أنا والمؤسسة وبطن صديقتي

بيني وبين المؤسسات في بلدي غربة غريبة، لا أستطيع أن أجد لها تفسيرا واضحا. وبيني وبين بطن صديقتي سلام غريب لا أستطيع أن أجد له تفسيراً واضحاً. لكن ما العلاقة بين بطن الصديقة والمؤسسة؟ هذا ما لا أستطيع أن أجد تفسيراً له أيضا. والحقيقة أن حوادث ومواقف ومشاعر كثيرة في حياتي لا استطيع أن أجد تفسيراً واضحاً لها، فمثلاً ما الذي يجعلني أحتاج بقوة رؤية المسخ مهيب البرغوثي كل يوم رغم الحشرات التي تفوح من روحه؟؟
ولكن هذا موضوع آخر، لأعد إلى البطن – السلام والمؤسسة- الحرب، ما الذي يجعلني أتعثر حين أهم بدخول مؤسسة؟ ما الذي يُربك ملامحي ويهز ثقتي بنفسي حين أجلس مع صديقي الذي يعمل في مؤسسة فاخرة؟؟ لماذا أتلعثم في كلامي حين يكلمني رئيس مؤسسة ؟ لماذا تثير ريبتي المؤسسة الناجحة في بلادي؟؟ تلك الرائحة الارستقراطية للسجاد الارضي، ذلك البريق الساحر للستائر، وسامة المدراء، توفر الوقت للموظفين للضحك والاسترخاء والتحرش بالسكرتيرات، النسكافيه الساخن، ومؤخرة السكرتيرة الجاهزة للاقتحام، عنجهية المراسلين، وغموض ابتساماتهم، الغرف الخلفية المقفلة، السيارات الغريبة اللامعة التي تأتي وتذهب، بركابها الصامتين البدينين، وسائقيها الضجرين. لماذا اغتاظ وأكاد أفقد أعصابي قهراً حين أرى ورشة عمل، حين أساق بحكم مهنتي اللعينة الى ورشات عمل، اشعر أني أساق الى مشنقتي. ورشة العمل: حيث يتحلق عدد من الأشخاص الفرحين حول طاولة مستديرة، ويقف شخص أنيق، مبتسم وبيده أوراق يتجول بينهم موزعا الدفاتر والأقلام. وتبدأ الثرثرات الجوفاء والنقاشات الصاخبة والاستعراضات المرضية. وفي نهاية الورشة (وهو أسوأ جزء فيها) تكتب التوصيات وتوزع على المعنيين، ويذهب كل الى قاعه المنتن.

أكثر بلاد العالم هوسا بالورشات هي بلادي، لماذا؟؟ أهي المؤسسات الاهلية الكثيرة باموالها الغزيرة التي تدعي رعاية الطفولة والمرأة والاسرة ؟ أهو الفراغ والاحتلال والتشوش الوطني ؟ أهي الرغبة في الانشغال هربا من ضيق أمكنة وضيق حياة وضيق روح؟؟ لم أصمد في ورشة عمل دعيت لها أو فرضت عليّ أكثر من ربع ساعة. أتحجج بالحاجة إلى المرحاض وأهرب من الباب إلى الريح والطرقات البكر والحرية، وشتائم الباعة الاحرار. لا أؤمن بأهمية الدورات وورشات العمل أبدا، أراها طريقة ذهن فارغ يستعرض امتلاءات خفيفة مزورة وعابرة هنا أو هناك. ولكن هذا موضوع آخر، لأعد إلى بطن صديقتي- السلام وإلى المؤسسة – الحرب والاغتراب. لبطن صديقتي وقع غريب على خدي حين تدمر الجسور وتقفل السدود أو تنسف، ويهطل الكذب مدرارا على هذا العالم. وتغبش الرؤيا، ألجأ إلى بطن صديقتي، حيث هناك فقط تعيش الغابات المطرية، وتسكن العصافير المطاردة، حيث هناك فقط يولد الندى وتختمر عجينة الحلم، تسطع الرؤيا وتلتئم الجروح. لبطن صديقتي احتمالات معانٍ عديدة، فهو حمال أوجه، وهو نص مركب من أجناس وأعراق وشعوب وسلالات ومدن وأساطير موغلة في الانقراض. لكنها تؤشر على حنين الطبيعة إلى بكارتها وامتدادها وتاريخها وخلودها وجنونها وانقلاباتها الشريفة والشريرة. في المؤسسة تكذب السكرتيرة بناءً على وصايا المدير، لكن بطن صديقتي لا يكذب، هو يعطيني وصيته كاملة وعذراء وحميمة. في المؤسسة تكتب تقارير الجواسيس في الغرف المقفلة، وتصاغ المؤامرات بأخس الأساليب وأقذر الطرق. بطن صديقتي الهادئ والصلب برخاوة خفيفة يكتب على خدي وشفاهي نصوص المطر الأول والبذور الأولى. الحكمة الأولى، الدخان الأول، الحريق الأول. في المؤسسة تعطي السكرتيرة الغبية نهدها لمديرها الشهواني المتعرق بعد أن يخرج الموظفون إلى بيوتهم.

على بطن صديقتي لا يعيش موظفون أو مديرون أو تقارير أو سكرتيرات، على بطن صديقتي لا غرف مواربة ولا أجراس إنذار أو حريق، على بطن صديقتي تغني المرتفعات أغنيات اللقاء العظيم ما بين الشلال والنهر، ما بين السمكة المتمردة والمقهورة واليابسة الرخوة المشققة. لا حراس على بطن صديقتي، لا أقفال لا أجراس لدخول أو خروج.

في المؤسسة لا تحدث معجزات، لا أساطير هناك، لا شعر، لا موسيقى. على بطن صديقتي تندلع القيثارات غزيرة في وجه الصخور، وتتداخل الأسطورة مع الواقع فيما يشبه أضغاث أحلام. على بطن صديقتي أنام ألف عام، في المؤسسة يتصلب الوعي الشرير الدنيء. ويتجمد لدرجة الصحو المجرم المتواصل، صحو الأفاعي حين تنهمر فوق مخبئها أقدام البشر الغادين والرائحين.
في المؤسسة لا أجنحة ولا أحلام، لا أشجار، ولا طيور ولا أطفال، على بطن صديقتي ترقص البشرية رقصة الطفولة القادمة البهية البريئة والميلاد الهائل. على بطن صديقتي يدندن المستحيل ويكتمل القمر. في المؤسسة تزدهر الجنازات ويعشش الهوان، وتموت الروح، على بطن حبيبتي أتحول إلى شامة وأختفي من دنيا البشر، دنيا المؤسسات. شامة من صمت وعاج على سفح البطن الرخامي بطن العالم المستحيل. يا ذئب بطنها افترسني، واخفني عن هذا العالم المترامي العتمة والكذب والصحراء.

رام الله
8-5-2006

0 التعليقات:

إرسال تعليق