أريد أن أتذكر فقط

أريد أن أتذكرَ مجلة "الكاتب" الشهرية الثقافية الفلسطينية، حين كانت هيئةُ تحريرها تجتمع قبل صدور العدد الشهري بأسبوعين، لتقرر بحزم ودقة ودون وساطات وتدخلات خارجية أي المواد تصلح للنشر وأيها لا تصلح، كنت أنتظر العددَ بلهفة، أقرؤه ببطء ومتعة، كانت المجلة تنشر نصوصاً إبداعيةً ومقالات فكرية وفلسفية ونقدية، وكنت أستمتع أيما متعة في قراءة مقالات السجال الثقافي، حول قضايا النقد والفكر، تبدو تلك الأيام كأنها ليست لنا من شدة اغتراب واقعنا عنها، كأنها حدثت في بلاد أخرى، وكأنني لست أنا الذي كنتُ هناك على حواف إبداعي وقلقي وريبتي الفنية وترقبي المفزوع اللحظةَ المناسبة لأدخلَ في المشهد الثقافي.
أتذكر لقاء الخميس الموسيقي الأدبي في قاعة اتحاد الكتاب في الرام، والناس من أعمار مختلفة يأتون للأمسيات، ليتذوقوا الموسيقى والشعر، دون أن يزعموا أنهم شعراء ويكتبون من زمان، ولديهم عشرات المخطوطات، ويرغبون في الانضمام للاتحاد، كان هناك شخص جميل هادئ غير ثرثار اسمه (القارئ)، يأتي ليسمعَ ويتأمل، ليتذوق فقط، أتذكر الشاعر علي الخليلي الرجل النظيف، بشاربه الكث وشعره الهائج، وهو يمر عني في ضاحية البريد ذاهباً الى القدس حاملاً أوراقاً وكتباً، يكاد يتعثر بظلال الكتب، وهو يشير لسيارة أجرة. أريد أن أتذكر فقط تلك الأيام الساطعة حين كنا نقرأ لشعراءَ وأدباء فلسطينيين منفيين (عادوا فيما بعد)، فتهز إبداعاتُهم أبدانَنا، وتغمر قلوبَنا نشوةً، ونسهر الليالي في أزقة المخيم نتحدث بنشوة عن تلك القصائد والروايات والقصص وعن أسطوريتها، لماذا فقدت النصوصُ الجديدةُ لمعظم هؤلاء بريقَها؟ لا أريد أن أقرر أية حقيقة، أنا أتساءل فقط وأتذكر، وهل هناك أجمل وأمتع من التساؤل والتذكر؟. أريد فقط أن أُعبرَ عن عدم انفعالي وتحمسي لأغلب ما يكتبون، وعن فقدان الحس السحري الذي كان يرتدي قلوبَنا ونحن نقرؤهم، أريد أن أتذكر قيمةَ ودلالةَ وفخامةَ الشاعر أو الأديب الذي كان يسافر الى مهرجانات الأدب والشعر في العالم، ليمثل الأدبَ الفلسطيني، أريد فقط أن أتذكرَ، لا أريد أن أقارنَ أبداًَ، بين شاعر وأديب اليوم الذي يمثل فلسطين وبين شاعر وأديب الأمس، ولا أريد أن أقولَ أن الفجوةَ مروعةٌ بين قيمة الشخصين الثقافية والانسانية والأبداعية. هذا النص هو نص تذكري، لا شبهةَ مقارنة فيه، ولا نيةَ فيه للنيل وكشف المسطحين، متصفحي الكتب لا قارئيها، ومهووسي ترديد المصطلحات الكبرى، لا هاضميها ومتمثليها، اولئك الذين ملأوا حياتنا نصوصاً وترهات "فيسبوكية"، و"انترنتية". هدف نصي هذا امتحان ذاكرتي التي صرت أعاني من هُزالها وارتجاجاتها، لا شيءَ غير ذلك، أريد أن أتذكرَ عزت غزاوي، وهو يصر أن يصنعَ لنا الشايَ بنفسه في مطبخ اتحاد الكتب، بينما مالك وصالح وأنا نجلس في القاعة نستغرب بساطةَ وطيبةَ وتواضع وسمو روح هذا المبدع الراحل، أريد أن أتذكرَ أديب زمان، الذي كان أديباً فقط، ولا أريد أن أقارنه بأديب اليوم الذي هو صحافي أيضاً ومدير عام وصاحب شركة تجارية وسياسي متعصب، فأنا أريد أن أتذكرَ فقط، لا شيءَ غير ذلك، لا شيءَ غير ذلك. هل قلتُ أيَ شيء؟ أنا لم أقل سوى التذكر، فقط التذكر.
zkhadash@yahoo.com

0 التعليقات:

إرسال تعليق