رجل آيل للبكاء

وحشة منتصف الليل، صمت الليل الكبير، ضجر معتم ينشب ظلمته الضريرة الحادة في عيني، وداعة طفلي وزوجتي النائمين بجانبي على السرير، ما الذي يؤرقني؟ ما الذي يجرؤ على جرح هدوء ليلي؟ فأنا رجل أعمال ناجح، أصدقائي كثر وأوفياء، في بدني تنبض صحة عفية، لي تراثي النضالي الطويل، اصلي أحياناً بخشوع مرتعش باكٍ، ما الذي يؤرقني؟ ما الذي يوقظني بفظاظة قاسية من غطيطي الهانئ منتصف كل ليلة. من، من؟ وحيداً مع حيرتي وشحوب نظرتي وانكسار مرآتي، هل أوقظ الان زوجتي؟ نعم لتنهض الان زوجتي، أليست هي شريكة فرحي وحزني؟ فلتقاسمني حيرة الليل وجمر الارق، مددت يدي نحو وجه زوجتي، توقفت اصابع كفي طويلاً عند موانئ شفتيها. يا لهاتين الشفتين! كم احترقت في اتونهما جسداً، منهمكاً ظامئ العصارة، ملحي المخيلة هائماً على هزالة الكسير المستبد! كم اشتعلت على شواطئهما شفاهاً مغتربة متحشبة منهارة باردة! كان المطر شرساً مجنون التقاطيع بقامة هرمة مترهلة ونوايا غامضة مرهقة كنت اجلس بجانبها في بيتها على اريكة دافئة، راسماً على وجهي ابتسامة ثابتة مشروخة، وموزعاً بين الحاضرين من طلبة وشعراء ومثقفين تحايا عيون معذبة، خفية، تفتعل الاناقة، وتتكلف الوقار، كنت احمل لها في اضلعي المقرورة هستيريا ظمأ متوقد، وعاصفة حنين متلاطمة الحقول، والأشجار، والشواطئ، كامنة، خجولة، كنت أحبها هذه الفتاة التي اسمها احلام، والتي أصبحت الآن زوجتي، كنت أشتهي عينيها، وهما تمطران الرشاقة والحكمة، والجنون، والثرثرة الناعمة، اشتهي أصابع يديها الرخصة وهي تتحرك أمامها في الفراغ المنتشي خلل صوتها العذب، نظرتها البضة دخان لفافتها، عذاب الأعين السكرى، وضحكات الأصدقاء المنطوية على أسرارها وأشواقها الخاصة جداً.

كان الوطن لا يزال يتلوى تحت قهر الحصار، نهر الشهداء يدفق مبتسماً، مختنقاً، معذباً دون توقف للمراجعة المتسائلة والندم المهزوم، تنهدات الجرحى تنهمر في أروقة المستشفيات وعيادات الحواري المعتمة تربك أيادي الأطباء وتفجر الدمع والرعب في عيون الممرضات، حجارة الصبيان تتساقط جذلى فوق الرؤس المثقلة بوهم اللون الواحد، والرائحة الخاصة.

قالت انت مبعثر وضائع كرماد فاجأته عاصفة بلا قلب بلا ذاكرة .

قلت: يا صديقتي انا كذلك ولكن ساعديني في البحث عن الاتجاه الصحيح، كوني بوصلتي .

قالت: انت عطش للحياة وحالم، مشاعرك مزدحمة بالموسيقى والزهور مثلي تماماً لكن ارضك قاحلة حتماً ستجد يوماً مطرك .

قلت: اذن انا اشبهك ايتها الماكرة هل انت ايضاً ارض قاحلة؟ اذا كنت كذلك كوني مطري لاكون مطرك.

قالت: تشبهني ام تشتهيني؟

قلت: عندما اشبهك فأنا اشتهيك في ذات اللحظة، وعندما اشهيك فأنا بالتأكيد اشبهك. آه ايتها الشهية كم انت ممتدة في شراييني!

قالت: الى اللقاء سأذهب ولكن احذر شبحي سيبقى سيبقى.

قلت: شبحك سينام الليلة معي في غرفتي الصغيرة الباردة.

قالت: بدأت تتصرف كرجل شرقي.

من نومها تنهض زوجتي على أنين أصابعي، طويلاً تحدق في وجهي المختنق برماد الذكريات، تمد يدها الى جبيني وشعري، تمسح عنهما الضجر والمخاوف والارهاق والفوضى، تشد وجهي بشبق محاذر مفاجئ الى صدرها النائم في غيبوبة لذيذة مستثارة، تلقمه حنانها، دفأها، على صدرها اهبط حمامة وادعة تائهة حط على عشها الهانئ الآمن بعد طول ضياع.

أحلام الشهية التي صارت الآن زوجتي، كتبت تقول في رسالة أخيرة قرأتها في زنزانتي ذات انتفاضة مدينة مثخناً بالهذيان، والوحدة وسخرية السجان، وهواجس الكبرياء، والموت، والدموع، وأطياف الأهل، والأصدقاء، والطرقات الحيية، وكانت المحامية اليهودية قد دستها في جيبي، ذات لحظة مسروقة، خاطفة، من الزيارة الأخيرة.

صديقي: الشاعر تماماً كالنبي كلاهما لا يتكلم الا بعد أن يخضع لسياط الالهام، هل ستخرج من زنزانتك بقصيدة هذيان بطل؟ أيها الطفل الكبير: لديك مخيلة خضراء ولغة صديقة وذاكرة مشعة. أي سجان أبله ذلك الذي سوف يجرؤ على مقاومة بهاء حدائقك العفية وفضائك الملون!! أي سجان!!

احلام - رام الله 20/2/1987

يا صديقتي: أي فضاء وأية مخيلة خضراء، أنا أرى الرمادي، الرمادي يسكنني حتى العظم أين الأسود؟ حتى الأسود الذي يعينني على تخيل الأبيض غير موجود، أنت تهزين عندي أسئلة كثيرة نائمة، ولكنك لن تزحزحي قيد أنملة تكالب الصراصير الحقيرة على جنبي وأطرافي، لن تسكتي تنهدات وصرخات رفاقي في الزنازين المجاورة، لن تلجمي رياح المجهول وهي تتسرب الى زنزانتي مع كل صفعة من صفعات السجان .

الرابعة فجراً، وحيداً مع الصمت والارق، عادت زوجتي الى نومها، تسللت خفية من حدائق صدرها المنيرة الى الخارج المظلم، بعد جولة من الطرب قصيرة نشقت فيها عبير ازهارها، وقطفت حبات توتها، المهيأة للفناء العذب في بحيرة لعاب مهووس، نهضت من فراشي، هاتفي المتنقل على الطاولة، هل اتصل بعامر صديقي الذي يتنزه الان على شواطئ تل ابيب، برفقة صديقة يهودية؟ فتحت باب الشقة المطلة بأناقة مفرطة على بستان اخضر وسيع، هل سمعت صوته الغامض وهو يصرخ عليك مستغيثاً من جحيم هاوية، من تحت شجرة برقوق، موغلة في الظلام والتكتم؟ أم كان يصرخ حانقاً متوعداً ؟

أحقاً أنا اسمع صوته الآن؟ أم هو غول الارق وصمت الليل الثقيل وغبش الرؤية ما يصور لي حفيف الشجر صوتاً بشرياً يشبه صوتاً صديقاً عدواً، قريباً بعيداً، دافئاً بارداً يسكن منطقة حبيبة مكروهة في ذاكرتي. كان شتاء 1988 شتاء خاصاً جداًَ دموي الريح وحشي الأقدام والاعصار، كنت اشق طريق الكفاح اللاهب مع صديقي وائل وصديقتي احلام، في حواري وأزقة رام الله القديمة، كانت المهمة ملحة وصارمة: " كل أنش " في المدينة والقرى المجاورة يجب ان يحتضن البيان رقم (6) .

رام الله البهية مدينة من الورق المتطاير، تعج بظلال الاشباح المتقافزة من جدار لآخر، ومن شارع لشارع، صباح المدينة الرمادي، شهداء جدد، بنادق جنود مشرعة، دموع امهات مختلطة بزغاريد واهنة، حيرة آباء ودوي آمال كبيرة .

قلت: أرى في عينيك جحيم اسئلة، اسكبيه أمامي يا سيدة فرحي وأميرة قلبي .

قالت: هل خطر ببالك يوماً أن الجحيم يمكن أن توقد فوق الأرض لا تحتها؟

قلت: اسمعي وتحملي جنوني هذا. أنا مستعد للاحتراق في جحيمك، جحيمك هو مقبرتي الأثيرة، دمريني يا حبيبتي، هشمي دنياي، ذوبيني قطعاً من البلور المحترق في شعاب نارك .

قالت: هل أنت مستعد للمفاجأة - الطلقة؟

قلت: اطلقيها ولو على جثة ابتسامتي وهشيم هنائي.

قالت: وائل يسكنني بجبروت لا يقاوم، وائل حبيبي الخفي الذي لا شبيه لطعم شفتيه، وأصابع يديه وألق ضحكاته.

قلت: اذن هو الصدى، الصدى، الصدى، اين الصوت الآخر؟ أنا رجل صحراوي غير قابل لصداقة الربيع والموسيقى والبحار، الصوت الغامض المستغيث المتوعد يطرق زجاج غرفتي باصرار متعب، يأتيني وجه وائل المدمى المحمول على نهر من الدموع ونعش من الذهول والتنهدات، قطعة قطعة وقطرة قطرة يتسرب وجه وائل الى فراشي، زوجتي نائمة، وطفلي يتقلب في فراشه، كان وائل صديق طفولة رائع، كنت احبه تارة بجنون وتارة بتحفظ، فقد كان يغلق باب غرفته ويرفض ان يفتح الباب لي قائلاً: عد بعد ساعة، أنا مشغول مع صديقي الحميم لوركا، وعندما أعود بعد ساعة يفتح لي الباب، بملامح مخيفة غريبة ويصرخ في وجهي ملوحاً بقضبته في الهواء: الحياة يا صديقي هي أن نموت عند مرافئ فكرة عظيمة، أليس كذلك؟ ثم يعقب ذلك بتنهيدة عميقة، وتحديقة طويلة، في الأفق المضطرب.

0 التعليقات:

إرسال تعليق