غيمة حلوة تعض يدي

استاذ زياد: "أنت بتخرب عقولنا بدلاً من أن تبنيها"، جمُدتُ أمام أحد طلابي في الصف التاسع وهو يلسعني بهذه الجملة، في آخر العام الدراسي، أُستاذ أنت تشبه شخصاً يتلذذ في تعذيب الناس، أنت تُسيل الماءَ أمام رَجلٍ محبوسٍ ولم يشرب الماء منذ أيام كثيرة، لماذا تفعل ذلك؟ لِمَ لا تتركنا عمياناً ومظلمين بدل أن تصدمَنا وتخرّب أذهانَنا وتشيعَ الإرباكَ في مخيلاتنا؟ هذا ما قاله لي أخي الذي علمتَه أنت في العام الماضي، هو الآن يعاني من أزمة العودة الى الطريقة المعتادة في الاحساس بالاشياء، أنت ظالم يا استاذ ظالم، وأهلي مستاؤون منك، وأبي يفكر في تقديم شكوى ضدك للوزارة، سامحك الله، لا أدري كيف لَبيتُ طلبَك وأطللتُ من الشباك مرة ومددتُ يدي للغيمة حتى تعضها عضةً خفيفةً وأُشفى من الحزن كيف؟؟ نحن لا ندري أين الخلل؟ هل هو فيك؟ ام في المعلمين الآخرين؟ بصراحة لم نعد نعرف.. أنت تدّعي أنك حداثيّ ومجدد، لكن لماذا لا يكون الخلل فيك.. وما هي الحداثة؟ هل الحداثةُ أن أكون حديثاً في نصوصي وقديماً في سلوكي؟؟، لماذا لا نكون مثل المدارس الاخرى؟ ماذا يعني ان نختلف عنهم، أنت علمتَنا أن ثمنَ الاختلاف مؤلم وصعب وخطير، لا تزعل منا استاذَنا، الصف الذي علمتَه العام الماضي والذي هو الآن في مدرسة اخرى (أنت تعتبرها تقليدية) يعاني من نتائج حداثتك وجنونك، ماذا يعني أن الشجرَ ممكنٌ زرعُه في الضباب، وأن القمرَ يتسلل الى فراشنا ويبكي على وسائدنا، وأن الوردَ هو شوكٌ نادمٌ او متزوج حديثاً. وأن العقارب أصلُها فراشاتٌ مرتدة وخائنة أو مسحورة.
صعقتني كلمات يزن، قلتُ له متلعثماً: لن أُجيبَك الآن، سأذهب الآن الى البيت، سأفكر بما قلتَه، ما قلتَه مهمٌ جداً ومثيرٌ للنقاش.
أمام النافذة المفتوحة بانتظارغيمة ثقيلة الفم تعض وجهي لأتخلص من شعور بالاختناق، هكذا علمتُ طلابي أن يفعلوا وهي طريقة اليابانيين القدامى في طرد الأسى، لم أفكر كثيراً بما قاله يزن بناء على استياء أخيه زيد الذي علمتُه العام الماضي جمالياتِ تقليب الأشياء وتأمّل طياتها وتفكيكها، ورفض الانحناء أمام سطوح الظواهر المخادع، والإصغاء برهافة للصامت والعميق والمخبوء من مفردات العالم، منذ اللحظة الاولى فهمتُ أن هناك بالفعل أزمة، والغريب أني لم أُفكر بما قاله يزن من قبل، كنت أعتقد أن مجردَ زرع بذرة الجنون في أذهانهم كفيلٌ بأن يجعلَهم ينمون في جو حداثي حواري ديمقراطي، صحي، نقي وأنهم سوف يجرفون في طريقهم كل ما يعطل تذوقَهم التلقائي والطفولي و الغرائبي للحياة. لم أُفكر في عنف ورخاوة وبلادة ما ينتظرهم في الصف العاشر في المدرسة الاخرى التي سينتقلون لها، لم أُفكر أن الصخرة المتربة التي حملتها قبل اسبوعين تقريباً بمساعدة خمسة طلاب ضخام الجثة من الجبل المجاور ووضعناها على طاولة الصف وزيناها بالشموع كمقدمة او خلفية او مقدمة لدرس الكتابة، ستشكل ذكرى حزينة محبطة للطلاب حين يستمر مشهد الصف بتكراريته القاتلة وأشيائه الثابتة كما هو طيلةَ عام كامل قادم، لم أُفكر أن الأساتذة الآخرين في المدرسة الأخرى سوف يتهمونني بالخرف والهرم والادعاء، حين يسألهم طلابي لماذا لا نقرأ سأم الريح الليلي الخريفي الخفيف ونتحسس قفا المدينة صباحاً، ونحاكم أكاذيب الصيف؟ ونلبس وجوهَ الشجر والموت والبرد، ونرسم لون الخطيئة، كما كنا نفعل في المدرسة السابقة؟. سوف أعترف الآن أن الطريق الغريب الذي شققته لروح طلابي ومشاعرهم كان محاولةً شخصيةً مني كي أهربَ من الوحش الذي يسكن المدرسةَ دون أن يغادرها لحظةً واحدة هو ( التكرار)، هو إبحار جماعيٌ إذن لهروب كبير من طوفان التكرار والثبات الذي لا يتوقف عن الفيضان هناك في البنايات المسورة بإحكام، لا شيءَ يتغير، كل أعوام الدراسة تشبه نفسَها، المدرسةُ التي تعلّم فيها أبي هي نفسُها التي تعلمت فيها أنا، هي ذاتها التي يتعلم فيها طلابي، المعلمون الذين كانوا زملاء لأبي هم انفسهم زملائي الآن، أنا رفضتُ ان أكونهم، لذلك أنا في نظرهم غير طبيعي، مريب ومخيف، الاسوار نفسها العالية والكالحة التي تحيط بالملعب،الطباشير نفسها يعاد تدويرها من غبار الطباشير القديمة، كل شيء هنا يتم تدويره : المنهاج والسبورات والدفاتر، والمقاعد والكتب والغرف والاقلام، فضاءات النصوص والدروس المقررة في المنهاج هي هي حتى لو اختلفت أسماء مؤلفي المنهاج، حيث لا اسئلة ولا نبش وتقليب ومساءلة لتربة النصوص واوجهها الخفية، ولا تحريض على حوار او اقتحام لمناطق جديدة في التفكير والشعور، او استفزاز لجدل. ما زال الطلاب في بلادنا يمزقزن دفاترهم وكتبهم ابتهاجاً بنهاية العام. انا مزقتها واساتذتي مزقوها قلبي، وطلابي يمزقون الآن، وطلاب طلابي سيمزقونها لاحقاً. الاذعان والثبات والخوف، هذه هي عناوين الحياة المدرسية في بلادنا. كيف لا أهرب الى الحلم؟ لأحافظ على صحة عقلي؟ كيف؟.
حبييي يزن: اعترف لك تماماً بوجود أزمة كبيرة ستنتج عن الصدام بين الطعم السديمي للاشياء الذي دربتكم عليه وبين الطعم الحامض، القديم الجديد الذي حاولت ان اخلصكم منه، سيكون هناك صراع بين الحموضة والسديم. أنت تعتقد ان الحموضةَ ستنتصر بحكم طول فترة الدراسة القادمة في مدارس تقليدية جداً، وبحكم قصر فترة الحياة الحلمية التي عشناها معاً، هل أعتذرُ لك؟ هل أُبدي لك عجزي عن التفكير، لا لا يا صديقي الصغير، لن أعتذر، لأني ببساطة لا استطيع أن أستسلم للوحش، ليس ذنبي أن عالمناً قاسٍ جداً ومراوغ ولا يكترث بأحاسيس الآخرين النيرة والصادقة، ان القدر وضعني أمامكم، لا بديل لي عنكم، لا أُخفي استمتعاعي معكم في كل حصص محاصرة قِطع روث الوحش التي تتساقط علينا من فتحات السقف وتتسرب من النوافذ ومن تحت الباب، ولا أُخفي في الوقت ذاته تعبي، نعم أنا تعبٌ جداً جداً من هذه المهنة التي خفّضت من مستوى ذكائي، صحيح أنني هزمتُ الوحش، لكني تعبت من ردعه، هو لا يتوقف عن مهاجمتي والتربص بي. اطمئن صديقي الصغير، فالروح السديمية المبدعة ان دخلت كيانَ أو حواسَ انسان فصعبٌ ان تتركَه، لن يهزموك، وسوف تحلُم بضوء الصخرة الغريبة في الصف كل يوم، أما الشموع فسوف تبدد لك رائحةَ الصفوف الخانقة. وتهديك أجمل وأصفى الروائح.
الغيوم الحلوة ستظل تدق نافذتَك يا يزن لتتعرض يدك لعضها الندي، ولن تملَ العقاربُ من ملاحقتك في صورتها الاولى وحقيقتها المؤكدة (الفراشات المسحورة) ولن يتركَك الوردُ وهو يومئ لك من بعيد، مذكراً إياك بأنه شوكٌ نادم. لن يهزموك يا صديقي الصغير.. لن يهزموك.

0 التعليقات:

إرسال تعليق