زياد خداش :كاتب لاجيء يبحث عن هويته الشخصية..

زياد خداش كاتب لاجيء يبحث عن هويته الشخصية، ويطارد خلف أحلامه من خلال اللغة، والكتابة
في حوار خاص ب معن سمارة
● ● ●


من هو زياد خداش؟
أنت تدفعني إلى الجنون بهذا السؤال… هل أستطيع أن أقول أنني شخص مؤقت لم يقرر وجوده بعد؟ وأن قوى خفية تستخدمي للتجريب تعديلا وتبديلا إلحاقا وحذفاً. يأتيني إحساس شبه يومي وثقيل بأنني كائن بشري تحت التجربة وأن قرار إلحاقي النهائي بهذا العالم قد تأخر طويلا لأسباب لا أعرفها .

في داخلي تتعايش رغبتان هائلتان مفترستان الأولى: الرغبة بتدمير العالم والأخرى الرغبة بعناقه روحي ساحة حرب طاحنة بين هاتين الرغبتين، لذلك أنا لا أستغرب الذهول المرير في عيون أصدقائي حين تحتدم المعركة داخلي فيما أنا جالس بينهم في مكان عام احتسي القهوة.

هذا هو زياد خداش، الذي هو ليس أنا بل هو أشخاص غرباء آخرون ينتحلون حواسي وتفكيري، ويتناوبون على النطق باسمي، والغضب باسمي، والحب باسمي.

بالكتابة أنا أرشو الوقت والأمكنة لأغادر إلى هناك حيث النهر والشجرة والعصفورة. حيث أنا.



زياد خداش يعيش في مخيم للاجئين، مخيم الجلزون… كيف اثر ذلك على أسلوبك في الكتابة… هل ساهم وجودك في المخيم في بناء هيكلية كتابية خاصة؟
أسلوبي في الكتابة وهيكلية كتابي هما من إنتاج غير مباشر لحياتي في المخيم، ومعايشتي لأحاسيس المكان والناس، ولنبض الذكريات عن المدن والقرى البعيدة المسروقة، هذا الكلام قد يستغربه الكثيرون ممن يتابعون تجربتي القصصية… والذين اتهموا كتاباتي بالانفصالية وأرستقراطية اللغة والأمكنة والأحداث والرغبات، إن إحساسي الدائم والمتوتر بأنني لاجئ مقتلع من أرضه البعيدة ويعيش في مكان طارئ وغريب كثف عندي الرغبة في الاختلاف والتفوق، فكانت الكتابة ردي الحاسم والخبيث والجميل على ضيق غرفتي في المخيم وعلى دلف سقفي. في قصصي لا تجد أزقة ولا روائح عادمة، أو بطاقات إعاشة.. هناك شوارع عريضة، ومقاهٍ ونساء كريستاليات ضجرات غير عابئات يبحثن عن لذائذ موقتة وسريعة، ورجال حساسون ومثقفون يهيمون في خيال محموم وأفكار سماوية، وأحلام متأججة وانشقاقية.

إن ذلك لا يعني انفصالا عن المخيم ، بل هو اتصال عبر الانفصال… إن الروح التي تكتب هذه القصص هي روح لاجئة محبطة مطاردة مشوهة.

المخيم أذن دفعك للشعور بالنقمة على العالم، والرغبة في التمرد من خلال اللغة والكتابة والخيال..
ألا ترى في ذلك انسلاخا عن الواقع الذي قد يكون هروب من تجربة غنية إنسانيا بما تحمله من متضادات؟؟
إني فعلا أرى ذلك هروبا من تجربة واقعية هي بالفعل غنية إنسانيا بما تحمله من فرح وهم وحب وضياع وغربة وثورة. هذا الهروب هو خياري الفني الذي اخترته. خيار له تقنياته وجمالياته ومضامينه الإنسانية الغنية هي الأخرى بما تحمله من وعي كارثي بالمصير الإنساني المفجع والمحتوم وحس مأساوي بعبثية الحياة.

أنا لم أستطع أن أقارب هموم المخيم الأرضية فنيا، واعتبرت هذا العجز محفزا لانطلاقة كبرى نحو آفاق أوسع كما قلت سابقا… انني ادين للمخيم ولحياتي فيه بهذا التحليق المبالغ فيه، والهروب الملتزم تجاه قضايا كبرى. قد تعتبرها ترفا أو كماليات، لكني اعتبرها أرضا لعذابي وشقائي.

لنبدأ في الجديد أولا… ما يقارب عام من الانتفاضة الأقصى… أين يقف المثقف الفلسطيني بشكل عام، والكاتب بشكل خاص من ذلك… ؟؟
لا دور للمثقفين في المعارك والانتفاضات الشعبية، لهم أدوار عادية كأناس عاديين يتعرضون للحصار والقتل ، دور المثقف ( شاعر أو مسرحيا أو تشكيليا أو قاصا أو روائيا) يأتي بعد الانتفاضة أو المعركة.

أما ما قد يرافق الانتفاضات والحروب من لوحات تشكيلية أو أغان حماسية أو قصائد مباشرة فهذا يدخل في باب التحريض والتعبئة ولا علاقة للفن بذلك.

المثقفون لا يزيدون ولا ينقصون في إسهامات وانجازت الانتفاضة بسبب كونهم مثقفين، بل هم بحكم مواطنتهم وفلسطينيتهم العادية يتقاسمون شرف الصمود وخيلاء المقاومة عبر المشي في الجنازة أو الهتاف مع الهاتفين أو أي عمل نضالي آخر.

يبدو من كلامك بأنك غير راض عن دور المثقف الفلسطيني في الانتفاضة… بطريقة ما أنت تتهمه بالتقاعس، وممارسة حياة الناس العاديين.. أيجب عليه القيام بدور آخر؟…
لا.. أبدا . أنا لا اتهمه بالتقاعس، هو بالفعل في المعركة أو الانتفاضة الشعبية شخص عادي جدا، وهو غير قادر على القيام بأكثر مما يقوم به الشخص العادي. لطالما سألت نفسي هذا السؤال الصعب: يا الهي… ماذا بإمكاني أن افعل غير ما يفعله كل الناس: ( التظاهر والغضب، والخوف، والتحدي، والشعور باليأس أحيانا). كمثقف يأتي دوره لاحقا كما قلت لك سابقا. ففي زحمة الموت الكثير والجميل قد يتخلى الشاعر أو القاص عن جمالياته وخياراته الفنية.

ثلاثة وخمسون عاما من اللجوء… ثلاثة وخمسون عاما من الكتابة:
هل استطاع الكاتب الفلسطيني أن يوثق التجربة؟
ثلاثة وخمسون عاما من الكتابة لم تستطع لأسفي الشديد أن توثق تجربة اللجوء وتكشف أسرارها وجذورها وأحداثها بالدقة المطلوبة كما فعل اليهود بنكبتهم الكبرى على يد النازيين .

أنني لا أمل من الاستغراب أمام حقيقة مؤلمة وهي غياب (مركز أبحاث اللجوء) حقيقي وفاعل علمي ، أشباه المراكز عندنا، هي أقرب إلى الوهم والاستعراض وهي موجودة لأغراض ديكورية جامعاتنا استغرب خلوها من هكذا مراكز ، نحن لا نعرف بالضبط متى وكيف ولماذا خرج أهلنا من القرى والمدن، حكايات أجدادنا وجداتنا الشفوية لا تكفي… بعد خمسين عاما سيختفي الأجداد ولن نجد شخصاً يحكي لنا ما حدث، فكيف سنوثق هجرتنا وعذاباتنا وأحاسيسنا وأحلامنا المحروقة القديمة؟ على الصعيد الابداعي كان هناك روايات ودواوين شعر هنا وهناك لكنها لم تقارب الهجرة واللجوء (أسرار وجذورا) فنياً بالمستوى الذي يتلاءم مع فداحة وعمق وقسوة التجربة.

أنت تطرح الآن قضية إيجاد مركز لأبحاث اللجوء… دعنا نتساءل معا: كيف نستطيع أن نوثق التجربة بشكل أعمق، وبمستوى أبدعي مكثف…

الكتابة الفنية عن التجربة شيء، والكتابة التوثيقية شيء آخر.

أنا أدعو إلى تأسيس ( مركز لأبحاث اللجوء) لتوثيق أحداث التشريد وآمال وذكريات وأحلام اللاجئين. أما الكتابة الفنية عن اللجوء فأنا لست مؤهلا لها بسبب خياراتي واقتراحاتي المختلفة. هذا أبدا ليس ترفعا بل قد يكون عجزا عن القيام بذلك لنقص ( في الأحاسيس الوطنية التقليدية ) أو في الأدوات الفنية. أما عن امتلاء عالمي بالجنس والشهوات فهذا ليس سبة، أو اعتداء على أحد، فمن حقي أن تكون لي رؤياي ولغتي وهواجسي المجنونة ما دمت انجح في مقاربة عالمي هذا مقاربة فنية لا بالانجراف البيولوجي البحت والسطحي.

المرأة الفلسطينية الكاتبة… هل كانت تكتب بنفس التوجه الذكوري… أو انه كان لها هواجسها الكتابية الأخرى؟
لم يكن للمرأة الفلسطينية الكاتبة في كتاباتها هواجسها وأحلامها ورؤاها وأحاسيسها الحقيقية في يوم من الأيام . الكاتب الرجل نفسه بالكاد يعبر عن هواجسه الحقيقية فكيف بالمرأة الكاتبة قبل أسابيع قرأت قصة جميلة للكاتبة المتميزة (دالية طه) القصة مكتوبة على لسان راو ذكر، لماذا؟ هناك منجم أفكار وهواجس وارتعاشات وحالات وأحاسيس في عالم المرأة الأنوثي. الأنثى مشروع فني. الثقافة الفلسطينية لم تنجح في خلق كاتبات لسبب بسيط هو أنه لا وجود للثقافة الفلسطينية التقدمية المؤهلة لانتاج إبداع أنوثي حر وطازج. إذ كيف تتقدم وتزدهر الكاتبة الأنوثية وهي معتقلة في سجن ثقافة تعتمد العشيرة والذكورة المستبدة والحزب والطبقة الاجتماعية والموقع الإداري ، مرجعيات ثابتة لها.

أنا بانتظار المرأة الفلسطينية التي تكتب نفسها ، احتجاجاتها، أقتراحاتها، فرحها وفخرها بجسدها ، تحللها من السقوف وتحطيمها للجدران ، طالما تمنيت شخصياً أن أكون أنثى لأفجر أسراري وخنقي وسخريتي وثراء تناقضاتي وامتداد أحاسيسي ، وصمود المرأة الفلسطينية تحت الاحتلالين، السياسي والاجتماعي يعطيها أصداء هائلة للتعبير والتحليق، ما الفن أصلا أن لم يكن وليد إحساسنا بكوننا ضحايا قوى ما؟

يراعات، كصفحة وملحق سبابي في جريدة الأيام، وبإشراف مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي تهتم بالكتابات الشبابية… هل استطاعت أن ترفد الثقافة الفلسطينية بأشياء جديدة؟؟
يراعات تجربة مدهشة في الحياة الإبداعية الفلسطينية تثير الإعجاب حقا بما تكتشفه من طاقات ومواهب كتابية هناك أسماء للكاتبات وكتاب شبان قرأت لهم (دالية طه، محمد جبر) استغربت عندهم هذا النضج المبكر والجنون الصغير وضجيج الطيران العنيد بأجنحة قصيرة، وهذه الرغبات المستعرة في مقاومة شروط السائد ثقافياً واجتماعياً. يحضرني هنا اقتراح بسيط، وهو تخصيص صفحة كل أسبوعين لنقد ما كتب في الأسابيع السابقة من قبل نقاد ( غير أكاديمين). إن ذلك يعطي هؤلاء المشاغبين الرائعين إحساسا مضاعفا بقيمة ما يبدعونه. فيندفعون إلى آفاق أوسع وأشد زرقة . بعزائم متجددة وثقة مرحة . تجربة يراعات ليست رافدا من روافد الثقافة الفلسطينية، أنها ثقافة جادة وأصيلة بحد ذاتها أو هي خارطة مستقلة لممارسة الحلم والاختلاف لكسر الشروط، وابتكار الأفكار الحرة، وعلى المؤسسات أن تشجعها وعلى وزارة التربية بالتحديد أن تحتضن وتستفيد وتعمم هذه التجربة الرائدة في المدارس.

زياد خداش يعمل مع مجموعات من الأطفال والشباب من خلال المدرسة التي يدرس فيها في مجال الكتابة الإبداعية… كيف ترى تأثير هذه الورشات عليهم… هل هي خروج عن نمط الإنشاء في المدارس؟
أنا أدرس مادة اللغة العربية للصف السادس في مدرسة المغتربين في مدينة البيرة منذ بداية هذا العام ، من تجربتي التعليمية الطويلة نسبياً ودون مبالغة أقول أنني لم أحس بالفخر لكوني مدرساً كما أحس هذا العام. إنني أقف أمام طلاب غربيين واستثنائيين، ويرشقوني بالأسئلة الكبيرة ويخطئون أسلوبي ومواقفي ولغتي لقد أجبروني أن أتعامل معهم تعاملا خاصا، وجدت نفسي اقتلع من أذهانهم كلمة ( تعبير أو إنشاء ) وزرعت محلها كلمتي: ( كتابة إبداعية) فوجئوا بهاتين الكلمتين الغريبتين، وهذا الإيقاع الجديد. وعندما قلت لهم أن هناك عالما آخر أغنى وأعمق واجمل هو ( العالم الداخلي للإنسان) صعقوا تلك الصعقة المنتجة، فأخرجوا من كتاباتهم الإبداعية الدبابات والحجارة والشهداء، صار هناك ليل طويل وأشباح، نجوم تستغيث وشمس تعتدي على القمر، بيوت تختفي، مدن تطير،ـ غيوم تغفر وتغضب وتمطر عصيراً ، ورد يصلي في الحدائق… إنها تجربة حلوة أعيشها مع طلاب ( خارقين) أسلموني إلى اختلاف وغربة حلوتي المذاق.

اذن، هناك رغبة لدى هؤلاء في التمرد على المنهاج المقرر والدخول في عالمهم الخاص، ورؤاهم في الكتابة؟
ليس هناك ( عالم خاص ) في المدارس الفلسطينية، والعربية عموما. هناك جماعية مقيتة ومدمرة. جماعية تقتل الروح وتجمد الإبداع. الحضارة تقوم على الفرد، وعلى الاختلاف، في المدارس لا أحد يسمح باختلاف أو فردية.

ممارسة الفردية في المدارس وقاحة واعتداء على روح التعاون والتماسك الاجتماع. طلبت مرة من الطلاب أن يكتبوا عن المدرسة-الحلم فأنفجروا حنقا وامتعاضا ورفضا لكل ما يمت إلى المدرسة بصلة من مقاعد ومناهج وساحات وطريقة تعامل المدرسين.

وطالبوا بمدارس جديدة فيها احترام لخصوصيات الطلاب وميولهم وفيها نوافذ مفتوحة على فراغ. ( المدرسة التي ادرس فيها نوافذها محاصرة بقبضان حديدية). أحدهم حلم بمدرسة تدرس فقط الكتابة الإبداعية.


0 التعليقات:

إرسال تعليق