شتاء في قميص رجل

مكان غريب ، كأني اعرفه ، هل اعرفه؟ ماسورة ماء ضخمة ، ترتفع عن الارض مترين ، تمتد من جبل الى جبل ، بينهما واد سحيق ، هذا مكان غريب ، كأني اعرفه ، هل اعرفه ؟ بقايا نفق مطمور حدائق عشب ناعم و شوك اصفر واخضر ، شجر زيتون على سفح الجبل ، بركة ماء قذرة ، في الوادي شجرتا سرو ضخمتان ونوع اخر من الشجر لا اعرف نوعه ، ، صخور كثيرة ، دغل خفيف ، البيوت طا رئة على اطراف هذا المكان ، المستوطنة التي على جبل لم تكن موجودة من قبل ، انه اليوم الاول لي في هذه المدرسة الجديدة ، منذ لحظة وصولي الاولى هنا ، احسست اني كنت هنا ، ولكن ما الذي يؤكد هذا الاحساس ؟ لماذا لا يكون وهما من اوهامي ؟ ألست انا سيد من تضيع فيه الامكنة ، تنزاح الرؤى ، وتتداخل الخارطات ؟ لا لالا لدي احساس مختلف هذه المرة ، ثمة نداءات قوية وخفية ، احسها تخطفني و تشربني ، قادمة من اغصان الشجر والحصى والتراب والماسورة ، مكان غريب ، كأني اعرفه ، هل اعرفه ؟ واد سحيق ، اخر حدود المدينة، هناك ينبغي ان اتواجد صباح كل يوم ، انيق الملابس ، محتشم المخيلة والنظرات و الروح ، مطلا من نوافذ الصفوف على روائح واصوات غامضة ، كأنها تعرفني : روائح الماء الاسن في البركة ، و التراب الذي يقفد عقله تحت قطرات المطر الاولى ، صوت الماء ، وهو يهدر في الماسورة الضخمة ، صاعدا الى المستوطنة ، قادما من مكان لا اعرفه، صوت الريح الخفيف وهو يهب بخشونة غامضة على اغصان شجر الزيتون ، واقفا مع طلا بي ، وطالباتي في رواق و ممرات الصفوف ، هم يثرثرون ويتضاكون ، وانا ساكت ، مخترق الذاكرة ، شريد الاحاسيس ، دخلت الصف العاشر ، طلاب وطالبات جدد ، نوافذ واسعة تطل على المكان نفسه ، كأنها مؤامرة ، كأنها حلم ، اجلس على الطاولة ، الطلاب والطالبات صامتون باستغراب ، ينتظرون كلامي المفترض عن اسلوبي في التعامل معهم ، ترحيبي بهم ونصائحي لهم ، المكان في الخارج يجيش بالذكريات والاحلام ، والاسرار ، وانا بين صمت الصف وصخب الامكنة ، اتنفس بصعوبة ، اقاوم رغبة في الركض نحو البيت .

طالبة في اخر الصف تبتسم بعذوبة لاتطاق ، طالبة ، بمريول اخضر ، شعر اسود ، شامة سمراء صغيرة على ذقنها ، اه ، تبتسم ، تبتسم ، ما الذي تريده هذه الصغيرة المبتسمة ؟؟ اقف فجأة ، اتجه نحو النافذة الزجاجية الواسعة ، العيون المستغربة ، الايلة لسخرية خجولة تلاحقني ، لا اكترث لها ، اواصل تحديقي ، احس راسي يرتاح على الزجاج ، عيناي مغمضتان ، دوار خفيف يستولي علي ، ساقاي يتقوسان ،

- استاذ : استرح قليلا انت ترشح بالعرق .

ليستدع احدنا المدير ،

اصحو على همسات قريبة ، باب يفتح و يغلق ، كأس ماء و يد الطالبة الصغيرة ، المبتسمة توقظ كتفي الرخوة ، الجرس يرن ، جلبة رعناء تنفجر في المدرسة ، اهرب الى المكتبة ، اغلق الباب خلفي اغلق بوابة العالم ، كفأر بائس ، مطارد ووحيد ، فقد الثقة بكل جحور الارض ، وخانته عتمات الزوايا ، اندس في شقوق حنيني القديم ، اتسلل الى جرحي في عز الضجة ، عز الوضوح ، تهرع النافذة الي عيني ، الامكنة نفسها ، من زاوية اخرى ، هنا هنا بالضبط بجانب سور المدرسة ، كنت امشي معها ومعه ، الى تلك التلة العالية ، في اصياف بعيدة ، حرة ومجنونة ،

طفلان في العاشرة من عمرنا ، بنت حلوة في الحادية عشرة ، كنا نسكن حيا مجاورا ، نأتي هنا في عطلات المدارس ، نتسلق الشجر ، نرمي بعضنا البعض بالحصى والثمار ، نصعد على الماسورة ونترك اجسادنا تسحل ، وحدها حتى تصل اخر الوادي كنا نصيح و الريح تصيح معنا ، ، نسبح في البركة القذرة ، تصعد التلة ، ونلهث نلهث نلهث ، اسمي زياد ، اسمه سامر ، اسمها هيفاء ،

كان هو وسيما جدا ، ،كنت انا عاديا جدا ، كانت هي ساحرة و غامضة ، كأنها صدى الوادي او كبرياء الجبل ، كأنها هدير الماء في الماسورة ، هل كنا نحبها معا ؟؟ ، هل ننسى ملمس باطن قدمها وهي تطبقهما على باطن اقدامنا ؟؟ ؟ في لعبة غريبة ابتكرتها هي ، يهزم فيها من لا يستطيع تحمل لذة تلامس بواطن الاقدام ، مرة من المرات جلسنا معها على العشب ، فاجأتنا بحديث غريب ،

- حين اصبح بنت كبيرة سأواظب على المجي هنا ، انا احب هذا المكان عندما اتزوج سأخبر اولادي عنه ، هل ستأتيا ن معي ؟

طبعا سنأتي ، ومعنا اولادنا وزوجاتنا ،

نظرت هيفاء الى سامر نظرة غريبة ، تحسست شعره الناعم ، وقالت بما يشبه الهمس :، انا احب ملمس شعرك ، انه يشبه الانزلاق على الماسورة بسهولة ،

ثم حولت نظرها الى مبتسمة ومتألمة وقالت بما يشبه العتاب ، اما انت يا زياد فلا احب ان المس شعرك لانه يشبه دخولي حافية القدمين في حقل شوك هاهاهاهاها ، ،

منذ تلك الظهيرة الحارة وانا اتحسس حقل الشوك فوق رأسي واقترب كثيرا من البكاء ، ما زلت حتى اليوم اتردد كثيرا في تمشيطه خوفا من جراح قد تصيب اصابع يدي ، فاتركه هكذا لايام طويلة امام دهشة اهلي ، حيرة اصحابي وامتعاض مديري ، بعد عشرين عاما من ظهور حقل الشوك هذا ، سأصدم ، وأتعجب حين يسر لي صديقي الوحيد ، ضاحكا ذات مساء صيفي تائه : ان صديقته قالت له حين رأتني : صاحبك مش حلو ، شعره زي الخوا تم ، واتبعت ذلك بضحكة هزت المدينة ، صديقي لم يعرف ان صديقته ايقظت داخلي صورة هيفاء وهي تنظر الى وجهي متألمة : شعرك يا زياد يشبه حقل شوك لذالك فلن المسه . اقتحم ابي غرفتي هائجا وصارخا : مشط شعرك : مثل الخلق ، لقد فضحتنا ، عاما بعد عام ، ساظل اشعر ان ثمة جراح في راسي ، جاهزة لانقضاض على اي اصابع تقترب ، ساهرب من البيت ، والجأ الى جبل قريب ، انام في احدى طياته ، وسيأتي ابي متسللا ،على اطراف اصابعه ، مع اعمامي واخوتي ، يلقون القبض على مرضي يجروني جرا الى الطبيب ، هناك في رطوبة عيادة صامتة بلا رواد ، سيقول لى الطبيب : انظر الى شعري ، انه يشبه شعرك ، تحسسه يا بني ، لن تصاب يداك بجراح ، صدقني لن تصاب ، سأنشب شعري في جلدة رأسه وسينفجر شلال دم صغير ،

هيفاء الجالسة تحت شجرة سرو تقول لنا ضاحكة ولذيذة :

- لن اقول لكما من الاروع ، من الاجمل ، من الذي سأتزوجه ، ساكتب ذلك في ورقة ،واصعد لاخبئها تحت حجر هناك اعلى التلة ، اياكما ان تتبعاني ، سأضع الورقة هناك واهرب الى البيت ستصعد هيفاء رشيقة كاسطورة ، ورقيقة كحكاية ليل شتوي طويل ترويها جدتي الطاعنة في شبحيتها ، تهبط هيفاء ، وتغادر راكضة وسعيدة الى بيتها ، سنركض انا و سامر نحو التلة ، لاهثين ، ومجنونين ، كأن كنزا بانتظارنا ، او مشنقة ، على السفح ، وقبل القمة بقليل ، سنسمع صوت طلقات ، وسنرى جنودا غاضبين ، يهبطون الجبل ركضا نحونا من التلة ، سنتراجع مذعورين ، وسنبكي طويلا ، طويلا ، ونحن في الطريق الى البيت ، في الصباح ، ستأتي جرافات ضخمة ، تحفر اساسات مستوطنة اسرائيلية ، سنراقب من بعيد الجرافات ، وهي تحفر قي جلودنا ، كارثة اسمها ضياع ورقة هيفاء ، اهالينا يتحسرون على الجبل المسروق ، ونحن نتحسر على ورقة صغيرة ، هيفاء اختفت منذ ذلك اليوم ، رحل اهلها عن المدينة ، ذهبوا الى مدينة اخري بعيدة .

طرقات على باب قاعة المكتبة ، طرقات ناعمة ، الصغيرة المبتسمة امامي ،

استاذي ، اريد ان استعير كتابا اتسلى به الليلة ، فبعد وفاة امي وابي لم يعد في حياتي سوى الرسم والقراءة ،

الصغيرة المبتسمة تتجول بعينيها ويديها على رفوف المكتبة ، اشعر بها تقترب مني

استاذي انا احب هذا الوادي كثيرا ، امي كانت تلعب هنا ، حدثتني عن النفق والشجر والبركة والماسورة والجبل والورقة وسامر ، واخر نسيت اسمه ، يحمل على رأسه حقل شوك ،

قالت لي ايضا ---------

مصعوقا اهرب من قاعة المكتبة يداي تقطرات دما ، الصغيرة ما زالت تبتسم .

0 التعليقات:

إرسال تعليق