتجنن قياساته العادية مجبرةً إياه على البحث عن وحدات قياس أخرى: "حين تقول تعالي، آتي كمن يدخل جوقة ليستضيفه الناي، ثم أخجل مما يظلل ساعدي قرب صمتك، مساءات من فضة وغيم يسير في النهر، ويحمل الضفاف إلى غيمة تتشكل". كم تشبهها قصيدتها، كأنها وصيفتها في استعراض عرس شغفها في اكتشاف الحياة، أو ساعية بريدها أو مجازها، ثمة فائض من الاغتراب وصداقة الـعتمة الـمتوردة وغير الـمنتبَه إليها والسفر في الذات، والذهاب إلى سؤال الـما وراء، الطاغي مخدوشاً بجمالية خاصة وذكية بهموم قشرية للوراء، "العتمة مأخوذة بما حل فيها من أقحوان، تنقر على قلبي كي ننزف معاً شموعاً طويلةً وتغفو على البلاط كقط تعيس".
لا مفاتيح في شعر دالية، لا إشارات تدل على نبعها، أو تقود إلى شرارة حرائقها، لا أعمدة إنارة تسلط الضوء على مختبرها الشعري، في طرق وعيها، بيوت موصدة مع حديقة صامتة تضج باليفاعة العنيفة والشغف الأخرس والعزلة الساحقة، والبكارة الـمنتشية، هناك في الحديقة أو في الحقيقة، تقدم للقادم شبح ضيافة أو كأس ــ ما يزعم أنه ــ ضوء ممتلئ بماء الظلال، أبواب تغني الفراغ بالقرب من أبواب. كلـمتا "الفراغ والدم" تتكرران بشكل لافت في معظم نصوصها، الفراغ حبيب دالية السري، تناديه حين تمتلئ الحياة بالـمعاني الزلقة، تمتص منه نسغ ليلها، و"هيولي" نبضها، الدم عنوان الانفصال، وعلامة الولادات الجديدة التي تولدها دالية نفسها أو قصيدتها، دم على أقدامها وعلى سرة نصوصها ودم في السؤال: "كأني أنا، كأني أعود، أقيس أمتاري، وكم خطوة نسيت في أمسي، وكم خطوة غابت في هامشي، متسعاً للفراغ وللطريق".
هذا هو عالـم الشاعرة الشعري، صور وصور وصور، تتجاور متنافرة أو متسقة، فادحة أو هادئة، من يتوقع أن يحصل على معنى مكتمل ومريح هنا، فليرح ذهنه ويمضِ إلى قناعة مكتملة بأن هذه الـممارسة الشعرية الـمتنكرة حتى عتبة بيتها، والخائنة للعقد التقليدي بين القارئ والـمؤلف، لا تُعنى بالرسائل أو الأفكار، أو سهولة الانتماء لفكرة اجتماعية أو رفاهية الهتاف لعقيدة، أو الغناء أمام جمهور صاخب، أو التحمس لحوار أدبي في صحيفة، لشرح الـمحطات والبدايات واستعراض التجربة، وما إلى ذلك من ترهات حسب قول الروماني الرائع إميل سيوران، الـمصورة البارعة تجوب آفاق أدغال روحها لتلتقط الصور لـما يدب هناك من كائنات مباغتة، ثمة قوة اكتفاء محيرة في نص دالية الشعري، استغناء عن العالـم نقاداً وقراءً وأهلاً ووطناً، لـمن تكتب إذاً؟ ومن قال إنها تكتب ؟ إنها تغني فحسب في حديقة بيتها الشعري الـمعتم بإنارة خفيفة في الخارج تكفي لنا لنركض "متوهمين بقنص معنى مريح" وراء اندلاعات قش نارها، لا تريد لأحد أن يسمعها، لا تريد حتى لنفسها أن تسمعها، حالة انعدام أو انقطاع عن كل شيء في سبيل الحصول على شيء واحد هو فرصة غنائها الخافت في حديقة دمها، على إيقاع نوم طير مجاور أو رقصة قشة تترنح أمام مجرى ريح، وإن حصل وسمعها بالصدفة ابن جيران الشاب، قلق الجسد ومتشظي الحس ومغترب القلب، سيطل من نافذته ليرى مرايا صغيرة تتناسل من صوتها، سيتسلل ابن الجيران بهدوء نمر واهم، نحو حديقتها متجاوزاً أسواراً كثيرةً داخله وخارجه، سيلتقط الـمرايا الـمتناثرة هنا وهناك ويعود إلى مخدته وكتبه وقنابل حواسه وعرق عقله، ليرى كل شيء، وليكتشف أنه هو نفسه صار مرآة لصورة ابنة الجيران الـمشتعلة الـمراهقة، هذا هو الشعر، إنه من يمنحنا بسخاء مأساة مرايا، نصير بها ملهاة مرايا. مرحباً أيها الـمار بالقرب مني في شارع الـمصيون: هل تستطيع أن تقول لي أين اسمي؟ أبحث منذ الصباح عن اسمي ولا أجده، تسأل الشاعرة دالية طه شخصاً عابراً في طريق مألوف صار طريقاً غريباً فجأةً وصارت هي الـمعهودة فيه غريبةً تماماً.

0 التعليقات:

إرسال تعليق