وفجأة اكتشفت اني احبه.. كان اسمه ياسر عرفات

لابسا منامة زرقاء وطاقية صوف ومحاطا باطباء، بلحية شائبة ومدببة ، مبتسما ، ذلك الابتسام الواسع ، الذي يتسع لالف بشارة والف وطن ، كان ابو عمار هو نفسه جدي خليل الذي مات في شتاء 1983 ، شلني الذهول لمرأى رئيسي -جدي وهو بملابس المرض او النوم ، وفي الليل ، بكيت وحدي تحت لحافي، - لابد اني احلم ، فابو عمار كما نفهمه ونحسه ونراه ونلمسه هو تلك الفكرة المقدسة ، المتذبذبة بين الاسطورة والحقيقة ، فكيف تمرض الفكرة ؟ وكيف تشيخ كيف تلبس منامة وطاقية صوف وتمسك بوهن بأيدي اطباء ؟؟؟؟، بعد ان تعلقت شعوب باهدابها ونامت مدن مسروقة وحزينة على كتفها ، وعاش في فيئها أمل أمة ، وسكنتها اوجاع شعوب ، هو ذلك الجبل الطويل الكبير المترنح بين الوهم والواقع ، فكيف يحني الزمن ظهر هذا الجبل ؟؟ كيف يصمت فجأة الجبل ، ينكمش على عزلة باردة وعجز مرعب بعد ان هز العالم بصوته ، برؤاه وطريقه وتصميمه ، كيف تركض الريح على وجهه بصفاقة ؟؟، بعد ان كان يحبسها ويطلقها كما يشاء ، لماذا احس اني فقدت جدي خليل خداش مرتين ، في شتاء العام 83 كان يتمدد بعجز هائل على فراش موت مؤكد ، وكنت انا آخر الذين انحنوا على تجاعيد وجهه ، كانت الحياة تنحسر عن جسده رويدا رويدا ، زرعت هناك تحت جفنه مباشرة (على ربوة رخوة - قبلة خفيفة)او دمعة خفيفة لا ادري بالضبط ، كان جدي يلبس طاقية صوف ويلبس منامة ، كانت مجرد رؤيتي له بهذا اللباس كفيلة بتحطيم قلبي وبالتأكد من قرب رحيله ، تماما كما حدث مع ملابس ابو عمار ، جدي خليل كان فلاحا شرسا ، وظل حتى اخر يوم في حياته ، مرتبطا بعلاقة غريبة مع الارض ، والارض التي اعنيها ويا للمأساة ! هي قطعة ارض صغيرة جدا خلف بيتنا في مخيم الجلزون -رام الله ، الان افقد جدي مرة اخرى ، كان جدي خليل والد ابي الذي اتى بي الى هذا العالم ، وكان ابو عمار والد احساسي بهويتي وكينونتي الوطنية وفلسطينيتي ، لا اذكر يوما اني احسست اني احبه في حياته ، ورغم اني اتفق تماما مع نهجه السياسي ، الا ان عدم محاربته لسوء ادارة المؤسسات والفساد ، هو الذي ابعدني عن حبه ، الان اكتشف ان ابي الذي كنت اكرهه احيانا وكنت اتمنى زواله عن هذا العالم في احايين كثيرة لانه منعني من الذهاب الى السينما او لانه منع عني مصروفي عقابا على اخطاء ارتكبتها ، هو نفسه ابو عمار- (ابانا )الذي لم يكن احيانا على مستوى طموحنا الجامح ومطالبنا الكثيرة المثالية ، اخطاء ابو عمار هي اخطاء ابائنا الجميلين ، الذين نضجر منهم في احيان كثيرة ، وحين يغيبون عنا نندم ونموت حسرة وخوفا ، نتوه في البراري، ولا نعرف الطريق الى البيت ، فننزوي في الزاوية ونبكي، مالذي فعلته لي تلك المنامة الزرقاء وتلك الطاقية الصوفية وتلك الايادي المتعلقة بايدي اطباء مبتسمين ،؟؟ لم نعرف زعيما اخر لشعبنا ، لذلك يحس الناس هنا بيتم غريب لماذا لم يكن لدينا زعيم اخر ؟؟، هل هي الديمقراطية الغائبة عن حركتنا الوطنية وعن مجتمعاتنا وعن حياتنا الشخصية ؟؟، ام هي عبقرية هذا الرجل ، وندرته وقوه حضوره الخارقة التي فرضت نفسها كقائد لا يشبهه احد ولا يحل محله احد ،لن انشغل بهذا السؤال لن اتحسر على ظاهرة غياب الخيارات والفرص والاتجاهات، والقيادات في حركتنا الوطنية والشخصية لانه لن يفيدني هذا التحسر ابدا سأقلق على القادم ، ساخاف من الجديد يا الهي: لماذا يخيفنا الجديد دائما؟؟ الاننا ابناء العادي والمالوف ، واصدقاء المعهود ، واعداء الحديث والمتجدد والمتغير؟؟
لن اجيب على هذه الاسئلة المهمة ، سانشغل فقط بما سيحدث بعد هذا الرجل العظيم ؟؟ احين تغيب الجبال تظهر الوديان ؟؟، هل هناك جبال بعده ،أهو اخر الجبال الطويلة ؟

اطفال صامتون بملابس العيد
اكثر من مرة في اليوم الواحد زرت قبر رئيسي الراحل، اكثر من شمس غابت على وجهي ، واكثر من مساء عبر دموعي وارتباكي وعجزي ، وذهولي وانا اقف مع المئات ، الصامتين اطفالا ورجالا وشيوخا ونساء واطفالا رضع على احضان امهاتهم ، عائلات بكاملها اباء واحفاد واجداد وجدات ياتون الى قبرك يا سيدي ، في يوم العيد ، يحدقون في صمتك ويستغربون : اين ذهبت كلماتك وصوتك ووجهك؟؟ اين غابت يدك وهي تلوح ببشارة او تهدد بعاصفة، اقف الان خلف عائلات صامتة، استرق النظر الى خوفي وحزني في خوفهم وحزنهم، ارى رضيعا على حضن امه ، كان يتحرك وينظر نظرات عشوائية هنا وهناك، ويطلق اصوات ضجر او رضى، نشوة او جوع ، أم الرضيع تبكي بصمت ، فجأة هاجمني هاجس موجع : هذا الرضيع لا يعرف انه يقف امام قبر زعيم شعبه ، هذا الرضيع لا يعرف ان امه وابوه وجده وجدته يبكون رحيل رمز وجودهم كشعب ، هذا الرضيع سيعرف بعد عدة سنوات عبر منهاج الصف الخامس انه في وقت ما من اوقات هذا العالم كان هناك زعيم عربي كبير اسمه ياسر عرفات ، كان يلبس دائما ملابس عسكرية، دائما مبتسم ويلبس كوفية ، و يتجول في العواصم بحثا عن كرامتنا وشرفنا ، بحثا عنا، لم يكن يرتاح قليلا ، كان دائم البحث عن حقنا في الوجود ، كان اسمه ياسر عرفات ، ويكنى بابي عمار .

0 التعليقات:

إرسال تعليق