تسللوا تصحوا - فالحياة الحقيقية في فن التسلل



حين أُهزم وأُحس بالعالـم ضيقاً وخانقاً وبلا معنى، أتذكّر، على الفور، مقولة الروائي البرتغالي الشهير جوزيه ساراماغو: "للهزيمة وجه حسن؛ إنها غير نهائية، وللانتصار وجه قبيح؛ إنه دائماً نهائي". ثمة ترهل ما ومحدودية وابتسامات دبقة وفراغ في الانتصار، أما الهزيمة فهي بنت الـمعنى وأخت الكثافة وجارة الجمال وبائعة حليب الحنين. أهدأ وينتظم تنفسي؛ لقوة الـمعنى الذي يضفيه هذا القول العميق على إحساسي بمعنى الحياة التي أعيش، لكن الحياة لا تكفّ عن مفاجأتنا بمزيد من التفاهات واللامعنى، لذلك كانت ضرورة الأدب والفنون كدرب مشعث وبعيد وحقيقي ومعشب وبكر وجانبي والتفافي للـمنفيين والـمجروحين والهاربين من جدب الحياة إلى حدائق الـمعنى الخلفية، تأخذني قراءة ساراماغو، تحديداً، إلى حدائق معناي الخلفية، عالـمه الفني، هو رحلة بحث شاق وعثور طازج على معنى الحياة، أبطاله، غالباً، وحيدون مرضى بالوهم والتناقض ومحاصرون بالالتباس والـمفاجآت والارتباك الذي يقع فيه من لا يفهم لـماذا يحدث الذي يحدث؟.
في روايته الساحرة التي أنهيتها، ليلة أمس، وعنوانها (كل الأسماء) يصوّر ساراماغو بلغته التفصيلية العميقة والـمليئة بالشعر والفلسفة غير الـمتفلسفة والاحتمالات والتعدد وحدة وبرودة ولا معنى حياة موظف في دائرة الـمحفوظات العامة، رجل حساس يعيش في عزلة تامة عن العالـم، الوحيدون الذين يحتك بهم هم زملاؤه في الدائرة، حتى يكسر هذا الـموظف وحدته يلجأ إلى تسلية غريبة، فهو يتسلل ليلاً إلى رفوف بطاقات هويات الـمواطنين الـمشهورين من أدباء وفنانين وسياسيين ورجال أعمال، وينسخ منها معلومات عنهم، يكتب هذه الـمعلومات على بطاقات جديدة يخبئها بعناية في بيته الـملاصق تماماً لـمبنى الـمحفوظات العامة. وذات مرة، سقطت من أحد الرفوف، بالخطأ، بطاقة مواطنة عادية غير مشهورة، فأصاب الرجل الوحيد ما يشبه الارتعاشة الغريبة تجاه هذه البطاقة، ولـم يفهم لـماذا؟ فأصرّ على أن يدرس معلومات البطاقة، فإذا هي لـمواطنة عادية جداً، فتتواصل رعشات الفضول هذه وتتحول إلى هاجس ورغبة غير مفهومين، تنتاب الرجل رغبة قوية في البحث عن حياة هذه الـمرأة التي لا يعرفها شخصياً، ندرك في النهاية أن السبب هو رغبته الدفينة في خلق قضية ما ينشغل بها؛ لإضفاء معنى ما على حياته الفارغة والرتيبة، فهو لا يبحث عن شيء ولا ينتظر أحداً، ولا يضحي من أجل أحد ولا يتسبب في سعادات أحد، يتواصل البحث الـمجنون عن حياة الـمرأة الـمجهولة كما سماها بطل الرواية، إلى أن يعرف أنها انتحرت، مؤخراً، لأسباب مجهولة، فيشتد فضوله ليعرف لـماذا انتحرت؟ ويتسلل ليلاً إلى كل الأماكن التي عاشت فيها مثل مدرسة طفولتها وبيتها وحتى قبرها عبر رقم حصل عليه من أرشيف الـموتى، يفاجأ هناك براعي أغنام يقول له إنه يبدل أرقام الـموتى في الـمقبرة ليتسلى، فهذه التي يبحث عنها ليست هنا بل في مكان آخر نسي أين!! يصاب الرجل الوحيد بالرعب والحيرة، لكنه يواصل البحث عن سبب انتحار الـمرأة الـمجهولة، فلا يستطيع أن يحصل على السبب، حتى أهلها وزوجها لا يعرفون، نهاية الرواية غريبة، البطل يلغي بطاقة موت الـمرأة من أرشيف الـموتى وينقلها إلى بطاقة أرشيف الأحياء. وهكذا يعيش البطل معنى عميقاً تمثل في بعث الحياة في حياته الـمستقيمة هو أولاً عبر قضية بحث وفضول وقلق، ثم في الـمرأة الـمجهولة ولو كانت ورقاً أو رقماً.
أعطتني رواية (كل الأسماء) معنى لحياتي في هذه الفترة التي لا أجد فيها أي معنى، حديقة معنى خلفية توغلت في عطر ولون وجذور وصوت تربتها، فمنحتني سبباً للبقاء مندهشاً لساعات قابلة للتمديد. ما هو معنى الحياة خارج الدهشة والفضول؟ فالشيخوخة تبدأ حين ينتهي الفضول في حياتنا، والكلام لساراماغو التسعيني نفسه، الذي ما زال يكتب، أي يتذوق الـمعنى.
معنى الحياة هو في البحث والحلـم والاكتشاف والتسلل إلى ما لا يسمح لنا من أفكار وأماكن وأحلام، والتعرض لشمس الـمفاجآت، وتبني قضية ما نضحي فيها ونخاف ونغامر ونغني أغنيات غابات الحياة وظلامها من أجلها، حتى لو كانت البحث عن معنى الوردة ولغتها وتاريخها وجراحها الخفية، وفي قراءة الروايات ذات الـمعنى الكبير كروايات ساراماغو الجميل.
نتسلل إلى بيت امرأة نحبها ليلاً في غيابها وعلى أطراف لهفتنا وخوفنا، نبحث هناك في البيت عن طزاجة وبكارة ورائحة الأشياء الحقيقية، لا أقنعة الأشياء التي تضعها الـمرأة بعناية وترتيب يفسدان عذرية الرؤية، ويخفيان حيويتها وطاقتها حين ندخل بيتها بحضورها من باب البيت الطبيعي. أما في حالة التسلل من باب الـمطبخ أو عبر تسلق شرفة ثم الهبوط الخافت القططي إلى قعر بيتها فتنتظرنا الرائحة التي نبحث عنها وهي هنا معنى الحياة، الرائحة الطبيعية للـمطبخ والحمام والأثاث والـملابس الداخلية والستائر والأحذية والشراشف والنوافذ والغبار. تلك هي الحياة كقلعة، ذلك هو التسلل ــ الـمفتاح.


ZKHADASH1@GMAIL.COM

0 التعليقات:

إرسال تعليق