مقهى رام الله .. الحطام جمالاً

قبله كنّا شيئاً وبعده صرنا شيئاً آخر؛ لا يمضي يومنا من دونه، لا يصير يومه من دوننا، لو تفاجأنا به مغلقاً ــ كما يحدث، أحياناً، أيام الإضرابات ــ يتحلّل نهارنا ويغلظ يومنا، كأنه ضابط إيقاعنا، كأننا مستقرّه، هل هو مكافأة لنا؟ ولكن على ماذا؟ نحبه، هو حميم كحبيبة، صريح كجنون ومفتوح مثل اعتراف.
أتذكر البداية الشقية: كنّا نتسكّع حول مطعم الناصرة، ثلة أدباء شبان تائهين في دوّامات الحصار والتقاليد والفقر، نفتقد القدرة على الحلـم، مغتربين، مقطوعين من الجذور، مشردين، ينامون على عتبات نصوصهم، يتفيَّؤون منحنى لونين في لوحاتهم، يشربون حليب الكلـمات في رواية يكتبونها، يتدفؤون فوق صورة شعرية في قصيدتهم الأخيرة. لا أتذكر ماذا كنّا نفعل أو ماذا كنّا ننتظر، الانتفاضة كانت على أشدّها، الشهداء والجرحى والـمعتقلون هم سادة الصورة وفرسانها، نصوصنا ولوحاتنا ورواياتنا كانت تحاول أن تقنع الناس أن أوانها لـم يحن بعد، الناس ينظرون إلينا باستهتار وشفقة: مثقفون، مثقفون ههههه، وكان السؤال ــ الـمحرقة: ماذا نستطيع أن نفعل لنشارك شعبنا الغضب والحب والتحدي؟ وهل تستطيع الكلـمات والصور والألوان أن ترفع جريحاً إلى عربة إسعاف؟ خبأنا علب ألواننا ومشاريع نصوصنا ومسرحياتنا وأفلامنا في أدراج قلوبنا، وانخرطنا في الثرثرات والعزلات والأحلام، رأينا مازن في الطريق، كان ما زال طويلاً كعادته، قال لنا ضاحكاً: يقال إن ثمة مقهى هنا على الزاوية، القهوة فيه بشيكلين"، بقفزة واحدة كنا هناك، فوجئنا، بالـمكان الذي يشبه ممراً أرضياً بين جرفين، يحضننا، ويخطفنا لاحقاً من تعقيدات وانهيارات الـمرحلة، إلى جنّة ممر ضيق كمكان، واسع كإله إغريقي، بسرعة عجيبة امتلأ الـمقهى بالناس، من كل الفئات: مثقفون، أطباء، مهندسون، عمال، مسنون، طلاب جامعيون وثانويون، نقابيون، سياسيون، فنانون تشكيليون، صحافيون، سائقون، مثقفون من فلسطين 48 أو هضبة الجولان الـمحتلة، شعراء، روائيون، قصاصون، موسيقيون، مخرجون، مسرحيون، وممثلون مسرحيون، موظفو وزارات، أمراء الـ(ان.جي.أوز)، ضباط شرطة، رجال أمن، أكاديميون، تجار، رجال أعمال، فلاحون.
لا تنعدم الـمواقف الـمزعجة في الـمقهى، فمرة من الـمرات سأل صديق لي كاتباً شاباً اختفى فجاة عن الـمقهى وعاد: أين أنت؟ فأجاب، منتعلاً نظارة شمسية على وجهه في عزّ البرد: كنت معتكفاً. ضحكت مع صديقي على جملة كبيرة مبكّرة يقترفها هذا الفرخ الـمتباهي.
للفنانين التشكيليين طاولتهم، وللشعراء والقصاصين، أيضاً، طاولة، كذلك للنقابيين والـمسرحيين والأكاديميين، والأدباء الشبان، وقد تختلط التشكيلات بشكل مدهش، فنرى أكاديمياً يجالس عاملاً، أو شاعراً يضاحك نقابياً، أو صحافياً يمازح طبيباً وهكذا. هل نجد أجمل من مناظر كهذه؟ الحدود تتكسّر بين الفئات، الكل يصاحب الكل في دقائق، الكل يرى في الكل صورة حطامه، فالحطام هو عنوان هذه الـمرحلة وبابها، كل شيء محطم أو ذاهب إلى حطام: الأحلام، الأماكن، اللغة، الأصدقاء، الذكريات، هل هو الإحساس بالخواء والضياع والهزيمة ما يدفعنا جميعا إلى الالتحام ببعضنا البعض، ضد قوى عدوانية كبرى تستهدف عقلنا ونصنا وإنسانيتنا،؟ ما لغز هذا التقارب العجيب وانهيار الحواجز،؟ كيف تخلى الـمثقفون عن نظرتهم العاجية واندسوا في نشيج الـمقهى أو نسيجه؟ إنه الحطام، خطابه، فضته، جماله الـمحروق، ما يساوي بين الأشياء كلها، ما يجعلنا نرى في الشمس نفقاً، وفي الاغنيات موتاً وفي الحب خدعةً.
وللباحثين عن أماكن النقابات والاتحادات والرابطات الثقافية وغير الثقافية، أقول لهم حتى أوفر عليهم الوقت وأجرة سيارة الأجرة، إن كل ما تبحثون عنه هو هنا في مقهى رام الله: رابطة الـمسرحيين، والتشكيليين، والـموسيقيين، واتحاد الكتاب، ونقابة العمال ورابطة الصحافيين.
أهمية وخطورة هذا الـمقهى لا تتوقف حدّ الإشعاع الثقافي والإبداعي، بل تتعدى ذلك إلى شلّ العملية التعليمية والوظيفية في البلد؛ عبر قرارات الإضراب التي يتم اتخاذها داخل الـمقهى.
لا نحتاج حقاً نحن الأدباء إلى اتحاد كتاب، فهنا نلتقي بعضنا، نناقش نصوصنا، ونتبادل الكتب، والأفكار، قامت جماعة الفينيق الأدبية بتقبل العزاء في الطابق العلوي من الـمقهى في أصدقائنا الراحلين من الشعراء، كان آخرهم: الشاعرة أطوار بهجت والشاعر محمد القيسى والشهيد الشاعر نصر أبو شاور، عقدنا عديداً من الندوات والأمسيات الشعرية، لـمناقشة دواوين الشعراء: وليد الشيخ وعناية جابر ونجوان درويش وماجد أبو غوش. وتتم دائماً مناقشة الأفلام و الـمسرحيات التي تعرض في القصبة وعشتار والحكواتي، مجلة رؤى الـمقدسية تتم مناقشة نصوصها و موادها هنا من يريد أن يعرف أوقات عرض الأفلام والفعاليات الثقافية في الـمراكز والـمؤسسات والـمعارض التشكيلية فهنا في مقهى رام الله يجدها عبر البوسترات الـملصقة على واجهة الـمقهى الزجاجية، الفنانون التشيكليون ينسقون فعاليات معارضهم في الـمقهى، ويتبادلون اللوحات ويهدونها إلى بعضهم البعض، مؤخرا تخلص الفنان منذر جوابرة من لوحاته الستين، كفعل تجاوز رائع لذاته وأدواته، بحثاً عن بداية جديدة لـمشروعه الجميل. الفنان يعقوب إسماعيل إقترح إحضار صور للأدباء الفلسطينيين الراحلين وغير الراحلين لوضعها على جدران الـمقهى احتفاءً بهم وبإنتاجاتهم، أما حسن البطل أحد ملامح الـمقهى الأساسية فهو يُشاهد دائماً يقرأ، فالـمقهى يصلح تماماً كمكتبة، أفكر غداً في الاقتراح على "أبو إلياس" صاحب الـمقهى الـمثقف أن يركّب رفوفاً خشبية على الجدران، والكتب سنحصل عليها كتبرعات من هنا وهناك، الفنان جواد إبراهيم أول الداخلين إلى الـمقهى (الثامنة صباحاً) يشرب القهوة ويقرأ الجرائد، يفكر في مشاريع لوحات جديدة، أما آخر الخارجين فهو الشاعر مهيب البرغوثي (الرابعة صباحاً).
ما إن نخرج من الـمقهى، حتى يصبح الجو بارداً، فمقهى رام الله هو ربيعنا الدائم، يذهب كل منا إلى أولاده وزوجته وجيرانه وطعامه الساخن وليله الطويل، وكلنا أمنيات ورغبات مكبوتة بأن نحمل الـمقهى معنا إلى البيت بكل كراسيه وزنجبيله وقهوته ودخانه، وصخبه، ونقاشات مرتاديه الـمتداخلة.
النساء الـمهتمات بالشأن الثقافي، يشاهدن يمررن أمام الـمقهى، ينظرن باهتمام، يتفحصن الوجوه، باحثات عمّن يعرفن، منهن من يدخل، يجلسن وحدهن كما حدث قبل عدة أيام، أو يتراجعن خجلات، فالعيون الـمستفسرة والعطشة الكثيرة تصوب ناحيتهن، تحمل معنيين ملتبسين: الترحيب أو الاستغراب. قبل أيام، اقتحمت الـمقهى فتاتان غريبتان، إحداهما، صاحبة وجه طفولي وعميق و شعر قصير، كانت تتفرس الوجوه، بجرأة رائعة، كأنها كانت تقول لنا: "نحن أيضاً نحب أن ندخن النارجيلة، سنجلس وحدنا، إذ ليس شرطاً أن تجلسوا معنا حتى نحصل على شرعية الوجود هنا، ولا داعي للقلق، فبإمكاننا أن نتحمل خشونة الـمكان".
جلستا بالزاوية، كانتا جميلتين بشكل خارق، فقد أقنعتا الـمرتادين والنادلين بثقتهما بعادية وأهمية حضورهما "الـمرأة الخجولة والـمرتبكة وحدها من تتواصل أمطار العيون في التساقط فوقها". العيون في الـمقهى، تعبت من النظر أو يئست، فتحولت الفتاتان في نظر الـمقهى إلى شخصين عاديين يجلسان بهدوء يدخنان ويتحدثان. مقهى رام الله: متعدد مرن متسامح منفتح على الـمغامرات والغرباء والجديد، أجمل حدث مستمر فينا، في زمن الحطام

0 التعليقات:

إرسال تعليق