في وصف موكارينا

صديقي حسين* : هذا صباح جميل، مشمس ودافئ، يتناسب تماما مع عدم ذهابي إلى المدرسة هذا اليوم، كأن الشمس قالت لي: لا تذهب إلى المدرسة هذا اليوم فانا أطهو لك يوما دافئا، خسارة أن تبذره في الصراخ والتنقل من صف إلى آخر، اجلس في موكارينا، مكان جميل يتلاءم هو أيضا مع هكذا يوم، كما يتلاءم أيضا مع نقيض هذا اليوم، في الشتاء القاسي، أحب أن اجلس في زاويتي المعروفة بجانب الواجهة الزجاجية، بالقرب من خطوات المارة ونظراتهم العادية، وغير العادية، وعلى مسافة قصيرة من صوت المطر وهو يضرب بنعومته الشرسة زجاج موكارينا، وحيدا دائما، وان غزا وحدتي احدهم أكشر في وجهه، وارمي وجهي في صفحة كتابي، فيختصر الغازي غزوته ويرحل، النادلون في موكارينا يعرفون كم احتاج الموسيقى، يعرفون أيضا النوع الذي يتلاءم مع هيئتي، كاتب يجلس وحده مع كتب وأوراق وضوء خفيف، سيحتاج إلى موسيقى هادئة أو صوت ناي، أو غناء حزين لامرأة أو رجل، هذا مكان ملائم جدا يا حسين، هل كنت يوما هنا؟ لا أتذكر أني رأيتك هنا؟ كثيرا ما أتخيلك جالسا بقرب طاولتي تقرأ وحدك، أو تكتب، والضوء الأحمر الساذج الطيب يتدلى على وجهك ناصع البساطة، كتبت معظم نصوصي هنا، خاصة في الأمسيات، حين يغادر العشاق المراهقون المكان، أحضر أنا، بحقيبتي الجلدية المليئة بالكتب، ويأسي الجميل من كل شيء، وحلمي الناعس الذي لا يموت في أن اكتب روايتي. موكارينا مكان ملائم لكل فئات الناس: المراهقون، المثقفون، السياسيون، رجال الأعمال، الطلاب، الموظفون، التجار، سائقو الفوردات، النساء الستينيات، الوحيدات المتعبن من هجرة الأبناء والأحفاد، موظفو الان جي اوز، المرفهون. يرحب المكان بأي احد، يعطيه الثقة بنفسه فيما لو كانت ضائعة، يهدئ جراحه ويربت على كتفه لو كان ينتظر أحدا لا يأتي، في المكان طاقة حب كبيرة، متسامح لأي محاولة لتخريب طاولة أو كرسي أو كشط طلاء جدار، موكارينا مقهى جانبي، يقع في شارع يقابل محل ركب تماما،أمامه محل حلاقة ومحل ملابس، وبجانبه مطعم ومحل هدايا،المكان ذكي أيضا، يعرف ماذا يحتاج هذا الشاب أو هذه الشابة من موسيقى، المثقفون لا يأتون هنا، لا ادري لماذا، وهذا هو سر بهاء هذا الحيز، الم يكتشفوه بعد؟ ألانه مكلف قليلا؟ ألانهم لا يذهبون إلى أي مكان؟ الان الله يحبني؟ لا ادري بالضبط ، ولا يهمني كثيرا أن اعرف، ما يهمني يا حسين أني هنا وحدي مع الكتب والموسيقى والحلم العنيد والورق والبيرة والنسكافيه، وأصوات المارة المسرعة أو الهادئة، والضوء الخفيف، وطيفك أنت وهو يرافقني، ويبتسم لي كلما أنهيت رواية أو قصة أو نصا، جميل أن تقف مع مثقف في شارع وتبتسم له، وتعبر عن اشتياقك، ثم تواصل مشيك بعيدا عنه، جميل أن تلوح له أيضا ولكن باختصار، ودون ابتسامة واسعة وطويلة، جميل أن تسأل عن مثقف مريض وترسل له التحايا مع آخرين، لكن محظور أن تزوره في البيت أو تجلس معه في مقهى، محظور أيضا أن تناقشه في نصوصك أو نصوصه، لان إدانته لنصوصك وتشكيكه فيك وفي ثقافتك جاهزة وان لم تأت صريحة فتلميحا، المثقفون لا يقرؤن نصوص بضعهم بصدق وبدون أحكام مسبقة، إنهم يقرؤونها ليفتشوا فيها عن الثغرات، ودائما شكل علاقتهم ببعضهم البعض يتحكم بتقييماتهم للنصوص، ودائما النصوص هي الضحايا الجاهزة،
حسين: أتذكر كيف كنت أنت تقرأ النصوص، بصدقك المعروف، متجاهلا أسماء كاتبيها، النص عندك هو الاسم وهو الهوية، وهو الخارطة، والبوصلة، لن أنسى يوم رميت نصا لي في وجهي قائلا باستياء محب: كمية الادعاء عندك كبيرة هنا، اكتب بصدق يا زياد، وأتذكر يوم استغربت أنت من تذمر احد الشعراء حين اكتشفت في شعره خللا ما، قلت: هذا شاعر أحمق، فأنا شخصيا ابحث عما يدلني إلى خللي، عليه أن يفرح، لأني أعطيته فرصة للقفز عن نفسه وتجاوز مستواه. أوه ما أجمل هذا الصباح! كأن الشمس الشتوية تتخذ من موكارينا، غرفة عمليات للانتشار في الخارج، عادة ما أبقى هناك ما يقارب الساعتين، الآن اشعر أني لا ارغب بمغادرة هذا الفردوس الشمسي، إلا مع مغادرة الشمس، اقرأ الآن في رواية للروائي الأمريكي سكوت فيتزجراد، لا استطيع أن أحدثك عنها الآن لأني لم أكمل سوى عشرين صفحة تقريبا منها، لكني اشعر أنها بالفعل رواية عظيمة، قال عنها ت س اليوت: لم اقرأ في حياتي أجمل من هذه الرواية. حين انهي الرواية سأحدثك عن انطباعي عنها، كم افتقد غيابك عني يا حسين! كنت دائما أسألك عن روايات قرأتها أو أهم بقراءتها حتى يشكل لي رأيك خلفية أو إضاءة، كم كنت أحب تحليلك وشغفك بالربط وذكائك في اكتشاف الدلالات غير الظاهرة في الروايات، وتحمسك للغريب والأسطوري والصوفي فيها، كم كان صدقك مخيفا وشجاعا حين كنت أسألك عن أشخاص أو كتب أو نصوص لا تعرفها، أتذكر يا حسين يوم سألتك ونحن ممددان على عشب حديقة القصبة،؟ سألتك عن أدباء مارسوا الجريمة أو وقعوا في الشر، أدباء مجرمون، أجبتني بعد تفكير طويل: لا ادري، وكانت الادري هذه درسا تعلمته منك، أقول لا ادري بلا خجل حين اسأل عن كتاب لا اعرفه أو نص لم أقرؤه، ولاحقا لم استغرب انك لم تتذكر الماركز دي ساد الكاتب المجنون الفرنسي الذي كان يمارس الجنس مع الأطفال وسجن لذلك سنوات طويلة، قد تكون نسيت ساد أو لم تتذكره، مرة سألتك عن هنري ميشو: أجبتني: لا اعرفه، فابتسمت أنا وأخذت منك درسا عن ثقافة الصدق مع الذات ومع الآخرين، مرة طلبت منك أن تفلسف شعور الأبوة، بصفتك كنت أبا جديدا: أطرقت في العشب طويلا وببساطة مذهلة أجبت: سؤال رائع لكني لا اعرف. أين سأجد شبيها بك يا صديقي؟ أين؟ حين أسال أحدا ما عن كتاب أو كاتب أو مرحلة تاريخية أو اتجاه أو مدرسة فنية، يتبارى الجالسون في الشرح والاستعراض، لا احد يقول لا ادري، لا احد يبدي رغبة في أن يعرف، كلهم يعرفون، كلهم عباقرة كلهم ملائكة افففففففففففففففففف ضجرت منهم يا حسين،
هل أزعجتك؟ لماذا أراك تتململ؟ هل لديك موعد مع نص؟ لماذا تبتسم يا أجمل النصوص، يا حسين.

0 التعليقات:

إرسال تعليق