بقايا شتاء قديم

صامتين دخلا غرفة الفندق رقم 13ستيني واربعينية، وقف هو أمام المرآة طويلاً، محني النظرة مدلى القلب، يحدق في مناجم عينيه المهدمة، جلست هي على السرير، خلعت حذاءها، استلقت، نحيلة وقريبة نحولها ممتلئ وودود، واقف ابدا على أهبة تهور، سمعته يسعل، نهضت، أحس بها تقترب، أغمض عينيه لثوانٍ غارقاً في عذوبه ذلك الصوت الخافت المرعب اللذيذ، صوت قدميها الحافيتين على الأرض، أعرف هذا الصوت جيداً، هذا الصوت صديقي روحي تضج بلغزه، مفتاح لياليّ الغابرات المضيئات .. مثل طعنة ضرورية ورحيمة في الظهر من صديق مجهول، تأتيني صورة ليلة لن أنساها، كنت استلقي عارياً على السرير بانتظارها على ضوء شمعة، ليلتها سيطرت علي رغبة غريبة أن ألتهم ثدييها واقضم إصبع قدمها الصغير، في الحديقة الملاصقة للغرفة كانت قطة تموء بضجر وريح تمشط شعرها استدراجاً لمطر قد يأتي، بين المطبخ والحمام والصالون وغرفة المكتب كانت هي تتنقل حافية القدمين أرعبني صوت أقدامها الحافية على الأرض، لم أعد أريدها أن تأتي، أريدها فقط أن تمشي بين غرفة وأخرى ولا تكف عن المشي، شعرت بثيران شرسة تقفز من جسدي، تنطح المرآة والجدار والنافذة .. الصوت مراوغ قاس مدهش، فيه غفران خيانة ما وحكمة انفلات هادئ، ما هذا الصوت؟ أهو سائقة شاحنة مجنونة، محملة بجرار نبيذ معتق لم يسمح لها بالمرور خوفاً من ضجيج زامورها، تشرب السائقة المجنونة جرار النبيذ دفعة واحدة، انتقاماً من سكان المدينة المتعفنين . تنصب خيمتها على مقربة من الحاجز، تبث من هناك رعشاتها وأسرارها وانفجاراتها البعيدة . آه يا صوت قدميها الحافيتين ابتعد، ابتعد، ابتعد، . أحس بها تعانقه من الخلف، مرخية رأسها فوق كتفه، مغمضة العينيين، كفتا يديها فوق بطنه، سمعها تهمس : آه يا كنزي .. هما داخل المرآة الآن ألان، مقبوض عليهما بتهمة الاقتراب المريب، رجل يقف على حافة جنون ما تسنده امرأة بنهديها المخلصين وأنفاسها البنفسجية تدحرجت الكلمات من فمه وحيدة وشريدة .

- بعد نصف ساعة سيأتي، سيطرق الباب ست طرقات واهنات، سيكون مرتبكاً، انت ستكونين بانتظاره على الباب بكامل اجنحتك وامواجك . امسكي بيديه، ابتسمي، قوديه الى السرير، هناك اتركيه يحرثك، واتركيك تعبين من ينابيعه العذراء .

- هذا جنون يا عزيزي هذا جنون .

ازاح يدها عن بطنه برفق معتذر، زحف باتجاه الشرفة مستنداً على خطوها الحافي، أمسك يدها، المدينة تحتهما، الغيوم أمامهما، مدت يدها قطفت له ثلاث غيمات، علقتهم على شفته السفلى وعنقه ورأسه، أرجوحة وقلادة وقبعة، أحنى رأسه على كتفها، بملء صحرائه اشتم رائحة شعرها البري الأسود، غمس شفتيه بعنقها .

- سأغادر الآن .

تركها وحيدة على السرير بانتظار الست طرقات الواهنات، الرجل الستيني ذو الثلاث غيمات المعلقات على جسده يهبط درج الفندق باتجاه شارع مهجور لا يمشي فيه أحد . ست طرقات واهنات ويدخل شاب عشريني تفتح الأربعينية الباب تبتسم، تمسك يده الخائفة والضريرة تقوده الى السرير، تقول له همساً .

- هو أستاذك وزوجي تحبه وأحبه، أليس كذلك، قال لي أنك أجمل وأذكى طلابه، وانك الوحيد الذي يمكن أن يشكل امتداده، ويقاسمه ذاكرته بأخطائها وظلالها، دعنا نبسط المسألة ونطرد الرعب . عندما تهرم غيمة ما تنكمش وتبتعد لكنها لا تموت، تبقى معلقة هناك على طرف العالم تتأمل بانتشاء صديقاتها الغيمات الصغيرات وهن يمطرن هذا ما علمني إياه أستاذك .

يبتسم العشريني، لوحدها تسقط ثيابها وثيابه، يشتبكان في حرب ذاكرتين ضروس، تنطلق طيور عينية ويديه نحو شعرها وعنقها وشفتيها، تفرد هي اجنحتها على مصراعيها وترشقه بموجها الساخن فيسرع هو الى عشها هلعاً .

يصحوان على صوت ارتطام غريب، يهرعان الى الشرفة متعرقين ولاهثين، غيمة هرمة مرمية على الأرض جثة بلا حراك بجانبها بقايا شتاء قديم .

0 التعليقات:

إرسال تعليق