الكتابة لعبة

قبل فترة صدر كتابي السادس، في اللحظة التي أمسكته فيها، فقدت الحماس له، أحسست بأنه يمثل ماضياً بعيداً غريباً، لا يشرفني كثيراً أن أعتز به، أحياناً، أحس بأن ثمة أحداً ما كتبه ونسبه إليّ، زوراً، فهو لا يعكس الحلـم الذي حلـمت أن أكتبه، علـماً أني أمضيت الليالي الطويلة أنتظره كما ينتظر العاشق حبيبته التي سافرت.
أعجيب أمري؟ أم أن الحالة طبيعية وتمثل ظاهرة صحية تنتاب الكتاب في كل مكان؟ إذ إن الكتب تظل حلـم الكاتب وهدفه، وما إن تكتمل أمام عينيه، حتى يعافها ويشيح بوجهه عنها، فهو كائن خاص غريب، يظل دائماً يحلـم بالجديد، الجديد الـمراوغ الذي يتحوّل قديماً حين يكتمل، وهكذا تستمر حياة الأدباء ومشاعرهم مترنحةً بين الحلـم واليأس، بين الركض الـمجنون الـمتوتر والصادق خلف الرؤى والإشراقات والتوقف الفجائي على شاطئ نهر كبير اسمه الـمستحيل، لكن أجمل وأروع ما في الـمشهد هو استحالة حضور اليأس في قلب الكاتب، اليأس كلـمة غير معترف بها.
مخدراً بوهج قادم يواصل الكاتب لهاثه الفتي نحو نهر حلـم أن يخوض غماره، نهايات اللهاث هي الفراغ نفسه، لا نهر ولا سباحة بل صحراء وطيور ميتة وأحصنة مفقوءة العيون، مصلوبة الأطراف، ومحطات قطار خربة، يمتص الكاتب صدمة الفراغ، ويسمع شخصاً داخله يقول له: لا ضير ولا أذى ولا فشل، بالعكس تماماً، ففي الطريق إلى النهر / الحلـم أنت سبحت أيها الكاتب آلاف الـمرات وركبت آلاف الـمحطات والأحصنة، إن متعتك وعمرك يكمنان في التجريب والقفز فوق الأسوار أو اللهاث خلف الوميض الذي يتراءى لك جاهزاً يقدم جسده الشهي دون مقابل، أنت مثل الطفل، تتوق دائماً إلى الألعاب الـمعروضة في الواجهات، وتلحّ على أمك أن تشتريها لك، تلبي الأم الطلب، تحملها بين يديك، تقلّبها، تشبعها تحريكاً وعضاً وشماً وتفكيكاً، وفجأةً تملها، ولسان حالك يقول: لا لا ليست هذه اللعبة التي أحلـم بها، وتفكك ما تفكك منها أمام أعين والديك الـمتفهمة السعيدة. هكذا هي شرارات قصائدنا وقصصنا ورواياتنا، إنها ألعاب تسحرنا، تغوينا، نهرع إليها، نصلي لها، نحضنها، نستدرجها، نحصل عليها، نعيد بناءها وتفكيكها ونبشها، وبعد أن نفهمها ونعيشها، نملها، فنبتعد عنها إلى ألعاب أخرى في واجهة أخرى.
هناك متحف في حياة كل كاتب أسميه متحف الألعاب القديمة، متحف مليء بالقطع الـمغبرة الـمبعثرة، والرفوف الخرس، لا يطيق الكاتب زيارة هذا الـمتحف؛ لأنه يذكره بسذاجته، وسخافة رؤيته للعالـم والأشياء، لكنه لا يستطيع التخلص منه، إنه يشبه أخطاءنا الـمرافقة لذاكرتنا لكنها الأخطاء التي لولاها ما كان )الصحيح) القادم الذي سيكون خطأً هو الآخر، وحين تقول لهذا الكاتب: إن هذا السخف في الرؤية قديم وطبيعي بحكم البدايات غير الناضجة لكل كاتب؛ يحرك يده ممتعضاً وغير قادر على الإجابة. لا وصول في حياة الأدباء لهدف ما أو فكرة أو كتاب ما، قدر النصوص الرائع أن تظل أسئلةً وشهقات وشطحات وذكريات وأطيافاً وظلالاً وأحلاماً، الكتاب الأخير يظل يركض أمام الكاتب إلى ما لا نهاية، وحين يعتقد الكاتب بأنه أنهى مشروعه الإبداعي، وكتب نصه الأخير، فاعرفوا فوراً أنه مات إبداعياً، إذ لا نهاية أو ميناء أو تقاعداً في هذه الرحلة الوجودية الفظيعة الـممتعة التي اسمها كتابة، ما دام صاحبها يتنفس.
بدأت أحلـم بكتاب جديد، لعبة أخرى لـمحتها تلـمع في واجهة روحي، أعيش هذه الأيام شغفاً كبيراً للحصول على لعبتي الجديدة، أراني أقترب منها وأبتعد عاشقاً وخائفاً وسعيداً وطفلاً ومندهشاً، متجولاً أشعث الرأس والقلب في الشارع، يرمقني الناس بعيون مليئة بالاستغراب والضحك الـمكبوت والغضب والتشكك، أعرف أني سأحمل اللعبة بين يدي، عائداً إلى بيتي بعد طول غياب، وأني سوف أذوب فيها حتى النور حتى التلاشي، أعرف، أيضاً، أن مصيرها الاصطفاف الحزين الصامت أمام أخواتها الألعاب الأخرى على رف مغبر في مخزن الروح الصبور، سأعود إلى شارع آخر في مدينة أخرى أتصيّد لعبة أخرى، تفكيكاً، آخر فانتظروني هناك أنا رجل اللاوصول الـمضطرب. هذا قدري، هذه حياتي، ما أجملها وأعقدها من حياة.

0 التعليقات:

إرسال تعليق