من اين الطريق الى بيتى؟؟

في بهو الفندق الجديد، وحيداً كنت تجلس، بجانبك حقيبتا سفر، وجهك ينضح نحولاً وارهاقاً، مطر في الخارج يهمي، موظف استقبال يبتسم، امرأة هزيلة في الخمسين بثوب ريفي وتجاعيد كثيرة تنفض الغبار عن الستائر، تلقي بين الحين والآخر نظرات مترنحة، طويلة نحو الشارع الفاخر، الذي أسكرته الأضواء، وغسلته الأمطار، لماذا تشعر أنك تعرف هذه المرأة؟؟ موسيقى لعوب تتثنى سكرى، رجال ونساء وقورو السحنات ما إن تطأ أقدامهم اقرب نقطة من الباب الزجاجي الواسع اللامع حتى ينفرج مصراعاً الباب عن ترحاب خجول، صامت، يدخل الرجال والنساء، يقفون في البهو أمامي، أمامي تماماً، ينفضون عن معاطفهم المطر، يسوون خصلات شعورهم المتباعدة، يضبطون ايقاع ياقاتهم، يتراشقون برشاش الهمس السري، وكتل الضحكات الممتدة، يرتسم العالم أمامي غابة هائلة من المعاطف الطويلة الثقيلة ينبعث من ادغالهم المظلمة، المتداخلة عري قاسٍ، موحش، فحيح عناق، تلاطم قبلات، ولهاث أطراف، تنتفض داخلك سمكة الروح الذهبية انتفاضتها المتهالكة المعذبة، تشعر بزعانفها الباردة المشروخة تخبط جدران الروح خبطات الهرم الأخير المتهاوي والعطش المحتضر، تصعد المعاطف الثقيلة درجات الرواق الذي تتوزع على جانبيه غرف الفندق العشر، تصعد جذلى تجر تخمة الاجساد والخطوات، محمولة على أجنحة بيضاء باسمة من الغواية الفائرة والطرب السحرى االمتصل, لا تتوقف عن اطلاق التنهدات بعد كل نظرة، ها هي تنتبه اليه الان، ما بالها تحدق به هكذا؟؟ ما بال شفتيها تتهدلان وعينيها تضطربان؟ لماذا يزداد شعورك الان بأنك تعرف هذه المرأة؟؟ وان كلاما كثيراً مرتعشاً تبادلته معها واسراراً دقيقة اودعتها طيات ثوبها وكآبة سوداء قاسمتها جمرتها ذات صيف دامٍ ملتهب . كان الطقس حاراً الى درجة الفضيحة، شمس آب اللعينة بدت وكأنها مومس حكيمة ذات احساس عالٍ بالكبرياء تصفي حساباتها القذرة مع عشاق جسدها البهي، أولئك الذين ما ان تطلع صيفاً بقامتها المديدة القاتلة حتى يتركونها خائنين بعد ان يكونوا قد امتصوا دفأها، وانتبهوا طراوتها، ورضابها شتاءً وخريفاً، وأطراف ربيع، كان يراقب جده الهرم وهو يهوي بمعولة الصدئ، على قطعة ارض صغيرة، قاسية القلب، لا تسلم جسدها الاجعد بسهولة لأي طارق باب، كان يصغي بذهول للهاث جده المرتعب، ويراقب بقلق غامض تفصد العرق من وجهه، وهو يتوسل الطراوة والابتسام من تربة خشنة، لم يداعب أطرافها أحد منذ سنين طويلة، هل اتخذت موقفاً صلباً يحفظ ماء وجهها،واقفلت ابوابها لتخفي خيبتها، وشحوبها أمام الطرقات العجوز الواهنة بعد أن أهملتها معاول الشبان العذبة المثيرة؟؟ كانت نقطة العرق الواقفة متأهبة للانهيار على أرنبة انف جدي تذكرني برجل ما، تركته حبيبته، بعد طول عناق مشترك، يقف الآن على حافة هاوية، متأهباً للجنون، هو الذي طالما كتب لها: حبيبتي حتى في حالات الفراق الجهنمي القسري سوف اسعى الى الاحتفاظ بحياتي من اجل عقيدة فولاذية نؤمن بها معاً: الحب هو ان تظل غيومنا حبلى بالسنابل، وحدائقنا ريانة بالغناء، كان يشعر وهو جالس على الأرض متكئاً بظهره على جذع شجرة تين يتلهى بمراقبة حالة جده، وهي تزداد ارتباكاً،وتوتراً بأن جده يتألم لسقوط حبات العرق وهي تقف حيرى للحظات، هل كانت هذه الحبات المنتحرة تذكر جده بأشياء غالية تسقط منه يوماً بعد يوم ؟

توقف جده عن طرق أبواب الارض، القى بالمعول جانباً، جثا بركبتيه على التراب وفرح غريب، يتسلل الى ملامح وجهه من مكان مجهول، امام دهشتي وخوفي راح جدي يحفر الأرض بأظافره وأصوات غريبة تصدر عنه، أصوات لم اعهدها طيلة حياتي من قبل، كانت أشبه بصرخة بلهاء طفلية حادة قطعت الى قطع صغيرة بمدية شيطان ثم اطلقت من فاه رجل عاثر الروح على مراحل متباعدة، خلع جدك ملابسه قطعة قطعة، تمدد على بطنه وهو يولج غلمته في نقطة ما من الأرض، تأملها طويلاً وتحسسها بأصابعه، مؤخرة جدك الكابية العظيمة تشتد محمومة، رويداً رويداً بدأت امراة التراب تبزغ من أحشاء الارض، تحتضن جدك بيديها وفخذيها، تعض طيات رقبته المعروقة بأسنانها الصفراء، تبلل ظهره برذاذ غنجها وآهاتها، كنت في غاية السعادة وأنا ارى جدي يعيش لحظات نشوة في هزيع ايامه الأخير، انتابتني رغبة كبيرة بالهتاف والتصفيق، ورفع شارة النصر، وانا اراقب مؤخرته، وهي تلوح مودعة لآخر لحظات متعتها، لكن صيحة ألم مرعبة ندت عن جده، جعلته يقفز من مكانه ويختبئ خلف جذع شجرة التين، كان المنظر مخيفاً، وقف جده امامه يرتجف، ورعب حقيقي يتساقط من عينيه، كانت الدماء تسيل من منتصف جسده، وامرأة التراب تتمدد تحته تغطي وجهها بيدها، تتلقى قطرات الدم برعب مماثل .

كان الطقس حاراً الى درجة الفضيحة، اختك العانس تقف وحيدة على الشرفة تحلم برجل ما يأتي ذات ليلة باردة يفجر ينابيعها ويحرث تربتها، اخوك الكبير يشتم زوجته التي لم تنجح في اخراس اطفالها مفسدة عليه قيلولة الظهيرة، ابوك يجلس وحيدأ في غرقته يقيس كعادته بارتعاش درجة ارتفاع ضغط دمه، ازهار جدتك الحمراء التي زرعتها في خريف العام الماضي ورحلت في ايامه الأخيرة تقصفت وذبلت ونخرها اصفرار غريب .

امك تحتسي الشاي مع زوجة اخيك الصغير تتبادلان الهمس وتحيكان المؤامرات الصغيرة لزوجة اخيك الكبير .

كان الطقس حاراً الى درجة الفضيحة، شعرت ان عليّ فوراً ان اغادر الى أي مكان آخر، لا تراجع هذه المرة، لا خضوع، حقائبي مهيأة دائماً للرحيل وأنا مهيأ تماماً للبكاء او الشجار او الهرب . ابتسامة موظف الاستقبال تتوسع كلما دخل معطف جديد وتعود لحجمها المطلوب ثابتة مرهقة وصغيرة، لماذا يداهمك شعور آخر بأنك تعرف موظف الاستقبال ايضاً؟ رجل جديد يدخل، رجل اعرفه جيداً، لا مجال للتساؤل هنا، قامته اللحيمة القصيرة، عيناه الصغيرتان، آثار جرح قديم يتوسط ذقنه، ماذ يفعل هذا الرجل هنا؟ هل هو احد النزلاء؟ موظف الاستقبال يهرع اليه، ياخذ منه اغراضاً ويدخلها الى مكتب جانبي، تقترب منه امرأة الثوب الريفي، تقترب بوهن هل كانت تزحف على يديها وركبتيها وعينيها؟ كأني بها كانت خارجة من نوبة بكاء صموت، تقف امامه، لا ينظر اليها، تتحدث معه كلاماً لم أسمع من الا كلمتين لم أستطع الربط بينهما ( صعبة، الله )، يحول الرجل اللحيم الذي تعرفه جيداً وجهه نحوك، يفاجأ بك انت الذي ركع امامك ذات ليل قديم، محتشد بالطاقات والشهداء والجنود، يتوسل الرأفة والحياة، من غضب مدينة عنيدة لفظته يوماً ما من قلبها، وذاكرتها، واسكنته فسيح نفاياتها، تتغير ملامح الرجل الذي اعرفه جيداً، تسقط علبة السجائر من يده، تتناولها امرأة الثوب الريفي، تعيدها له وابتسامة صغيرة تتوسط وجهها، امرأة الثوب الريفي تنقل نظراتها الخائفة تلقي نظرة طويلة على الشارع الفاخر، تعود ببضع دمعات تترقرق في عينيها، يدخل الرجل اللحيم، المكتب مشيراً بعينيه لموظف الاستقبال الذي يهيأ لي أني اعرفه، يخرج تاركاً في المكتب قناع الابتسامة الثابتة، الرجل اللحيم يخرج متحسساً جرح ذقنه القديم، وابتسامة نصر ساخرة على شفتيه، يقترب مني موظف الاستقبال، مرتبكاً، مخلصاً لمهنته، يقترب :

- ابو الشباب، لا غرف لدينا الليلة، الفندق مزدحم بالنزلاء، انت تعرف حالة المدينة الجديدة، هناك فنادق جديدة حول الأطراف الأخرى من المدينة . وحيداً في الليل الماطر تمشي مع حقيبتي سفرك، لا تدري الى اين تذهب، رام الله مدينة بلا قلب بلا ذاكرة، اطرق باب صديقي الذي يسكن في الطابق الاخير من بناية ضخمة، لا يفتح صديقي الباب، تشتد رياح المدينة، تشتد فجأة، الشوارع خالية من المارة، عربات غريبة بزجاج اسود وسائقين غامضينن تسير ببطء، وحيداً تمشي مثقلاً بالحقائب،والبرد والتعب، سمكة الروح تعاود صيحاتها تتلوى في أحشائي كأفعى عمياء تتلمس طريقاً مترباً موصداً، تصدر انيناً قاتلاًن سمكة الروح جن جنونها هذه المرة، آلام الصدر من جديد تأتيه، صداع مهول يكاد يفتت أعصاب دماغه، وهن غامض يكتسح سيقانه، يجمده في مكانه على الرصيف تسقط الحقائب من يده، تميد الأرض، تغيم الرؤية، تتجمع الرياح فوق رأسه وتدفعه بكامل جبروتها وفظاظتها، اسقط على الأرض، ارى حقيبتي سفري تتدحرجان على الأرض، تتسرب منهما ثيابي وكتبي، تتوزع قطع ملابسي الداخلية والخارجية على الأرصفة وتتعلق بأغصان الشجر مثل رايات منكسرة منكسة، تتناثر صفحات " الهوامل والشوامل "، تتطاير الأسئلة والأجوبة على أسطح البنايات العالية، وواجهات الفنادق الزجاجية المضيئة .

يلمحها من بعيد، شبحين هزيلين، شبه عاريين بلحيتين شعثاوين ووجهين ممصوصين اصفرين، كانا يهبطان باتجاه من رأس الشارع المنحدر الطويل الذي يصل مركز المدينة بأطرافها، يمسكان بسواعد بعضهما البعض، حافيي القدمين، حاسري الرأس، باتجاهه يهبطان تتقدمهما انفاسهما المرتعبة وانينهما المرتبك المستوحش، قال الاول : انا ابو حيان على بن محمد بن العباس التوحيدي فمن انت يا هذا؟؟، قال الثاني : انا احمد بن محمد بن يعقوب الملقب " بمسكويه " فمن انت يا هذا؟؟

- " انا الانسان الذي أُشكل عليه الانسان "، في جعبتي هوامل تبحث عن شوامل، في داخلي سمكة روح ذهبية تتكسر ظمأً وتتهاوى جنوناً .

رام الله مدينة بلا قلب بلا ذاكرة، تبول في العراء دون حياء، عشاق جدد يتجولون في حدائقها، وحيداً يغذِ الخطو المرتبك باتجاه المخيم، بعيد هو المخيم، لكن لا حل أمامي، ولكن ماذا لو اوقفني الجندي الواقف على بوابة المخيم قائلاً لي: عد الى المدينة فالمخيم ما زال تحت الحصار، وحيداً ما زال يمشي باتجاه أي مكان يأوي اليه كأي قط مقرور يبحث عن دفء عظامه، كان رجل ما يمشي بجوارك يتعثر هو الآخر في خطوه، كان ينظر خلفه بخوف كأن احداً ما يطارده، يهذي بكلام عن حريق كبير اشعله في مكان ما من قلبه وهرب، كان ابو حيان التوحيدي يجهش بالبكاء وهو يتحدث لي عن صديقه مسكويه الذي استأذن منه للبحث عن مكان ما آمن ليبول فيه لكنه ذهب ولم يعد، رام الله مدينة بلا قلب بلا ذاكرة، وحيداً مع أبي حيان نتخبط معاً في قطرات دمعنا، برد اطرافنا وظلمة طريقنا، كان المطر يهطل فوقكما بغزارة والريح الزاعقة تحوم حولكما مرتابة، كنت تريد ان تقول شيئاً ما يؤرقك لكنك نسيته فجأة، وشعرت لذلك بحزن شديد، عند الحاجز العسكري الذي يفصل بين المدينة والمخيم، سقط ابو حيان على الأرض، سقط وهو يتشبث بملابسين منهمكاً كان يلفظ انفاسه الاخيرة - انينه الاخير، كان يحاول ان يقول شيئاً لكنه لم يستطع فأغمض روحه الاغماضة الأخيرة، وجدتني أهرع نحو الضابط العربي، متسائلاً، وأنا أسقط على الارض، طافحاً بالاسئلة، والاعياء، والجنون :

- من أنا يا سيدي؟ ومن أين الطريق الى بيتي ؟؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق