على مقاعد مسرح مخيم الأمعري الأجنحة ليست دائماً سبباً في الطيران

وجدت نفسي، الأسبوع الـماضي، جالساً بين عشرات الأطفال على مقاعد خشبية في مسرح صغير تابع لنادي مخيم الأمعري، أُشاهد مسرحية الأطفال: "الطائر الحزين"، للـمخرج الفلسطيني فتحي عبد الرحمن.
أن تشاهد مسرحية للأطفال في مخيم معزول وموجود بملل وعادية وتكرار قاسٍ وبوجود أطفال وطفلات مدارس الـمخيمات الحيويين جداً، فأنت واحد من اثنين: إمّا أنك ابن مخيم حقيقي تعرف بالضبط طعم زيت السمك واللبنة الدسمة الحامضة والبرغل، وقادتك قدماك بطبيعية غير مفاجئة إلى حيث ذاكرة هذه الأقدام من أزقة ووحول وسقوف "زينكو"، تسكن في مخيم وتعرف شكل ونكهة فرحة طفل ابن الـمخيم الـمختلفة عن كل فرحات الـمناطق الأخرى، وإما أنك ابن مدينة مثقف تبحث بإصرار أحمق وجميل عن الـمعزول والـمقصي والحقيقي من الأعمال الفنية، سواء أكانت مسرحيات أم أفلاماً أم معارض فن تشكيلي .... إلخ.
ثمة هامش ثقافي في بلادنا يشتغل فيه فنانون وكتاب بصمت وانتماء مؤلـم ووفاء حزين، هل نستطيع أن نقول إن ثقافتنا الفلسطينية تتسع لـمفردتي: متن وهامش، اللتين تحيلاننا إلى مدن واسعة واستقرار وتراث ثقافي واسع؟ الـمسرحية تتحدث عن طفل اسمه سامي، يولد بلا أجنحة في بلاد يولد أطفالها بأجنحة، يعاني سامي، من هذا الفقدان الـمريع وغير الـمعقول للأجنحة، ويسخر منه زملاؤه، لكن ريما، صديقته تقف إلى جانبه وتسانده وتخفف عنه، وتحاول إقناعه بأن بالإمكان الحياة من غير أجنحة، وتتواصل أحداث وحوارات الـمسرحية، لتصل بنا إلى رسالة تربوية لطيفة وهي: أن احترام الـمختلفين عنّا والتسامح مع من لا يشبهوننا ليس فقط ضرورة حضارية بل ضرورة معيشية مصلحية أيضاً، لأن الحياة تكره التشابه، وتحتفي دائماً بالتنوّع وتُثرى بالاختلاف.
الـمسرحية مستلّة برؤية إنسانية شفافة من قصة للكاتب السويدي إلينز بوم، عنوانها: "زياد فوق جبل النورس"، الأداء كان قوياً، ولا أقصد بالقوة الإتقان بل البراءة والعفوية تلك التي يقنعك من خلالها الـممثل بأنه لا يمثل، بل يعيش قطعاً من حياته كما رسمت في اللوح الـمحفوظ، صخب الأطفال وتفاعلهم مع الـمسرحية كان مؤشراً على نجاح الـمسرحية في لـمسها لوتر حساس في حياة الأطفال، وهو التعاطف مع الـمظلوم، الـممثلات كن تماماً كما شاء الحدث وتطلبت والرؤيا: ميسون أبو زغيب، روان أبو ظاهر، إيثار ميغاري، سهير أحمد، لينا عاروري، حسين نخلة، ميساء عز، ناديا كنعان، سميرة ناطور.
الـموسيقى والغناء ليسا فقط أغنيا العمل وسانداه، بل قدما عملاً موازياً تماماً للفكرة والهواجس الداخلية للأطفال، حزينة كانت أم سعيدة، متوترة كانت أم هادئة، هذا لن يفاجئنا حين نعرف أن الجميل عبد الحليم أبو حلتم، هو مبدع التأليف الـموسيقي في هذه الـمسرحية.
أطفال الـمخيمات يكرهون الظلـم لأنهم أكثر الناس تعرضاً للظلـم في العالـم، لدرجة أنهم يحسُّون أن كلـمة الظلـم ابتكرت في بلادهم، إنهم ينحازون فوراً للفراشة التي يطاردها الريح، ويتساءلون دوماً: لـماذا يموت الأطفال في فلسطين، إنهم لا يحملون سلاحاً؟.
في مسرح فقير داخل مخيم موحل أطلق فتحي عبد الرحمن، الأجنحة للطفولة الفلسطينية حتى تصدح بالغناء وترقص للحياة والتسامح والحب والأمل والبراءة، ما الذي يريده فتحي، من الـمخيم؟ هو القادم من مخيمات الأردن فلسطينياً فناناً متحمساً للفن والنضال بالكلـمة والرقص والغناء، فتحي، فنان متوحد بمعنى أنه صوفي في لـمساته وعميق النظرة في إدارته للحركة على الـمسرح.
الضيوف القليلون جلسوا في مقدمة الـمسرح مستمتعين بوقارهم وخشونتهم وذكائهم، وأنا جلست في وسطه بين الأطفال غائباً بهم وفيهم عن وعيي وذاكرتي الكبيرة الـمليئة بالأسئلة الكبيرة والـمخيلة الـمؤسسة والهرمة، ما أروع أن أكون طفلاً في عالـم كبار قساة التصرفات وغريبي الأطوار وشديدي الإحساس بأنفسهم إلى درجة الصلف، ذروة الروعة كانت تتمثل في صيحات الأطفال حولي على سامي الحزين، الذي بلا أجنحة، سامي سامي سامي، كانوا يعرفون أن سامي، هو هم أنفسهم، أطفال بلا أجنحة بلا بلاد أصلية، بلا طفولة، بلا حدائق أو ملاعب، بلا مدارس مناسبة بلا آباء متفرغين، بلا مستقبل.
على نفس خشبة الـمسرح في نادي مخيم الأمعري، يتواجد نفس طاقم الطائر الحزين مع الـمخرج نفسه، ليقاربوا تجربة مسرحية جديدة: حفار القبور، وهي رائعة شعرية سردية للعظيم الراحل بدر شاكر السياب، عالـم بلا قبور، عالـم بلا أجنحة، ما الذي يذهب إليه دائماً فتحي عبد الرحمن؟ ما الذي يهجس به ؟ما الذي يؤرِّقه؟ عوالـم بلا قسوة؟ بلا موت مجاني غير مفهوم، بلا عنف بلا خوف بلا تعب؟ لكن فتحي، يقدم هذه الرؤية في مسرحية الكبار هذه، وفي معظم أعماله، دائماً، من مدخل مثير وحساس ومدهش: إنه مدخل الطفولة الحزينة الـمقتولة والناهضة في الوقت نفسه، لن يختلف معي أحد حين أقول: إن مسرح الطفل في بلادنا ضعيف جداً، وقلائل من سيعارضونني حين أقول إن الاحتلال وممارساته ليسا هما السبب الوحيد لضياع حقوق طفلنا الفلسطيني، هناك أسباب أخرى مرتبطة بذهننا الـمشخصن ومفاهيمه الجامدة ورؤيته القاصرة عن رؤية ما هو أبعد من حاجات الأطفال الأساسية كالحليب والدفتر والـمسدس البلاستيكي. الهامش الـمعذب والجميل هو قاعة صغيرة في مخيم بعيد، بكهرباء متعثرة وضجيج خارجي لا يحتمل، هو فتحي عبد الرحمن، الفنان الذي اختار الـمقاهي البعيدة عن وسط الـمدينة حتى يتأمل تجربته ويكتب، مرة من الـمرات رأيته في مقهى الانشراح يجلس أربع ساعات دفعة واحدة مع أوراق وكتب، هارباً من عالـم النميمة الفارغة وحروب الـمثقفين التعيسة، أليس هذا ما نحتاجه في بلادنا التي تفتقد فعالياتها الثقافية ورموزها إلى الصمت والتحديق في الـمرايا والعمل الحقيقي والود والإبداع الطازج؟
فنان يهرب من الـمقاهي الضاجة بالدخان الفاسد والصراخ إلى حيث مقهى كبار السن الصامت البارد، فنان يهرب إلى قاعة مسرح مخيم شحيح الـملامح بمقاعد خشبية رجراجة وآيلة للسقوط، متخلياً عن أناقة القاعات الكبيرة والـمقاعد الـمخملية الناعمة، فنان يمشي كثيراً متأبطاً أوراقه وأحلامه وحزنه الخفي، في الشوارع قليلة الـمارة، ذاهباً إلى حيث نادل بسيط لا يشتم أو يحسد أحداً، ولا يتدخل في حياة رواد مقهاه.
فنان فلسطيني عاد من عمان بفرقته: "فرقة الـمسرح الشعبي الفلسطيني" العام 9691، والتي أنتجت عديداً من الـمسرحيات للكبار والصغار وفازت بجوائز عديدة وشاركت في مهرجانات عربية كثيرة؛ ليؤسس في بلاده ما يقترب من مفهوم النظافة في الرؤية الفنية وفي السلوك والـمطابقة الجهنمية بين الحلـم والحياة والإصرار على الفكرة التي في رأسه حتى لو كان ثمنها مقاعد خشبية متهتكة وإضاءة متلعثمة في مخيم موجود كل يوم، وبروتينية مفزعة وبنفس الوجه وكأنه غير موجود إطلاقاً، فنان من هذا النوع وبكل هذا العناد يستحق منا كل الحب والاعتزاز.
2006

0 التعليقات:

إرسال تعليق