أيام القطمون الأخيرة .. موسيقى الحب الـميت


تقف آخر الآنسات الناعمات الباقيات في الحيّ في شرفتها بحيّ القطمون، تنتظر بعينين متعبتين ومحبتين وقلقتين آخر الرجال الـمقاتلين، الذين بقوا يدافعون عن آخر الآنسات، آخر البيوت، آخر الحلـم... .
"أنا أعبده، كم هو جميل، كم هو بطل، كم هو مضحٍ"، تقول آخر الآنسات في سرها. أزهار الشرفة تسمعها؛ فتخجل، وتمر رصاصة مسرعة بين خجلها وعينيها، وهي تحمل في يديها صرة طعام قماشية، هي تنتظر الرجل الشرس ليأتي كالعادة تحت الشرفة فتسأله: "كيف هو الوضع يا إبراهيم؟". كأنها كانت تريد أن تقول: "لا تمت، أرجوك؛ فأنا أحبك يا حارس حينا".
سننتصر يا هالة، سننتصر، على جثتي سيدخلون القطمون. الشرس آخر الرجال في الطرف الآخر الجنوبي من الحي، يقاتل مع بضعة رجال، بلا طعام، بلا ماء، ببنادق صغيرة منهكة، والد هالة، وهو الكاتب العظيم، في غرفته يقرأ ويكتب، الرجل الكبير ــ الذي عرف بالضبط لـماذا تضيع البلاد الآن ــ محبط وحزين، لكنه غير متفاجئ، هو ما زال يكتب يومياته التي ستحدث فيما بعد ضجةً كبرى في حياتنا الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية، هو ما زال الرجل نفسه الذي يستحم بالـماء البارد صيفاً وشتاءً، على الرغم من حمم الـمدافع التي تدكّ الآن جدار مائه، الابن الأكبر في الطابق السفلي، يراقب مصعوقاً انهيار البيوت والوجود، البنت التوأم، خائفة وحزينة، الأم ميتة منذ سنوات، العمة العازبة في الـمطبخ تحضر آخر كاسات الشاي بصمت، كانت هالة الناعمة تحب القدس وتحبه، بضجيج كان الشرس يحب البلاد ولا يحب سوى البلاد، لـم يأت الرجل بعد، لكن هالة، لا تسأم من الانتظار، أختها الخائفة في الداخل تناديها: احذري رصاص الآخرين يا أختي، لا تكترث هالة الناعمة، فثمة حارس تحبه يتجول في الـمنطقة يحميها من رصاص الآخرين، لا يأتي الرجل، الرصاص يتطاير من فوق رأس هالة، والأخت تصرخ: ادخلي يا مجنونة، الأب ما زال يعرف لـماذا سيسقط القطمون بعد قليل، لكنه لـم يكن يعرف قصة حب ابنته لحارس القطمون، لا أحد كان يعرف، سوى أزهار الشرفة التي كانت ترتفقها هالة.
تدخل غرفتها، تشعل شمعة، فالكهرباء مقطوعة، تصلي لحارس حيها وقلبها، وتمضي إلى دموعها.
هل الحب في الحرب محكوم عليه (بالـموت) في الحرب. كالرجال والأزهار والأطفال والبيوت؟، في أول أيار، يصاب الرجل الشرس في عموده الفقري، فينقل إلى مشافي بيروت، حيث يموت هناك بتاريخ 6/3/1952، يشارك في جنازته مئات الآلاف من البشر، تغادر الأسرة الطيبة حي القطمون إلى القاهرة بعد رحيل الرجال، تعود الأسرة ممثلة بالأختين، الأخت الناعمة والأخت التوأم ديمة، بعد العام 67 إلى رام الله، ناقصة الابن والعمة والأب الذي كان يعرف بالضبط لـم سقطت القدس مرتين؟ ستكبر هالة كثيراً، ستصبح ثمانينية، تمشي في شارع مكتبة رام الله، إلى اللامكان مثقلة بذكرى بطولة منسية للرجل الشرس والأزهار الوفية، وحدها ستبقى أزهار الشرفة هناك في القطمون، تعزف موسيقى الحب الـميت، هل مات حقاً؟ هل يموت الحب؟ حتى لو كان جنيناً في بطن الصمت؟ حتى لو كان مجرد هاجس صغير، أو فكرة ضئيلة أو رغبة غامضة؟ في بيت هالة في رام الله لن تكون هناك شرفة، ستحزن هالة، لكنها ستجد حلاً، ستتوسل لصاحبة الطابق الثاني أن تدعها تقف على شرفة بيتها، بضع دقائق في اليوم، ستوافق صاحبة الطابق الثاني، معتقدة أن هالة تحب أن تنظر إلى بحرنا البعيد، ستواظب هالة طيلة سنوات رام الله على الوقوف هناك، تنتظر رجلاً رائعاً سيأتي بعد قليل، لاهثاً ومبتسماً، سيقعد تحت الشرفة، ينظر إليها، تنظر إليه، يتبادلان الصمت والابتسام، تنزل إليه عبر حبل صرة الطعام مع زجاجات الـماء، ويقول لها كلاماً واحداً، ثابت الإيقاع: "سننتصر هالة، سننتصر، فقط على جثتي سيدخلون القطمون". الرجل لا يأتي، فتهبط هالة درجات الطابق الثاني، على أمل أن يأتي الرجل غداً، تشيّعها عينا صاحبة البيت الطيبة.
ستقول لي صاحبة الطابق الثاني: إن هالة كانت مريضة جداً في آخر مرة زارت فيها الشرفة، وإنها ماتت بعدها بعدة ساعات، ولن تنسى صاحبة الطابق الثاني كلـمات هالة الأخيرة على الدرج: "سيأتي، سننتصر، سيأتي، سننتصر، سيأتي".
على الرغم من رائحة الأغراب الغريبة التي فغمت جلد الغرف، فما زالت أشباح الأزهار هناك تغني بصمت حكاية رجل شرس وسيدة ناعمة، وحي أنيق اسمه القطمون كان يوجد بأصرار ذات زمن.

0 التعليقات:

إرسال تعليق