ما يشبه القصص أو المخيم أو الرسائل



-


أريد أن أجلس على عتبة بيتك، لا أنتظرك ولا أشتاق إليك ولا أفكر في إن كنت داخل البيت أم ما زلت خارجه، ولا يهمني الرجل الذي ينتظرك معي دون أن أعرفه أو يعرفني، فقط أريد أن أجلس على عتبة بيتك.


أصواتهم


ممدد على السرير بإفراط ممدد، جسمي كله مغطى باللحاف الخفيف، هم حولي، سبعة أو عشرة، يضحكون، يثرثرون حول رحلة سيقومون بها غداً إلى البحر، كنت مخنوقاً باللحاف والعرق وأصواتهم، زعمت أني نائم، الـمفجع أنهم صدقوا نومي، والـمحزن أنني، أيضاً، صدقته، أصدرت شخيراً، قلت كلـمات غريبة غير منسجمة مع بعضها، شعرت بسائل ساخن يتسرب من منطقتي التحتية، أصيبت أطرافي بالخدر، كنت أريد أن أبكي، لو بكيت سأرتاح، فجأة رأيته قادماً من بعيد ملطخاً ببولي وعرقي ودموعي، جمالي الصافي، جمال غريب أتعرّفه لأول مرة، يشبه فجراً حقيقياً عميق الندى ينتظرني كيد معلقة على أكرة بابي، وحين أفتح، يصافحني ضاحكاً وهو يقول: من أجلك أنت جئت، يا للجمال الذي يكتشف فجأة في لحظات العزلة الشديدة، للجمال أبوان: العزلة والـموت، للحقيقة وجه واحد: الابتعاد، رأيت نفسي أسبقهم إلى البحر، سمعت نفسي أبتسم.

حزن



حزن هائل ارتداني هذا الصباح الباكر وما زال، حين وقفت أمام شجرة التين أمام بيتي في السادسة صباحاً، كما أفعل منذ أشهر، لـم يكن ثمة حبة تين ناضجة، سمعت صوت الشجرة وهي تعتذر بألـم: "سامحني صديقي فقد ولّى زمني"، انتبهت فجأةً إلى أن حزني ليس نابعاً من فقداني حبة التين الصباحية، كنت حزيناً جداً لأني تذكرت أني لـم أقل لشجرتي مرة واحدة صباح الخير، ولـم يحدث أن قلت لها، تصبحين على خير / فمي.

خواء



في شتاء ما... نخر أرض روحي خواء مدمر، فركضت نحو جبل قرنطل، الخالد، في أريحا، وقفت خلف السور ورفعت قدمي اليمنى، مستعداً لأجمل أنواع السقوط، فجأة سمعت صوت فيروز: يقف بجانبي مستعداً هو الآخر للقفز: "أنا اللي يسموني الـملكة، بالغار متوج زمني، مملكتي ما فيها بكي وجبيني ما مرا حني". تجمدت قدمي على السور، لـم أستطع التحرك، وكأن يداً عملاقة تمسك بجسمي كله، شعرت بشخص يقف خلفي، يمد يده كأنه يقول: "كيف تترك زمناً تعيش فيه فيروز؟".

إنسان



كم هو ممتع أن أنتمي إلى كون ينتمي إليه أنطون تشيخوف، منذ الصباح وأنا أقرؤه لأخلص إلى نتيجة واحدة: كم هو مسكين الإنسان وكم هو خبيث!.
اختفاءات
دائماً كنت مؤمناً بأني أعيش في كل العصور، وفي كل الأمكنة وأن مخيلتي الحبيبة العدوة تساعدني في اغتيال الحاضر بعد الاعتذار له بأدب أو أسره فترة في سجن ما فتحته خصيصاً له في غرفة إخوتي من ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث ينهشونه هناك بالصراخ والركل والقضم، تختفي رام الله ويختفي أصدقائي وأهلي ومدرستي، وأصبح محارباً يبوسياً أو راهباً يونانياً، حين أقرأ كتاباً عن الأندلس، أتحول فوراً شاباً يعمل بستانياً في حديقة الأمير أبي عبد الله الصغير، وحين تدخل أمي غرفتي حاملة الشاي تستغرب مني، فأنا غير موجود، فأسمعها تهمس لنفسها أين ذهب ؟؟ كان هنا قبل قليل. قبل أيام ذهبت إلى أريحا في رحلة مع طلابي، وبينما كنا نتجول في ساحات قصر هشام، وفي لحظة ما دهش طلابي لغيابي، بحثوا عني في كل مكان، وأبلغوا الشرطة، وفجأة استغربت منهم قائلاً: ما بالكم ؟ كنت هنا لـم أغادر القصر، أنتم الذين اختفيتم.

نساء البياض



أراهم كل شهر تقريباً في طريقي إلى الـمدينة، أطفال وشبان وأمهات وشابات، ونساء ورجال ومسنون يتجمعون بصخب، وفوضى وخوف، أمام سيارة شحن زرقاء مليئة بأكياس الطحين، يقف على بابها الخلفي الـمفتوح رجل فظ، يسد الباب بجسده الضخم، ويحرس الطحين، بصيحاته وتهديداته، النساء اللاجئات يستعجلن توزيع الطحين، حرصاً على أشغال بيت تنتظرهن، الأطفال يتراكضون حول النساء، والسيارات التي تمر على الشارع العام في الـمخيم والذي تسده النسوة والأطفال، تزعق بغضب، السائقون الحانقون يطلون من النوافذ شاتمين، أنا أشق طريقي باتجاه سيارات الأجرة، صاعداً إلى رام الله من مكان منخفض جداً جداً اسمه مخيم، كل شهر تقريباً، أكون على موعد مع هذا الـمشهد الذي لا يتعب من تكرار نفسه، هذا الـمشهد مستمر منذ ستين عاماً، إن النساء اللواتي صادفتهن في هذا الشارع نفسه، قبل عشر سنوات، هن أنفسهن، من يقفن الآن، متعبات، ضجرات، ساخطات، جميلات، بالتعب والطحين الذي يكلل ملابسهن، ودائماً هناك رجل بملابس أنيقة، ينتظر على الرصيف بسيارته الفارهة، ماذا ينتظر هذا الأنيق القادم من الـمدينة؟ ألا يتعب من الانتظار؟ منذ خمسين عاماً وهو ينتظر بسيارته، يا للعار، إنه ينتظر السيدات الـمعذبات، ليبعنه أكياس الطحين بأثمان بخسة، تصوروا !!!.
أمر ماشياً على قدمين متعثرتين، شاقاً حشود الغاضبات والغاضبين ومتسائلاً بحيرة: اللعنة، ألن ينتهي هذا الـمشهد أبداً؟ من الـمسؤول عن عذاب لاجئينا أمام سيارات الطحين؟ من الـمسؤول عن هذا الهدر الـمخزي لكرامة إنساننا في مخيماتنا؟ ألا تكفي كرامة رجالنا الـمهدورة على الحواجز حتى نشارك نحن أيضاً بذلك؟
لـماذا لا تصل أكياس الطحين إلى بيوت اللاجئين؟ بكرامة ونظام وهدوء؟ لا أدري لـمن أوجه هذه الصرخة؟ هل سيسمعها أحد أصلاً أم ستتناثر في الفراغ كما تتناثر منذ خمسين عاماً كرامة رجالنا ونسائنا وأطفالنا في كل مكان؟؟.
zkhadash@yahoo.com


تاريخ نشر المقال 15 أيلول 2009
جريدة الايام الفلسطينية

0 التعليقات:

إرسال تعليق