غرف للانتظار

في غرفة انتظار طبيب العيون ، بجواري اطفال ونساء ورجال يتنظرون مثلي دورهم ، لا افهم ما يحدث لعيوني ، صحوت فجأة على اضطراب غريب في رؤيتي للاشياء ، فمثلا حين قدمت امي لي فنجان القهوة الصباحي ، ارتعبت ، ركضت بعيدا عنها ، صائحا : قنبلة يدوية ، هل جننت يا امي ؟؟ القي بها بعيدا بعيدا ، استغربت امي ، بدا على وجهها انها موشكة على الضحك ، في لحظة ما عاد لي توازني ، رأيت فنجان القهوة يكاد يندلق على الارض من فرط دهشة يد امي ، في الصيف الماضي ذهبت الى البحر الميت متسللا ، وخارجا عن قانون زيارة بحار بلادي، هناك على الشاطيء كان الموج يندفع نحوي بشراسة غريبة ، لم يكن ما رأيته من تأثير تشوش ذهني ما او خلل مؤقت في ذاكرة او تداخل عابر في صور ، كان واقعا ، شديد الوجود هكذا اقنعت نفسي ، بنات عاريات صغيرات ، بشعر اسود طويل و متوحش ، نهايته مختبئة في البحر ، على طول الشاطيء البنات واقفات مبتسمات ، اختفى الموج ، صمت البحر ، الريح تجمدت ، كانت لحظات سكون ، مخيفة ، نظرت ورائي ، كان الناس يمرحون ، ويصيحون ، كنت ارى افواههم تتحرك ولا اسمع اصواتهم ، لا اسمع سوى صوت انفاسي ، واضح انهم لايرون ما ارى ، تراجعت الى الوراء مذعورا ،الناس ظنوني مخبولا، سمعتهم يضحكون ، اصدقائي الذين كانوا معي ، ربتوا على كتفي ، مسحوا العرق عن وجهي ، سمعتهم يهمسون لبعضهم : الارهاق ، الارهاق ، في البيت ، امضيت الليل كله احاول ان اتذكر متى بدأت معي هذه الظاهرة ، فلم انجح ، فجرا نهضت ، تحسست بيدي زر الكهرباء في الحائط ، فأذا بي اضغط على انياب عقرب ، صرخت ، كان ابي هذه المرة حازما في طلبه : راجع طبيب العيون غدا ، والا فلا تعد الى البيت ابدا ، هأنذا ألبي أمر أبي وانتظر في غرفة انتظار طبيب العيون ، بحلق الطبيب في عيني المفتوحتين على اخرهما بفضل يديه الباردتين وماكنته الشريرة ،

عيناك يا شاب ستة على ستة ، لا شيء فيهما سوى الحزن ، وماكنتي غير مخولة لعلاج الحزن ،

قال الطبيب ، ونادى بصوت ضجر على مراجع اخر ، خرجت الى الشارع ، احاول ان ا تذكر بلا جدوى متى بدأت احس بهذا التشوش في الرؤية ، الان انا امشي في شارع ركب ، اكتاف ناعمة واخرى خشنة، خطوات مجنونة واخرى عاقلة ، الى اين اذهب؟ الى مقهى؟ وماذا افعل هناك ؟ ؟، سئمت الجلوس ، وشرب القهوة والتحديق في المارة وقراءة الجرائد ، هل اذهب الى البيت؟ اه البيت ، لا شي هناك سوى العادي والفارغ ، والصغير ، سأمشي ، أمشي ، المشي بلا هدف ، بلا احساس بشيء ، بلا انتظار احد ، او ملاحقة احد ، في شارع نزلة البريد ، اغمض عيني ، اترك جسدي يهبط دون رقابة من خوف او حرج ، فأبدو كالاطفال ، مندفعا نحو ملعب ينتظرني فيه منذ نصف ساعة اقراني ، الورد الذي يزحف من البيوت ليتحرش بالشارع ، هيج داخلي رغبة همجية في الصراخ ، الورد والموسيقى والاطفال والبحر ، اربعة مهيجات ، لا استطيع ان اقاومها ، فاصرخ امامها صرخة فرح غامض ، فرح وحشي ، مؤلم ، وحزين في ان ، اخر الشارع ، بجانب المتنزه ، جلست استريح على الرصيف ، شعرت اني افقد طاقتي رويدا رويدا على الرؤية ، تشوشت الاشياء امامي ، لم اعد اميز بين المارة وبين السيارات ، بين المحال وبين الجدران ، سمعت ابي يقول حزينا وخائفا : المارة احضروك الى البيت ، مالذي حدث ؟ لا اتذكر شيء ، اجبته ، وخبأت وجهي تحت الوسادة، في الصباح جلست في غرفة انتظار طبيب الامراض العصبية والنفسية ، ضحك الطبيب طويلا وهو يشخص حالتي ، واعطاني علاجا بسيطا ، لمرض خفيف وعادي اسمه الارهاق ، وحدي عائد الى البيت ، يائسا وحائرا ، بالقرب من دوار المنارة ، اتكأت على حديد الرصيف ، هجم الجنون ، دفعة واحدة، المارة نساء ، ورجالا ، اطفالا ، وشيوخا عراة تماما يمشون بعادية فظيعة ، المحلات اوكار دعارة ، السيارات عقارب كبيرة ،

الشجر شراك للطيور ، يا الهي ، اين انا ؟ وما هذا الذي يحدث؟ اركض بعيدا عن المارة المجانين الذين خلعوا ملابسهم فجأة، اهرب الى الخلف ، عراة ، عراة ، عراة في كل مكان ، اتحسس جسدي ، انا البس قميصا ازرق وبنطالا اسود ، العقارب تسير مسرعة بجانبي ، وبطيئة احيانا وتطلق دخانا من الخلف وتصدر اصواتا غريبة ، العراة يدخلون اوكار الدعارة ويخرجون مبتسمين و محملين بالبضائع ، اواصل هروبي في دروب المدينة وشوارعها الخلفية ، لامكان بلا عراة ، النساء على الشرفات باثداؤهن الكببيرة والصغيرة ، الاطفال يمرحون في ملعب مجاور ، عراة وضاحكين ، اهرب ، اهرب ، اهرب ، ولا مكان بلاعراة معتذرا و يا ئسا ، اعود الى المدينة ، اتكيء على نفس الماسورة ، احاول ان اقنع نفسي ان العالم عادي جدا ، واني فقط اعاني من ارهاق يصور لي الاشياء بطريقة مضحكة وعجيبة ، مرت امراة عارية و بدينة من امامي عفوا ليست عارية ولكني اتصورها كذالك بسبب الارهاق ، كانت تحمل باقة ورد اصطناعي في يدها وتمسك بطفلها باليد الاخرى ، اه الان تذكرت متى بدأت احس بحالتي الغريبة ، كنت اجلس مع اصدقاء قبل شهر تقريبا في احد مقاهي رام الله ، كانت جلستي على طرف الطاولة بجانب ، باقة ورد ، لا اعرف كيف انتزعت نفسي من نقاشات الاصدقاء السياسية ، وسألت نفسي : اين رائحة هذا الورد الجميل ؟؟ انحنيت بوجهي عليه مغمضا عيني ومتوقعا هبوب الرائحة ، فلم يصلني شيء ، مددت يدي اتحسس الورد ، فاذا بي اكتشف انه ورد صناعي ، كانت خدعة متقنة تماما ، الورد بدا حقيقيا وطازجا منتزعا من حديقة ساخنة لتوه ، الغريب والفاجع في المشهد هو ان الجذع كان جذع شجرة تين حقيقيا ، اما الاغصان المربوطة به فكانت صناعية ، اختلاط الطبيعي بالصناعي بهذه الطريقة الوغدة ، اثار عندي شهية ارتكاب جريمة، بحق صاحب المقهى ، لا اعرف مالذي حدث لي بالضبط ، علامات التغير كانت : اصطكاك في ساقي ، اضطراب في رؤيتي ، دوخة خفيفة ، رغبة في التقيؤ ، نهضت بتثاقل ، الاصدقاء دهشوا من تغير حالتي المفاجيء، منذ تلك اللحظات وانا اعاني من هذا الخلل في الرؤية ، ما زلت متكئا على الماسورة ، المارة العراة مسالمون ، لا يعنيهم امري ، قلت لنفسي : لماذا لا اتسلى بمراقبتهم ، رحت اتمعن في اجسادهم ، واجسادهن ، فساق هذا الرجل ، مليئة بالاوساخ ، مؤخرة تلك المرأة يسيل منها العرق ، بطن هذا الشاب بشعة جدا تشبه بطيخة ، كتف ذلك العجوز مليئة بالحفر، فخذ هذه البنت الحلوة مليئة بالنمش و الشعر . سئمت من المراقبة والتعليق على عيوب المارة ، مشيت باتجاة بيتي ، كان ابي وامي عاريان يجلسان عند مدخل البيت ، يتناقشان في امر بيتي ،

في غرفتي ، اهم الان بخلع ملابسي ، ارتدي منامتي تمهيدا لنوم طويل ، بدلا من القاء جسدي على السرير ، القيته من الشرفة فقد رأيت الفراغ الذي يعقب الشرفة سريرا، هناك سكتت كلماتي ، فقد سكتت مخيلتي ودماغي ، انطفأت ذاكرتي ، لا اعرف ان كان هذا هو الموت ام لا؟؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق