فيلم (زهرة) لمحمد بكري: أغنية برد دافئة

كأني شاهدت نشيداً قومياً صامتاً لأمة أو سمعت منفى عميقاً لشعب في فيلم زهرة لمحمد بكري، الذي عرض ليلة الاثنين في القصبة، أو كأني رأيت أغنية عناد حزين ومعذب تغنيها امرأة فلسطينية جليلية مسنة هي زهرة، اغنية تحمل دلالات الوداع والفقد والمنفى الى جانب دلالات الصمود والأمل والحب، لاول مرة أشاهد فيلماً فلسطينياً يروي بأسلوب شاعري وحميمي حكاية امتداد وبقاء عائلة هي في ذات الوقت حكاياتنا جميعا كفلسطينيين، فيلم زهرة ليس فيلماً بالضبط، هو جدارية حب وألم مرسومة بخامات الشعر والطرقات الضيقة المبلولة، والمطر والدموع والمقابر والاعراس والتلال الساحرة والخنازير المقتولة في براريها بوحشية، والشجر وتاريخ الموت الشخصي والوطني والنضال والاطفال والنساء الفلسطينيات المسنات الرائعات، والذاكرة المتينة. يروي محمد البكري عبر ذاكرة خالته لطيفة الملامح زهرة، حكاية بقاء انساني جديرة بالتأمل بالدهشة، قال الفيلم دون أن يقول ذلك مفردات قصة صمود وطنية بالغة الانتماء والروعة أمام خطط الصهيونية في قتل حياة الروح وروح الحياة في نفوس الفلسطينيين، فنبوءة وأمنية ايتسحاق الصهيوني الذي حذر الطبيب ابن زهرة من سفره الى الخارج لان ذلك سيكلفه موت أبيه على يديه، قد تحققت ولو على المستوى الرمزي او الصدفي، لكن أمنية المحتلين ونبوءاتهم في طرد الفلسطينيين من بلادهم لم تتحقق أبداً، ومؤكد أن ذلك محال التحقق، بفضل صمود زهرة واشباهها من أمهاتنا الصابرات القويات، يجب أن لا تنسينا بطولة زهرة بطولات أخرى هنا وهناك لا تقل عنها نبلاً وانسانية، أولاها بطولة رفيقة ابنتها، التي رفضت الزواج لتنقذ اسرتها من الجوع والمهانة، وبطولة الطبيبة جينيا بكري زوجة أحد ابناء زهرة التي كانت تعالج الناس بالمجان، بطولة احمد العائد الى البلاد والباحث عن وجه ابيه في المطار، بطولة حنا نقارة وهو يسترجع بجرأته ووطنيته حق اقامة بعض العائدين الى وطنهم في وطنهم، يا لها من مفارقة! بطولة المخرج محمد نفسه وهو (يلقط) النباتات مع خالته في الجبل، وفي دموعه وحشرجة صوته أمام بوح أبناء خالته وانتمائه الى عائلته وذاكرة بلاده بكل هذه الجماليات في الولع بالتفاصيل، بطولة المرأتين المسنتين جداً وهما تتحدثان عن الزمن الجميل بلثغات السنتهن الهرمة خفيفة الظل، بطولة الزمن وهو يسترجع وقائعه وحالاته بذكاء مخيف او بعشوائية محيرة، بطولة حنا ابراهيم السبعيني ابن البعنة الذي صنع من البعنة دولة اشتراكية تدافع عن فقرائها وتحقق مصالحهم، بطولة الرجل الذي صرخ في وجه وزير التموين الاسرائيلي دفاعاً عن نظريات الشيوعية التي يؤمن بها، بطولة البعنة المبلولة وهي تبقى رغم كل شيء، بطولة خنزير التلة وهو يتدحرج بشرف على تلته التي ولد وعاش فيها، بطولة عناق فتاة ما من العائلة لاخيها الصغير والذي أقفل محمد بكري فيلمه به، (هل أقفل الفيلم فعلا أم أنه ما زال مستمراً)، بطولة اللغة في التشبيه المرعب لكلام سيدة ما وهي تقول لزهرة تخفيفا عن مصابها برحيل حسن زوجها: (الميت مثل الميه اللي بتكبيها، بتقدري اتلمي الميه اللي كبيتيها)؟. انها بطولات صغيرة اخرى في طيات البطولة الاكبر، (زهرة) أعجبني تكاتف هذه الاسرة في زمن التفكك والمصالح الضيقة وفساد الروح والرخص، هو درس في التعاضد العائلي.
هل زهرة هي فلسطين؟.
يستطيع من شاء أن يقرأ زهرة على هذا المستوى الرمزي، ويحق لآخر أن يرفض هذه الاحالات التي مللناها ويقول: زهرة هي زهرة، كما أن الجبل هو جبل، وليس الله، فيلم زهرة ليس فيلماً بالضبط، هو نص أشبه بالبوح الخاص ذي فضاء جماعي جمالي بهي وذكي، ابتعد عن الكلام الكبير ورنين الشعار وبلاغة الحلم، وزخرفة الامنيات القومية، والربط الآلي لمصاعب الحياة بالاحتلال، أليس هناك زهرات اردنية ومصرية وموريتانية وارجنتينية، الخ؟.
صحيح أن ثمة خصوصية فلسطينية لها علاقة بغزو البلاد، وظروف الهجرة والمنافي، لكن البعد الكوني والانساني بدا جليا.
هل الفيلم سيرة أسرة أم سيرة وطن أم سير زمن؟ أم هو كل ما ذكر؟ بالتأكيد هو خليط من قصيدة وجدارية وأغنية وفيلم ورقصة دموع سعيدة، الفيلم هو بلادنا، هو ردنا الهادئ والانساني على غزاتها.

Zkhadash1@gmail.com



تاريخ نشر المقال 20 تشرين الأول 2009

0 التعليقات:

إرسال تعليق