ثلاث نساء حافيات على مسرح عشتار!

على موعد مع المسرح مرة اخرى، مع الحافة، مع التوتر، مع المطلق مع الحنين، مع المفتاح، في الطريق كنت اتساءل: بالمسرح فقط اخرج من الرماد، اعيش في النضارة، واتعرض لهزات تسلمني الى الحياة الاخرى الحقيقية الرابضة فينا كدلفين حزين ينتظر اعادته الى بحيرته التي جففتها حياتنا السطحية، سأعترف ان احد اسباب مشاهدتي للمسرحيات هو ليس فقط التوغل في ذاتي، بل استعادتي لثقتي بالفن والحياة ايضا، فكلما شاهدت مسرحية قفزت في داخلي جنية الثقة بالفن والابداع بكافة اشكاله، شددت روحي الى عشتار المسرح، ليضاء داخلي بثلاث عشتارات يلبسن الاسود و حافيات يمثلن ادوارا عن نساء معتقلات في اطر وقوالب ينتظرن بخوف وقلق نتائج مسابقة دولية لاختيار المرأة المثالية، المسرح ممارسة لانسانيتنا واحتفاء صاخب بقدرة ذهننا على الاكتشاف والمعرفة، ورغبات دفينة في التفرج على عجائب سلوكنا، وطرائف مشاعرنا، ثمة متعة في الاعتراف بالفضائح، متعة سرية تقبع في اقصى الاعماق: ان نمارس الاستغراب من انفسنا، وما يستتبع ذلك من تبريرات او ادانات او ندم او قرارات بالتعديل والتوقف المسرح يعطينا المفتاح ولا دخل له بالطريقة التي ندخل بها الينا، ولا يكترث بما نفعل في غرفنا السرية، انه يقول لكا بود او بشرشة او بغطرسة: هاك مفتاحك فادخل او لا تدخل، مت هناك او عش طويلا ارتكب اخطاء اخرى او توقف عن الخطأ، انظر تفاصيل ما تفعل سرا او لا تنظر المسرح لا يسترد المفتاح، هو يقول لنا احتفظوا بمفتاحكم علكم يوما ما تحتاجون زيارتكم، لكننا وبفعل الحياة السريعة والسطحية اتي نعيشها نضيع المفتاح في ضجيج مصالحنا اليومية ورغباتنا سريعة الانطفاء ونعود عاديين جدا تماما كالقبلة الصباحية السريعة التي نلصقها على خدود زوجاتنا صباحا، المسرح معشوقة سرية نحب زيارتها في الامسيات الممطرة هربا من العقلانية الفظيعة التي نعيشها مع اطفالنا وزوجاتنا وزملائنا في العمل، وهناك في بيت المعشوقة الجريئة نفاجأ بعشاق كثيرين هاربين الى القبلة المختلفة، ولا نزعل، لا نغار، المسرح امرأة غريبة لا يغار عشاقها من بعضهم البعض، انها تجبرهم باتساعها، و قوتها وذكائها وطيبة قلبها وتوحشها على حب بعضهم البعض كأخوة، كزملاء قلب عاشق او رفاق ذهن يسأل باستمرار، نحن الفلسطينيين الذين ننام مبكرين الى احلامنا هربا من واقعنا نحتاج المسرح بقوة كما تحتاجه الشعوب المحتلة، كفلسطينين ثمة علاقة خاصة بيننا وبين المسرح، انه ضروروي لنحس بجمال العالم، وقدسية الحياة وهناء التفكير البريء البدائي الصافي تجاه الاشياء، بعد ان نكاد نفقد احساسنا الطبيعي بالجمال والشعر والحياة، وسط موت غير مفهوم يسكن مدننا ووطننا، نساء تحت الاضواء هو عنوان المسرحية التي ستسلمني مفتاح غرفتي السرية هذا المساء، و هي من تمثيل: فاتن خوري وميسا فلحا وبيان شبيب، واخراح ايمان عون، و التأليف جماعي،

كنت دائما اخاف من ضيق قاعة عشتار بسبب عقدة الاماكن الضيقة عندي، هذه المرة شعرت باتساع داخلي انساني، لم اعرف لماذا حتى الان، لكني اتوقع ان السبب هو مداخل الفكرة المثيرة التي تعالجها المسرحية، فقد اخذتني الى اماكن بعيدة، وهذا هو احد مهام العمل الفني، ان ينتزعنا من اماكننا الصغيرة والمكرورة الى فضاءات يانعة اخرى، فكرة المسرحية قتلت بحثا ومعاجة سواء عن طريق المسرح او الرواية او السينما او القصة او رقصات الباليه او الفن التشكيلي، وملخصها تمرد المرأة على الاطر التي تحجزها فيها المجتمعات الذكورية لن اناقش هذه الفكرة لانها معروفة لكني ساناقش المداخل التي تم ابداعها لكشف ابعاد خفية في الفكرة او لايقاظ مشاعر غافية في خواصرنا،، وارى ان العمل الفني يتجلى بقوة في اكتشاف مداخل جديدة للفكرة المطروقة، وليس في ابتكار الفكرة، فالموت مثلا فكرة مطروقة جدا وموجودة على الطريق وكتب عنها الكثير، لكن طريقة كتابة كل كاتب تختلف عن طرق الاخرين، محمود درويش حكى عن الموت حكايته الخاصة الجميلة في الجدارية، حسين البرغوثي حكى حكايته الخاصة ايضا، وهكذا لكل كاتب مداخله الخاصة التي تكون نسيج وحدها، لنفس الفكرة، المدخل لفكرة الوطن في ادب كنفاني ليس هو المدخل في ادب هنري مللر مثلا رغم غرابة المقارنة بين تجربيتين مختلفتين تماما، في نساء تحت الاضواء، بدت الفكرة عادية تماما، وكدت اقول لنفسي: اذن نحن امام فكرة معروفة، لكني غيرت رأيي تماما بعد قليل، فقد توضحت المداخل: التوحد مع شخصيات تاريخية واسطورية وهذا مدخل مثير ويبعث على الهياج النفسي والانفعال ويستدعي الاثارة والقشعريرة، المدخل الجميل الاخر لهذه الفكرة العادية هو اكتشاف الغزالات الثلاث ان التحرر عبر المسرح هو الخلاص لهن، وهذا الاكتشاف يسلمنا الى حقيقة بنفسجية الرائحة والملمس واللون وهي: ضرورة المسرح كأداة للتحرر و المواجهة، مواجهة النفس اولا ثم مواجهة المحظورات، اداة للفرد لتحدي ذاته والتحديق في مصيره، او للمجتمع، لتحدي مخاطره المحيطة به، تتخبط النساء الثلاث في مواجهة حقيقة العالم بمطالبه و بمعاييره التافهة والظالمة مع حقيقة واقعهن الذي لا يستجيب لهذه المطالب، فيهربن الى التاريخ والاسطورة، لمزيد من الوهم ومزيد من الانفصال عن واقعهن المرفوض والمنبوذ والشاحب، لكن الخلل الكبير كان في عدم مقدرة التاريخ حضن واسناد تجارب نساء وحيدات يعشن على حواف النهايات فهو نفسه يعاني من انكسارات وشروخات كبيرة وهو يفيض بالنساء الخاسرات والمطرودات كما سافو مثلا سيدة الجزيرة المحرمة، كما ان الاسطورة اعتذرت عن الاجابة عن اسئلتهن، ليس فقرا فيها بل تحريضا لهن على البحث عن خلاصات اخرى، فكان اندلاع خشبة الخلاص في بحر الضياع: المسرح، لم يعجبني استخدام الاطر الخشبية فهي رموز مكشوفة لايضاح قولبة حياة النساء الثلاث، كان يمكن البحث عن رموز اخرى او على الاقل كان يجب عدم التلفظ بكلمة اطار نفسها فهي تتحدث عن نفسها، ونحن نعرف ماذا تعني هذه الاطر ولا نحتاج التوضيح، كما ان اظهار صورة المحكمين كان غير مقبول حسب وجهة نظري، كان يمكن جعلهم وحوش او اشخاص غامضين مزعجين، بطرق اخرى، انا لا ادعو الى الغموض المفتعل، بل الى مزيد من التعمق والذهاب الى تقنية الايحاء والتلميح وقول الاشياء وتصوريها بما، لا يتلاءم مع معايير الحياة العادية، فنحن في مسرح وليس في مدرسة، والمسرح لا يتحمل الوضوح والتنظير والبصر القوي والتفاصيل الدقيقة، انه يختار الجوهري من الصورة حتى لو كان كلمة او خطوة او نفس او تغيير شكل نظرة، الحوار لم يكن متلائما مع جمال وروعة المداخل وصديقي الكاتب وليد ابو بكر يوافقني الرأي بالتأكيد، فالحوار سطحي ويقول ما يجب ان يقال، على الحوار المسرحي حسب اعتقادي ان يتجه الى السماء الثامنة في اللغة، بمعنى ان يقول ما لا يجب ان، يقال، ما لا ينتظر منه، فمثلا، سرعة اكتشاف النساء الثلاث لخلاصهن عبر المسرح لم تكن مقنعة، لم يمهد لذلك بمقدمات حوارية لغوية، او حتى بحركات جسدانية،

طاقات الممثلاث الثلاث كانت مدهشة، فبيان شبيب هذه اللبؤة الصغيرة الجسورة، تمتلك مخزونا هائلا من القدرة على الحركة والايحاء، وانا افضلها على المسرح بكلام قليل، وهذا لا يعني ان الكلام في فمها غير مقنع مسرحيا، ابدا، لكني ارى ان درجة حبها وتحكمها بجسدها ومستوى طواعية جسدها لافكارها وهواجسها كممثلة يغنيها عن اي كلام او نطق، مطلوب منها ان لا تتورط في الانفعال كثيرا اثناء النطق، فهي تنسى نفسها احيانا وتنجرف الى صوت عال لا يتناسب مع المستوى المطلوب، اعتقد ان ما تحتاجه بيان هو نصوص مجنونة حتى تتطابق مع طاقتها الكبيرة جسدانيا و روحيا، فقد شاهدتها في مسرحية فقيرة مضمونا وشكلا هي صفد شا تيلا، وقد غطى فقر المضمون على موهبتها ولم يعطها مدى او مسافة للسطوع،

بيان شبيب: هناك نصوص مسرحية تبحث عنك فانتظريها على مفرق حلم، فاتن خوري فنانة بالشكل والحركة والصوت، ملامح وجهها الحزين تعطيها حرية التعبير عن الحصار والوجع، ورغم ان حركتها الجسدانية لم تسعفها في ايصال بعض المعاني، الا ان ملامح نظراتها المعبرة والذكية اوصلتنا الى همها وعذابها بأقصر الطرق واكثرها تأثيرا، صاحبة اللكنة اللذيذة ميسا فلحا، فاضت علينا بعذوبة مكسورة، جسمها المسافر، كان خشبة خلاصها، الذي لجأت اليه نكاية في معايير السخيفين، احتضنها جسدها، ايما احتضان واقنعها بمعاييره الخاصة وقد رضيت هي به، اطارا طبيعيا لا مصنوعا من زيف وكذب، صوت ميسا الناعس الطفولي اضاف عذابا فوق عذاب، كما ان اختيارها لدور المهرج في النهاية كان طريفا وذكيا، فالتهريج هو لعبة الخاسرين الذي يبكون في الليل كثيرا في النهار يضحكون الناس،

كنا نحتاج الى موسقى اخرى غير التي سمعنا، موسيقى تصهل فينا وتصعق صمتنا الداخلي، لا ادري ما المشكلة في ذلك، فالحزن والذهول والخوف والحصار والموت والتهريج والرقص والسخرية كل هذه المعاني في المسرحية كانت تحتاج موسيقى اخرى،

بصمات ايمان عون الاخراجية بدت واضحة فهي بصمات حزينة وهادئة وشفافة، هذه السيدة التي لا تتوقف عن رشق الاشياء و العالم بالابتسامات الجميلة، ذرفت على النساء الثلاث رؤيا الحزن و المرارة وثم الخلاص الحزين والمهزوم، حتى الخلاص كان مهزوما وكان أزمة، هذه هي رؤية ايمان الاخراجية وانا اتفق معها تماما، فالمسرحية انتهت باكتشاف المسرح كادة تحرر لكنها لم تنته بعد فهناك فصل اخر اسمه فصل المواجهة لم يعرض بعد، فصل اختبار الخلاص،

ثلاث نساء تحت الاضواء مسرحية مفتوحة اذن، بانتظار ان نكملها نحن في ليلنا الفلسطيني الطويل المليء بالقذائف والشهداء شكرا لعشتار التي انتجت كل هذا الجمال حتى لو كان ناقصا

ومن قال انه ناقص ؟ قد اكون مخطئا فليس هناك اشياء نهائية في هذا العالم،. رائد العيسة شكررا جدا، انت تعرف لماذا اشكرك.

0 التعليقات:

إرسال تعليق