الطريق إلى بيت الأم

مالذي يعنيه الهجوم على محمود درويش في ذهابه التاريخي إلى حيفا؟ أكتب كلـمة الهجوم وأتهجى حروفها وأكاد أتمزق ألـماً، هل يهجم الإنسان على فراء معطفه في عز الثلج؟ هكذا أتصورهم: كأشخاص غريبي الأطوار انفعلوا فجأة وطعنوا بطونهم، لأن الطقس حار جداً مثلاً، هكذا أتصورهم، هكذا أراه رجلاً مسافراً، طويل القامة يعود إلى بيته بعد غربة طويلة بصحبة صديق غامق وهادئ اسمه الحنين، فجأة يعترضه أشخاص متوترون: "كيف تعود إلى البيت ماراً عن الحاجز الإسرائيلي؟ هل أنت مجنون؟؟ يجيبهم الـمسافر طويل الحزن والقامة بينما الكائن "الحنين" إلى جانبه يبتسم: ليس هناك من طريق أخرى، اشتقت إلى صوت أمي وهي تهش عن وجهي كوابيس الليل. رد الـمتوترون: عليك أن تبحث عن طريق أخرى عبر الجبل، العودة إلى البيت عبر الحاجز خيانة للوطن واستهتار بدماء الشهداء وقوافل الـمنفيين. يجلس الرجل طويل القامة على حجر قديم يعرفه جيداً، فهو الحجر عينه الذي جلس عليه وهو ينتظر حبيبته الصغيرة، يجلس قبالته صديقه الحنين، يتفحص في ذهنه العميق والرشيق مفردات الوطن، منفيين، دماء، خيانة، شهداء. يحزن الرجل الجميل، يحزن إلى درجة أن قميصه الصيفي الواسع قد ارتج على بدنه النحيل، فهذه الكلـمات التي قالها الـمعترضون على ذهابه إلى أمه، هي نفسها التي ابتكرها قبل عشرات السنين، هو علـمهم نطقها ودربهم على فهمها، ها هم يلثغون بها أمامه، ويستخدمونها ضده، الحنين الغامق يواصل الابتسام، يمد يده للرجل الطويل، ينهضان معاً مثل نورسين تائهين في فضاء محجوز، يمضيان في طريقهما إلى بيت الأم غير عابئين بحجارة الـمعترضين، ماذا تعني هذه الحجارة؟ ومن هم هؤلاء؟ وهل هناك طريق عبر الجبل كما قالوا، هل هناك جبل أصلاً، فقد نزل الرماة عن الجبل وأضاعوا فرصة للنصر النهائي، أما زال هؤلاء أسرى وهم الجبل الكبير الذي سيطروا عليه ذات تاريخ؟. أكاد أشك في أن هؤلاء الـمعترضين قرؤوا شعرك يا محمود، أكاد أجزم أنهم تعاملوا معك كظاهرة ونجم وليس كشاعر ورائي ومفجر أسئلة وحارس حديقة الروح وحقيقتها، من يقرأ شعرك جيداً يعرف أن الطريق إلى بيت الأم معبدة بالألـم لكنها ممهورة، أيضاً، بالرقص، من يقرأ شعرك جيداً يا صديق النبات والتلاميذ، يعرف جيداً أن الله العظيم وهبنا إياك لأننا بلا بتراء وبلا أهرامات وبلا دولة وبلا جيش وبلا سور الصين وبلا قادة، وبلا هوية وبلا نفط وبلا دانتي، هل سأنسى يوماً سؤال الـمحقق الإسرائيلي لي أثناء استجواب سريع وهادئ قبل خمسة عشرين عاماً بالضبط: نحن لدينا قلعة مسادا، ماذا لديكم ؟. قوى غامضة وجبارة في داخل جسد فتي صغير وجائع أجابت عني بما يشبه الانفجارة: "عندنا محمود درويش". ما زلت أذكر وجهه القاسي وهو يسترخي على كرسيه ويردد بصوت منخفض وثابت: محمود درويش، محمود درويش، محمود درويش. ولـم أفهم حتى الآن لـماذا كرر الاسم ، صرفني بهدوء، وهو يقول للحراس: أعطوه معطفه، وأطلقوا سراحه. حتى هذه اللحظة ما زلت أربط بين إطلاق سراحي من تهمة رشق حجارة وبين تلفظي باسم درويش أمام الـمحقق، وظللت أقول لأصدقائي ولنفسي: لقد هزمته بمحمود، ونصحت أصدقائي أن يتلفظوا باسم محمود درويش أمام الـمحققين، فهو يشبه ضوءاً تسدده لكتلة ظلام نتنة مريضة تتبجح بالبطولة والسيادة والتفوق. كم أشعر بالألـم لأنني أجد نفسي مضطراً للدفاع عن زرقة السماء أمام مرضى ألوان، ما زالوا يعتقدون بأن السماء صفراء وأن صورتهم وصورة حزبهم وقصائدهم محفورة في صفحة السماء وأن على الجميع أن يروها كما رأى الناس صورة صدام حسين في وجه السماء، كم أحس بالحزن لأنني أمسك نفسي متلبساً بتوضيح سبب حبي لأمي لأشخاص من بلادي لا يفهمون معنى حب الأمهات! مالذي يمكن أن نجده من أعذار لأولئك الذين اعترضوا طريق الرجل؟ غير أنهم يمثلون خير تمثيل وبوفاء نادر ظلـمات تاريخنا العربي وهي تمتد وتتواصل عبر جملة واحد هي: كراهية الجمال وتخريب الروعة وتسميم البئر. معترضو الطريق حزبيون ضيقون، يكتبون بفرح الشعرَ والقصص بروح البيانات والتعميمات، يحبون فلسطين عبر أغنية اسمها الحزب، يحتفلون بذكرى الشهداء وعيونهم على مقبرة واحدة، تباً لهم من ظلال للـمرض وأتباع لديانة الدمامة.
يجلس الرجل طويل الحزن والقامة مع صديقه الحنين بانتظار خطوات الأم التي أبلغت قبل قليل بوصول الابن، يتمتم الابن لصديقه: الآن عرفت أن الأم أجمل من الطريق إليها، يبتسم الصديق الطيب. يخرج مفكرته ويكتب: الأم أجمل من الطريق، الأم أجمل من الطريق.
2007

0 التعليقات:

إرسال تعليق