(حاوره زياد خداش_ رام الله)
ــــــــــــــــــ
مقدمة
اجمل ما في سميح القاسم هو صبره على المستفز والخبيث من الاسئلة، فهو شاعر اشكالي لا يجد المرء صعوبة في العثور على سبب لحرب صغيرة معه
ولا يجد ايضا صعوبة في الاعتراف بمتعة محاورته ، فاجاباته طريفة وجريئة وقاسية احيانا ،سميح شاعر المقاومة كما يحب ان ينادى ماذا يقول في زمن اختفت فيه مفاهيم وتبدلت معالم ، انهارت سدود ، وقفزت اسئلة جديدة ، هنا حوار ساخن معه او اشتباك حامي الوطيس، اجري معه الاسبوع الماضي ، بعد حادث السيارة المؤلم الذي تعرض له قبل عدة اشهر حيث لزم الفراش فترة طويلة .
1) تعرّضت قبل أشهر إلى حادث سير (نحمد الله على سلامتك) نريدك أن تنظر إلى "الحادث الخطير" بعين شعرية-وجودية. ما الذي تراه؟
* أجل، لقد كان ذلك حادثاً خطيراً. علمت من الأطباء أنني كنت مؤرجحاً بين الموت والحياة طيلة تسع ساعات. لكن كلام الأطباء لم يهزّني لأنني من المؤمنين بأنه "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" – صدق الله العظيم. ولأنني لا أريد النظر إلى نثر الحياة بعين شعرية فلا أخفي عليك أنّ القصيدة القادمة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشدّني إلى الحياة. لم تعد هذه الحياة كثيرة الجدوى ولم يبقَ فيها ما يبررها أو يبرر التشبث بها. تعلمون أنّ هاجسي الشعري تماهى مع شهوة التغيير الكبير. ولم تكن الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية في فتوتي، عمراً وشعراً، سوى هدف قريب على مرمى الوردة والحجر والتفاحة. وماذا بقي لي الآن من حلم الشباب وشغف الحياة والكفاح، سوى أنقاض جسدي وروحي ووطني وأمتي، وعاصفة العولمة الوسخة التي تدمّر رائحة الياسمين برائحة الهامبورغر ودخان السيارات الأمريكية المدنية والعسكرية؟ ولا تنسَ أيضاً أنّ الحادث العنيف سلبني القدرة على رقص الدبكة والسامبا والتانغو والفالس التي أتقنتها وأحببتها.
وأعلم، أعلم أنني كنت موشكاً على الموت. وكان عزائي أنني أنجزت سربية "ملك أتلانتس" قبل الحادث بفترة وجيزة. وما عزائي بعد النجاة من الموت سوى أنني أنجزت سربية "هيرمافروديتوس"، ولأنني لا أبحث اليوم عن العزاء ولا أريده، فسيجدني ملاك الموت جاهزاً لاستقباله ولمرافقته في أي وقت يشاء. ولن يتملكني أي شيء من الأسف وأنا أغادر أُمّةً مجبولة بالجهل والتخلّف والمذلة ووطناً لم يعُد سوى مقبرة لنفايات الثقافة والصناعة المستوردة بالدَّين وبالتقسيط غير المريح. وأعتقد أنني لن أنظر إلى الوراء وأنا أغادر هذا العالم الساقط.
2) سميح القاسم إبن مرحلة الستينيات والسبعينيات لم يعد هو سميح إبن المرحلة الحالية. أنت تعرف ماذا أقصد.
* لا. لا أعرف ماذا تقصد. لكنني أعرف ماذا أقصد أنا بقولي لك إنني لم أكن إبن مرحلة الستينيات والسبعينيات ولست إبن المرحلة الحالية. والمراحل التي تتعاطونها لا تعنيني على الإطلاق لأنني كنت دائماً خارجها. كل ما في الأمر أنكم تقعون في خطأ بصريّ. التقاويم والرّزنامات والمفاهيم الشعرية والثقافية والسياسية والاجتماعية السائدة مزوّرة وملفّقة لم أحترمها أمس ولا أستطيع أن أحترمها اليوم ولا أطلب المعذرة، لأنّ "حقي" لا يسمح له كبرياؤه بمجاملة "الباطل" الغوغائي السائد.
الكتابات النقديّة السائدة الآن هي بمعظمها كتابات صحفيّة سطحية ضحلة الثقافة وغوغائية الذائقة. ومعظم "المشتغلين" بالنقد هم من فصيلة "نقاد" المئة دولار. أمِّن للواحد منهم مئة دولار في الشهر وسيسوق الأدلّة والبراهين على أنّك أعظم شاعر في العالم. وستصبح المرشح الأقوى لجائزة نوبل وغيرها شريطة أنْ تُتقن اللعبة بالسّطو على بعض التعابير والصور من الشعر الغربي وباسترضاء حكومات أمريكا وإسرائيل وسايكس-بيكو. وتستطيع أن توظّف "هموم الشعب" شريطة أن تكون قصيدتك زهرة بلاستيك ميّتة اللون والرائحة.
لا. لا يا أخي العزيز. لا تعنيني المقاييس والمراحل والمفاهيم السوقيّة الرائجة الآن..
والأمر المؤكّد لديّ هو أنّ قصيدتي كانت وما زالت وستبقى قصيدة الروح العربية والوجع العربي والتوق العربي الإنسانيّ منذ كان العربي الأول وإلى أن يرحل العربي الأخير برحيلي، وكلّ نفس ذائقة الموت، كما تعلمون أو لا تعلمون.. ومَن يدري؟ فقد أكون الفرقة الناجية عند الله
3) هل أنت راضٍ عن ارتباط اسمك حتى هذه اللحظة بشاعر المقاومة؟ شعراء اليوم ينفرون من هذه الصفة.
* أعتزُّ بارتباط إسمي حتى هذه اللحظة باسم المقاومة. ويقيناً أنّ المقاومة تعتزّ بارتباط اسمها حتى هذه اللحظة باسمي.
أما الذين ينفرون من هذه الصّفة فلم يكونوا في أيّ وقت من الأوقات شعراء مقاومة حقيقيين. كلّ ما في الأمر أنهم ركبوا موجة المقاومة وحوّلوها إلى بزنس يدرّ عليهم الأرباح المعنوية، وربما الماديّة أيضاً.
ولأنني شاعر محترف وقارئ محترف فقد أدركت دائماً أنّ للمقاومة العربية شاعراً واحداً أحداً فرداً صمداً يعتزّ بها لأنها ليست موضة وتعتزّ به لأنّه ليس "ظاهرة صوتيّة".
- ولكنّ الحياة ليست كلّها مقاومة ضد الإحتلال!
* هذا صحيح جداً. وفي أحد الكتب الصادرة عن تجربتي الشعريّة يقول ناقد، يؤسفني أنني لا أذكر إسمه الآن، إنّ قصيدتي ليست قصيدة موضوع معيّن بل هي "قصيدة حياة". وذلك بمعنى أنّ هذه القصيدة تشمل قضيّة الإحتلال لكنها لا تقتصر عليها. وفي الثمانينات صدرت مجموعتي "أُحبكِ كما يشتهي الموت"، وهي قصائد حب. ثم إنّ أعمالي المنشورة تتضمّن قسطاً كبيراً جداً من قصائد الحب والموت والوحدة والتأمّل والطبيعة والهواجس الموغلة في الذّاتية الفردية إلى جانب قصائد الذّات الجماعية. مرة أخرى، أنت على حق. فالحياة ليست كلّها مقاومة ضد الإحتلال، وفي رأيي فإنّ القصيدة التي تقتصر مع الهم السياسي ولا تتوغّل في جهات الروح والوجدان، تظلّ قاصرة في التعبير حتى عن الهمّ السياسي نفسه.
4) باستثناء إميل وسميح لم ينتج أدب عام 48 أسماءً إبداعية مرموقة تتعمّق نصوصها في المشهد الملتبس للوجود الفلسطيني في مناطق 48.
* يا ابني، سؤالك هذا صغير جداً على مقاسي. بلاد العرب كلّها عندي "مناطق 48". والعالم كلّه منطقة تجربتي الشعرية. ومصادفات المكان والزمان لا تقول لي شيئاً كثيراً.
5) ما هي الأصوات الشعرية الشابة في العالم العربي التي تتنبأ لها بمستقبل مختلف؟
* لدينا أصوات شعرية شابة كثيرة في العالم العربي. وهل بقي شيء في العالم العربي سوى الأصوات الشعرية؟
ولا تسألني عن الأسماء. لا تزجّ بي في هذه المحنة.
- أنا أقصد أنّ تعقيد الحياة الاجتماعية وتداخل الهويات والعيش المستمر مع خطر الطّمس والمعاناة من العنصريّة البغيضة، كلّ ذلك لم يُنتج فناً خالداً كما أنتجت مُجتمعات السّود في جنوب أفريقيا؟
* أزعم أنني على صلة وثيقة بأدب السّود بشكل عام وأدبهم في جنوب أفريقيا بشكل خاص. وقد ترجمت نماذج من هذا الأدب إلى العربية ولعلّ مسرحية "رابطة الدم" التي ترجمتها إلى لغتنا ورواية "إبك يا وطني الحبيب" التي قرأتها تهريباً في سجن الجلمة وكتبتُ عنها لاحقاً من أهم النماذج التي تعنيها. ومع إعجابي الشديد بأدب أشقّائنا الكتّاب والشّعراء السود في العالم وفي جنوب أفريقيا فلا أخفي عنك اعتقادي بأنّ نماذج من الفنّ الفلسطيني لا تقلّ عنها أهمية وقد تتفوّق عليها أيضاً في مجالات الشعر والرواية والفن التشكيليّ والموسيقى والغناء.
6) لم تعد العصور العربية تنتج "الشاعر الكبير" هناك شعراء كثر هنا وهناك متفاوتون في مستوياتهم، ما سبب غياب "الشاعر الكبير" الذي كانه وما زاله سميح القاسم بمعنى آخر أين "سميح القاسم المصري أو العراقي أو الموريتاني"؟
* التجارب الشعرية لا تُستنسخ ولا تتكرّر. لن يظهر عند العرب "شنفرى" آخر ولا "متنبي" آخر ولا "شوقي" آخر ولا "محمد مهدي الجواهري" آخر. لكنّ أشجار النخيل والزيتون تجدّد مواسمها وعطاءَها، كلّ شجرة بمقدار وبقضاء وقدر.
- أنا لا أتحدّث عن استنساخ سميح، أنا أتساءل عن عقم هذا الزمن العربي الذي لم يعُد قادراً على إنتاج العمالقة كُتّاباً وسياسيين وفنانين.
* ثمة هبوط عام في الإبداعيّة العربية الرّاهنة. لا جدال في ذلك. لكن علينا أن نأخذَ بالإعتبار غياب الإمكانية لوضع خطّة خمسيّة أو عشريّة لإنتاج المُبدعين. وإلى جانب الإقرار ببؤس المرحلة، فلا بدّ من التشبّث بأستار المستقبل. من يدري؟ قد يهطل مطرٌ غزير على الزّمن القاحل. وقد ينبت شيء ما يستحقّ الإنتظار..
7) هل أنت راضٍ عن مستوى التفاعل الثقافي بين أدباء 48 وأدباء العالم العربي؟
* لست راضياً عن أيّ شيء. وليس لديّ سوى الرثاء لحال الأدباء العرب المساكين في هذه الصحراء مترامية الأطراف والتي لم تعُد تعني للعالم شيئاً سوى مخزون النفط في أغوارها البائسة.
- وماذا عن نفسك؟ هل أنت راضٍ عنها؟
* لا أريد لنفسي أن تضلّلني. ولا أريد لها أن تضلّل الآخرين. قد أرضى عن شيء لديّ لكنّه لا يرضي سواي. هذه مسألة مأخوذة بالحسبان. إنما، عموماً، لا أجد مبرراً للندم الكبير. وأزعم أنني لم أفعل شيئاً يتنافى مع قناعاتي وأحلامي وهواجسي وضميري، ولم أفعل شيئاً يُغضب الله. لا. لا أدّعي لنفسي العصمة والكمال ولا بدّ من أنني أخطأت هنا وهناك، لكنني أدّعي النجاة من الخطايا والكبائر، وأزعم القدرة على الموت راضياً مرضيّاًَ قرير العين والقلب.
8) كُتبت قصائد كثيرة عن الإنتفاضة الفلسطينية من قِبل شعراء فلسطينيين وعرب لكنها لم ترسخ في وجدان العالم الإنساني كملاحم ضد الظلم في كلّ مكان. بمعنى آخر أين قصائد لوركا العربي؟
كان لوركا يعتزُّ بالدم العربي الذي يجري في عروقه، بمثل ما يعتزّ بعض الشعراء العرب بدم لوركا الذي يجري في عروق قصائدهم. ولا بأس. لله في خلقه شؤون ولله في شعره شؤون. ولا أريد لغير دمي أن يجري في عروق قصيدتي.
أمّا بشأن ما يسمّى شعر الإنتفاضة فأنت على حقّ في تساؤلك. ذلك أنّ أطنان النوايا الصادقة والمشاعر الأكيدة والحجارة والجثث لا تكفي لخلق قصيدة حقيقيّة ترقى إلى مستوى الانتفاضة.
ولعلّك تعلم أنّ قصيدتي "رسالة إلى غزاة لا يقرأون" والمشهورة باسم "تقدّموا" كانت النّزف الشعري الأول في معنى الإنتفاضة. ولم أكتبها إلاّ بعد مشاركتي في تظاهرة كُبرى في القدس تعرضت للرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع. ولم ينقذني آنذاك من الاختناق بالغاز سوى الصّراخ:
تقدّموا. تقدّموا
كلّ سماءٍ فوقكم جهنَّمٌ
وكلّ أرضٍ تحتكم جهنَّمُ
تقدّموا..
وكانت بعدها قصيدة "لا تعدّوا العشرة".. وقصائد "معجم الشهداء" وربما كانت هناك أيضاً قصيدة أو قصيدتان لكنني توقفت عن الكتابة في حالة الإنتفاضة لأنني أرفض الإجترار والإستطراد العشوائيين ولأنني أحترم الشعر وأحترم الإنتفاضة.
لعلّكم قرأتم في صحيفة "الإتحاد" الحيفاوية الرسالة المؤثرة التي وجّهها إليّ أخي الكبير الراحل نزار قباني حول الإنتفاضة وأطفال الحجارة في غمرة الإنتفاضة الأولى. وحين جمعتنا أمسية شعرية مشتركة في لندن بعد حين قال لي نزار كلاماً نشرته بعض الصحف آنذاك ولا أنسى قوله: يا أخي إنّ بعضَ زملائنا الشعراء يسيئون إلى الإنتفاضة بحجارة قصائدهم التي يقذفون بها القرّاء. أيّة جدوى شعرية في هذه المئات وربما الآلاف من القصائد التي تنشر يومياً وأسبوعياً وشهرياً وليس فيها سوى الحجارة والأطفال وجنود الإحتلال، دون شعر ودون روح ودون إبداع. إنهم والله يسيئون إلى الإنتفاضة.
9) قبل أسابيع شاركت في مهرجان الشعر العالمي في القدس جنباً إلى جنب مع شعراء إسرائيليين وأجانب. كيف يمكن الفصل بين القصيدة وبين الموقف السياسي؟ بمعنى أن هناك من يقول إنّ على الشعر الإسرائيلي أن يقول كلمته الحاسمة ضد الإحتلال قبل أن يعتبر نفسه شعراً إنسانياً؟ هل توافق؟ هل يمكن أن يوافق الشعر على الإحتلال؟
* الأهبل وحده مَن يظن أنّه يمكن الفصل بين القصيدة وبين الموقف السياسي والفكري الاجتماعي. ومعظم الشعراء الذين شاركوا في مهرجان القدس العالمي يرفضون الإحتلال ويتضامنون مع قضايا شعبنا الوطنية والإنسانية. والشاعر الذي نظّم المهرجان وأداره هو ناتان زاخ الذي وصفه إسحق شمير بأنّه "مسمّم آبار إسرائيل"، بسبب مواقفه المُعادية للإحتلال ومشاركته الفعّالة في أيّ نشاط ضد الإحتلال والعنصريّة.
ولهذا السبب فقد تجاهَلَت وسائل الإعلام الإسرائيلية هذا المهرجان ورفضت الجهات الحكوميّة والرسمية تقديم العَون المادي له الأمر الذي اضطرنا لدفع ثمن وجباتنا طيلة أيام المهرجان. ونشرت صحيفة جيروزليم بوست (21/10/2003) مقالاً ساماً ضد المهرجان جاء فيه أنّ المهرجان كان "معبأً بالشعراء المؤيدين للقوميّة العربية وفلسطين أكثر من أولئك المؤيدين لإسرائيل".
ومن المؤسف، كالعادة، أنّ بعض أدعياء الوطنية والحماس الدّيني من العرب أيضاً، هاجموا هذا المهرجان، جهلاً واعتباطاً، فالتقوا في ذلك، من حيث يدرون أو لا يدرون، بغلاة العنصريين الصهاينة والمستوطنين وصبّوا الزيت على نارهم الحاقدة، التي تريد إحراق أخضرنا قبل يابسنا!
- هل تؤيّد إذن علاقات طبيعية بين الشعراء العرب والشعراء الإسرائيليين التقدميين؟
* النقاش والحوار ضرورة وواجب ومسؤولية والتزام. أمّا التطبيع فغير وارد بالحسبان ما دام شعبنا على ما هو عليه من محنة وكرب وعذاب، وما دام الإحتلال الإسرائيلي مستمراً. نحن لسنا عنصريين لكننا نرفض رفع الرايات البيضاء أمام جحافل الظلم والطاغوت والإحتلال والإستبداد. نحن نحن أصحاب الخندق المدافع عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
10) ماذا تقول في رحيل إحسان عباس وادوارد سعيد وعزت الغزاوي ومحمد القيسي وإبراهيم أبو لغد ومروان برزق؟ ما الذي يريده الموت منا يا سميح؟
* الموت حقّ. لكنّه حقٌّ مرٌّ وموجع. بيد أننا عرب وفلسطينيون وندرك أنّ الموت أصبح واحداً من أفراد العائلة. يشاكسنا ويؤلمنا وينغّص علينا عيشتنا، لكنّه يظل واحداً من أفراد العائلة. واحداً من الأهل، وليس لنا سوى أنْ نُعايشه بمثل ما نعايش أشجارنا المقلوعة وحقولنا المجرّفة وقبور شهدائنا ومخاوفنا على أطفالنا وبيوتنا وأحبائنا.
الذين ذكرتهم إخوتي وأصدقائي ورفاقي. وها هم يحملون أوجاعهم وينضمون إلى المسيرة، مسيرة الشهداء الأحياء والأحياء الشهداء. لكنهم يرحلون ولا يرحلون، بمثل ما نبقى ولا نبقى. هذه هي سُنّة الحياة عندنا. هذه هي سنّة الموت فينا. ولا إله إلا الله!
- لماذا لم نقرأ لك قصيدة كبرى عن الموت العادي، الموت بلا سبب، كحالة وجودية غامضة بعيداً عن السبب الوطني؟
* لا أعرف شاعراً آخر في العالم تعامل مع الموت بمثل ما كان بيني وبين الموت من أخذ وعطاء. في أحد الكتب التي تناولت تجربتي الشعرية دراسة لطالبة جامعيّة في هذا الموضوع. وقد لفتت نظري تلك الطالبة إلى عناوين عدد من مجموعاتي الشعرية مثل: "الموت الكبير"، "قرآن الموت والياسمين"، "أحبك كما يشتهي الموت"، "مراثي سميح القاسم"، "إلهي ألهي لماذا قتلتني"، وسواها. ولم أقتصر في كلّ ذلك مع معاني الشهادة والشهداء، بل كان هناك موت الأب وموت الصديق وموت المنفى والغربة، أي الموت الذي تعتبره عادياً. غير أنّ الموت "غير العادي" في حياتنا هو الأكثر شيوعاً ومن هنا فهو الأكثر حضوراً في أعمالي. وقد يكون من المجدي أن أُشير إلى اهتمامي الشعري الواضح بموت الوردة والشجرة والعصفور والفراشة والنملة.. والحجر!
11) ماذا تقول للجندي الإسرا 4;يلي الذي يقف على عنق رام الله يخنق الحياة ويحاصر البراءة. وماذا تقول للجندي الدرزي الذي يقف بجانبه حائراً أو لا مبالياً؟
* ليس لديّ ما أقوله للجندي الإسرائيلي الذي يقف على عنق رام الله، لأنّه ليس لديّ أيضاً ما أقوله للطيّارين الإسرائيليين الذين تمرّدوا على قيادتهم وأعلنوا رفضهم الأوامر بقصف المدنيين الفلسطينيين. وليس لديّ ما أقوله للجندي العربي الدرزي المجنّد قسراً بقانون التّجنيد الإلزامي او للجندي العربي السّني والجندي العربي المسيحيّ المتطوعين لخدمة العلم الإسرائيلي.
لا. ليس لديّ ما أقوله لهؤلاء الجنود. لكن لديّ ما أقوله لنفسي ولك أيضاً. نحن نعيش في حقل ألغام وثمة شراك كثيرة تُنصب لشعبنا ومنها شرك العنصرية وشرك الإقليمية وشرك الطائفية. وأعتقد أنّنا مُطالَبون بالحذر، والحذر الشديد من الوقوع في هذه الشراك المُهلكة.
وإنْ كان لا بدّ لي من أن أقول شيئاً للنقيض فإنني أوجّه كلامي إلى الزعماء والقادة وأصحاب القرار مؤكّداً لهم بما لا يقبل الشك والجدل أنّ احتلالهم يتنافى مع مفاهيم الحرية والديمقراطية وشريعة حقوق الإنسان التي يتشدّقون بها، وأقول لهم إنّ جميع الضحايا، ضحايانا وضحاياهم، هم فرائس أطماعهم وعنصريتهم وشهواتهم الدمويّة الهمجيّة. وأقول لهم إنّ دماءَ جميع الضحايا في أعناقهم هم. وأقول لهم إنّهم لن يقهروا أشواقنا ولن يكسروا أعماقنا وإنّ إرادة شعبنا في الحرية والانعتاق هي من إرادة الله سبحانه وتعالى. وأقول لهم إنّهم الخاسرون في نهاية المطاف لأنّ الشمس لا تستطيع إلاّ أنْ تُشرقَ مهما تتكدّس الغيوم وتتلبّد الآفاق بالغبار والدخان والظلام.
وحتى تكونَ إجابتي كاملة وواضحة بعون الله، فبودّي التّأكيد على أنّ العرب الدروز الذين أعتزُّ بأنّهم إحدى حلقات انتمائي، يشغلون موقعاً متقدماً في صدارة الجهاد العربي لأجل الحرية والإستقلال والوحدة. ولا أريد هنا أن أسوقَ الأدلّة التاريخيّة لأنّها ماثلة وواضحة وكثيرة. ولمزيد من الوضوح فلا بأس في القول إنّ بني معروف (الدروز) كانوا أوّل مَن شكّلوا تنظيماً للكفاح المسلّح في بلادنا هو تنظيم "الكف الأخضر" في العام 1929، بقدر ما أعلم. وقدّموا المناضلين والشهداء والأسرى في ثورة 1936 وفي حرب 1948 وفي جميع حروب بلاد الشام في سبيل الحرية والانعتاق والإستقلال. أمّا دروز فلسطين فلم يزد تعدادهم في العام 1948 عن 15 ألف نسمة ولا يزيد تعدادهم اليوم عن تعداد سكان مدينة الناصرة. وحاولت حكومات إسرائيل المتعاقبة ممارسة سياسة "فرّق تسد" الموروثة عن الإستعمار البريطاني، ففرضت التجنيد الإلزامي على الأقليات الطائفية مثل الدروز والشركس وشجّعت التطوّع بين السّنة بدواً وحضراً وبين المسيحيين. ولا يعنيني من هذه المسألة سوى أنّ سياسة "فرّق تسد" فشلت في الماضي وآمل أنّها ستفشل اليوم أيضاً. فالاحتلال واحد ومصير شعبنا واحد، ولو شاء ربك لجعل الناس أُمّةً واحدةً. ولا غضاضة في تعدّدية شعبنا الدينيّة والمذهبيّة ففي كلّ طائفة ما يكفيها من المناضلين والضّالين والمُضلّلين. ويبقى علينا أن نحذر شراك التشرذم المبثوثة بيننا، وأنْ نصونَ وِحدة هذا الشعب لأنها سلاحه السّريّ وخندقه الأخير في معركة البقاء والحرية والتقدّم.
ــــــــــــــــــ
مقدمة
اجمل ما في سميح القاسم هو صبره على المستفز والخبيث من الاسئلة، فهو شاعر اشكالي لا يجد المرء صعوبة في العثور على سبب لحرب صغيرة معه
ولا يجد ايضا صعوبة في الاعتراف بمتعة محاورته ، فاجاباته طريفة وجريئة وقاسية احيانا ،سميح شاعر المقاومة كما يحب ان ينادى ماذا يقول في زمن اختفت فيه مفاهيم وتبدلت معالم ، انهارت سدود ، وقفزت اسئلة جديدة ، هنا حوار ساخن معه او اشتباك حامي الوطيس، اجري معه الاسبوع الماضي ، بعد حادث السيارة المؤلم الذي تعرض له قبل عدة اشهر حيث لزم الفراش فترة طويلة .
1) تعرّضت قبل أشهر إلى حادث سير (نحمد الله على سلامتك) نريدك أن تنظر إلى "الحادث الخطير" بعين شعرية-وجودية. ما الذي تراه؟
* أجل، لقد كان ذلك حادثاً خطيراً. علمت من الأطباء أنني كنت مؤرجحاً بين الموت والحياة طيلة تسع ساعات. لكن كلام الأطباء لم يهزّني لأنني من المؤمنين بأنه "إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" – صدق الله العظيم. ولأنني لا أريد النظر إلى نثر الحياة بعين شعرية فلا أخفي عليك أنّ القصيدة القادمة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشدّني إلى الحياة. لم تعد هذه الحياة كثيرة الجدوى ولم يبقَ فيها ما يبررها أو يبرر التشبث بها. تعلمون أنّ هاجسي الشعري تماهى مع شهوة التغيير الكبير. ولم تكن الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية في فتوتي، عمراً وشعراً، سوى هدف قريب على مرمى الوردة والحجر والتفاحة. وماذا بقي لي الآن من حلم الشباب وشغف الحياة والكفاح، سوى أنقاض جسدي وروحي ووطني وأمتي، وعاصفة العولمة الوسخة التي تدمّر رائحة الياسمين برائحة الهامبورغر ودخان السيارات الأمريكية المدنية والعسكرية؟ ولا تنسَ أيضاً أنّ الحادث العنيف سلبني القدرة على رقص الدبكة والسامبا والتانغو والفالس التي أتقنتها وأحببتها.
وأعلم، أعلم أنني كنت موشكاً على الموت. وكان عزائي أنني أنجزت سربية "ملك أتلانتس" قبل الحادث بفترة وجيزة. وما عزائي بعد النجاة من الموت سوى أنني أنجزت سربية "هيرمافروديتوس"، ولأنني لا أبحث اليوم عن العزاء ولا أريده، فسيجدني ملاك الموت جاهزاً لاستقباله ولمرافقته في أي وقت يشاء. ولن يتملكني أي شيء من الأسف وأنا أغادر أُمّةً مجبولة بالجهل والتخلّف والمذلة ووطناً لم يعُد سوى مقبرة لنفايات الثقافة والصناعة المستوردة بالدَّين وبالتقسيط غير المريح. وأعتقد أنني لن أنظر إلى الوراء وأنا أغادر هذا العالم الساقط.
2) سميح القاسم إبن مرحلة الستينيات والسبعينيات لم يعد هو سميح إبن المرحلة الحالية. أنت تعرف ماذا أقصد.
* لا. لا أعرف ماذا تقصد. لكنني أعرف ماذا أقصد أنا بقولي لك إنني لم أكن إبن مرحلة الستينيات والسبعينيات ولست إبن المرحلة الحالية. والمراحل التي تتعاطونها لا تعنيني على الإطلاق لأنني كنت دائماً خارجها. كل ما في الأمر أنكم تقعون في خطأ بصريّ. التقاويم والرّزنامات والمفاهيم الشعرية والثقافية والسياسية والاجتماعية السائدة مزوّرة وملفّقة لم أحترمها أمس ولا أستطيع أن أحترمها اليوم ولا أطلب المعذرة، لأنّ "حقي" لا يسمح له كبرياؤه بمجاملة "الباطل" الغوغائي السائد.
الكتابات النقديّة السائدة الآن هي بمعظمها كتابات صحفيّة سطحية ضحلة الثقافة وغوغائية الذائقة. ومعظم "المشتغلين" بالنقد هم من فصيلة "نقاد" المئة دولار. أمِّن للواحد منهم مئة دولار في الشهر وسيسوق الأدلّة والبراهين على أنّك أعظم شاعر في العالم. وستصبح المرشح الأقوى لجائزة نوبل وغيرها شريطة أنْ تُتقن اللعبة بالسّطو على بعض التعابير والصور من الشعر الغربي وباسترضاء حكومات أمريكا وإسرائيل وسايكس-بيكو. وتستطيع أن توظّف "هموم الشعب" شريطة أن تكون قصيدتك زهرة بلاستيك ميّتة اللون والرائحة.
لا. لا يا أخي العزيز. لا تعنيني المقاييس والمراحل والمفاهيم السوقيّة الرائجة الآن..
والأمر المؤكّد لديّ هو أنّ قصيدتي كانت وما زالت وستبقى قصيدة الروح العربية والوجع العربي والتوق العربي الإنسانيّ منذ كان العربي الأول وإلى أن يرحل العربي الأخير برحيلي، وكلّ نفس ذائقة الموت، كما تعلمون أو لا تعلمون.. ومَن يدري؟ فقد أكون الفرقة الناجية عند الله
3) هل أنت راضٍ عن ارتباط اسمك حتى هذه اللحظة بشاعر المقاومة؟ شعراء اليوم ينفرون من هذه الصفة.
* أعتزُّ بارتباط إسمي حتى هذه اللحظة باسم المقاومة. ويقيناً أنّ المقاومة تعتزّ بارتباط اسمها حتى هذه اللحظة باسمي.
أما الذين ينفرون من هذه الصّفة فلم يكونوا في أيّ وقت من الأوقات شعراء مقاومة حقيقيين. كلّ ما في الأمر أنهم ركبوا موجة المقاومة وحوّلوها إلى بزنس يدرّ عليهم الأرباح المعنوية، وربما الماديّة أيضاً.
ولأنني شاعر محترف وقارئ محترف فقد أدركت دائماً أنّ للمقاومة العربية شاعراً واحداً أحداً فرداً صمداً يعتزّ بها لأنها ليست موضة وتعتزّ به لأنّه ليس "ظاهرة صوتيّة".
- ولكنّ الحياة ليست كلّها مقاومة ضد الإحتلال!
* هذا صحيح جداً. وفي أحد الكتب الصادرة عن تجربتي الشعريّة يقول ناقد، يؤسفني أنني لا أذكر إسمه الآن، إنّ قصيدتي ليست قصيدة موضوع معيّن بل هي "قصيدة حياة". وذلك بمعنى أنّ هذه القصيدة تشمل قضيّة الإحتلال لكنها لا تقتصر عليها. وفي الثمانينات صدرت مجموعتي "أُحبكِ كما يشتهي الموت"، وهي قصائد حب. ثم إنّ أعمالي المنشورة تتضمّن قسطاً كبيراً جداً من قصائد الحب والموت والوحدة والتأمّل والطبيعة والهواجس الموغلة في الذّاتية الفردية إلى جانب قصائد الذّات الجماعية. مرة أخرى، أنت على حق. فالحياة ليست كلّها مقاومة ضد الإحتلال، وفي رأيي فإنّ القصيدة التي تقتصر مع الهم السياسي ولا تتوغّل في جهات الروح والوجدان، تظلّ قاصرة في التعبير حتى عن الهمّ السياسي نفسه.
4) باستثناء إميل وسميح لم ينتج أدب عام 48 أسماءً إبداعية مرموقة تتعمّق نصوصها في المشهد الملتبس للوجود الفلسطيني في مناطق 48.
* يا ابني، سؤالك هذا صغير جداً على مقاسي. بلاد العرب كلّها عندي "مناطق 48". والعالم كلّه منطقة تجربتي الشعرية. ومصادفات المكان والزمان لا تقول لي شيئاً كثيراً.
5) ما هي الأصوات الشعرية الشابة في العالم العربي التي تتنبأ لها بمستقبل مختلف؟
* لدينا أصوات شعرية شابة كثيرة في العالم العربي. وهل بقي شيء في العالم العربي سوى الأصوات الشعرية؟
ولا تسألني عن الأسماء. لا تزجّ بي في هذه المحنة.
- أنا أقصد أنّ تعقيد الحياة الاجتماعية وتداخل الهويات والعيش المستمر مع خطر الطّمس والمعاناة من العنصريّة البغيضة، كلّ ذلك لم يُنتج فناً خالداً كما أنتجت مُجتمعات السّود في جنوب أفريقيا؟
* أزعم أنني على صلة وثيقة بأدب السّود بشكل عام وأدبهم في جنوب أفريقيا بشكل خاص. وقد ترجمت نماذج من هذا الأدب إلى العربية ولعلّ مسرحية "رابطة الدم" التي ترجمتها إلى لغتنا ورواية "إبك يا وطني الحبيب" التي قرأتها تهريباً في سجن الجلمة وكتبتُ عنها لاحقاً من أهم النماذج التي تعنيها. ومع إعجابي الشديد بأدب أشقّائنا الكتّاب والشّعراء السود في العالم وفي جنوب أفريقيا فلا أخفي عنك اعتقادي بأنّ نماذج من الفنّ الفلسطيني لا تقلّ عنها أهمية وقد تتفوّق عليها أيضاً في مجالات الشعر والرواية والفن التشكيليّ والموسيقى والغناء.
6) لم تعد العصور العربية تنتج "الشاعر الكبير" هناك شعراء كثر هنا وهناك متفاوتون في مستوياتهم، ما سبب غياب "الشاعر الكبير" الذي كانه وما زاله سميح القاسم بمعنى آخر أين "سميح القاسم المصري أو العراقي أو الموريتاني"؟
* التجارب الشعرية لا تُستنسخ ولا تتكرّر. لن يظهر عند العرب "شنفرى" آخر ولا "متنبي" آخر ولا "شوقي" آخر ولا "محمد مهدي الجواهري" آخر. لكنّ أشجار النخيل والزيتون تجدّد مواسمها وعطاءَها، كلّ شجرة بمقدار وبقضاء وقدر.
- أنا لا أتحدّث عن استنساخ سميح، أنا أتساءل عن عقم هذا الزمن العربي الذي لم يعُد قادراً على إنتاج العمالقة كُتّاباً وسياسيين وفنانين.
* ثمة هبوط عام في الإبداعيّة العربية الرّاهنة. لا جدال في ذلك. لكن علينا أن نأخذَ بالإعتبار غياب الإمكانية لوضع خطّة خمسيّة أو عشريّة لإنتاج المُبدعين. وإلى جانب الإقرار ببؤس المرحلة، فلا بدّ من التشبّث بأستار المستقبل. من يدري؟ قد يهطل مطرٌ غزير على الزّمن القاحل. وقد ينبت شيء ما يستحقّ الإنتظار..
7) هل أنت راضٍ عن مستوى التفاعل الثقافي بين أدباء 48 وأدباء العالم العربي؟
* لست راضياً عن أيّ شيء. وليس لديّ سوى الرثاء لحال الأدباء العرب المساكين في هذه الصحراء مترامية الأطراف والتي لم تعُد تعني للعالم شيئاً سوى مخزون النفط في أغوارها البائسة.
- وماذا عن نفسك؟ هل أنت راضٍ عنها؟
* لا أريد لنفسي أن تضلّلني. ولا أريد لها أن تضلّل الآخرين. قد أرضى عن شيء لديّ لكنّه لا يرضي سواي. هذه مسألة مأخوذة بالحسبان. إنما، عموماً، لا أجد مبرراً للندم الكبير. وأزعم أنني لم أفعل شيئاً يتنافى مع قناعاتي وأحلامي وهواجسي وضميري، ولم أفعل شيئاً يُغضب الله. لا. لا أدّعي لنفسي العصمة والكمال ولا بدّ من أنني أخطأت هنا وهناك، لكنني أدّعي النجاة من الخطايا والكبائر، وأزعم القدرة على الموت راضياً مرضيّاًَ قرير العين والقلب.
8) كُتبت قصائد كثيرة عن الإنتفاضة الفلسطينية من قِبل شعراء فلسطينيين وعرب لكنها لم ترسخ في وجدان العالم الإنساني كملاحم ضد الظلم في كلّ مكان. بمعنى آخر أين قصائد لوركا العربي؟
كان لوركا يعتزُّ بالدم العربي الذي يجري في عروقه، بمثل ما يعتزّ بعض الشعراء العرب بدم لوركا الذي يجري في عروق قصائدهم. ولا بأس. لله في خلقه شؤون ولله في شعره شؤون. ولا أريد لغير دمي أن يجري في عروق قصيدتي.
أمّا بشأن ما يسمّى شعر الإنتفاضة فأنت على حقّ في تساؤلك. ذلك أنّ أطنان النوايا الصادقة والمشاعر الأكيدة والحجارة والجثث لا تكفي لخلق قصيدة حقيقيّة ترقى إلى مستوى الانتفاضة.
ولعلّك تعلم أنّ قصيدتي "رسالة إلى غزاة لا يقرأون" والمشهورة باسم "تقدّموا" كانت النّزف الشعري الأول في معنى الإنتفاضة. ولم أكتبها إلاّ بعد مشاركتي في تظاهرة كُبرى في القدس تعرضت للرصاص المطاطي وقنابل الغاز المسيل للدموع. ولم ينقذني آنذاك من الاختناق بالغاز سوى الصّراخ:
تقدّموا. تقدّموا
كلّ سماءٍ فوقكم جهنَّمٌ
وكلّ أرضٍ تحتكم جهنَّمُ
تقدّموا..
وكانت بعدها قصيدة "لا تعدّوا العشرة".. وقصائد "معجم الشهداء" وربما كانت هناك أيضاً قصيدة أو قصيدتان لكنني توقفت عن الكتابة في حالة الإنتفاضة لأنني أرفض الإجترار والإستطراد العشوائيين ولأنني أحترم الشعر وأحترم الإنتفاضة.
لعلّكم قرأتم في صحيفة "الإتحاد" الحيفاوية الرسالة المؤثرة التي وجّهها إليّ أخي الكبير الراحل نزار قباني حول الإنتفاضة وأطفال الحجارة في غمرة الإنتفاضة الأولى. وحين جمعتنا أمسية شعرية مشتركة في لندن بعد حين قال لي نزار كلاماً نشرته بعض الصحف آنذاك ولا أنسى قوله: يا أخي إنّ بعضَ زملائنا الشعراء يسيئون إلى الإنتفاضة بحجارة قصائدهم التي يقذفون بها القرّاء. أيّة جدوى شعرية في هذه المئات وربما الآلاف من القصائد التي تنشر يومياً وأسبوعياً وشهرياً وليس فيها سوى الحجارة والأطفال وجنود الإحتلال، دون شعر ودون روح ودون إبداع. إنهم والله يسيئون إلى الإنتفاضة.
9) قبل أسابيع شاركت في مهرجان الشعر العالمي في القدس جنباً إلى جنب مع شعراء إسرائيليين وأجانب. كيف يمكن الفصل بين القصيدة وبين الموقف السياسي؟ بمعنى أن هناك من يقول إنّ على الشعر الإسرائيلي أن يقول كلمته الحاسمة ضد الإحتلال قبل أن يعتبر نفسه شعراً إنسانياً؟ هل توافق؟ هل يمكن أن يوافق الشعر على الإحتلال؟
* الأهبل وحده مَن يظن أنّه يمكن الفصل بين القصيدة وبين الموقف السياسي والفكري الاجتماعي. ومعظم الشعراء الذين شاركوا في مهرجان القدس العالمي يرفضون الإحتلال ويتضامنون مع قضايا شعبنا الوطنية والإنسانية. والشاعر الذي نظّم المهرجان وأداره هو ناتان زاخ الذي وصفه إسحق شمير بأنّه "مسمّم آبار إسرائيل"، بسبب مواقفه المُعادية للإحتلال ومشاركته الفعّالة في أيّ نشاط ضد الإحتلال والعنصريّة.
ولهذا السبب فقد تجاهَلَت وسائل الإعلام الإسرائيلية هذا المهرجان ورفضت الجهات الحكوميّة والرسمية تقديم العَون المادي له الأمر الذي اضطرنا لدفع ثمن وجباتنا طيلة أيام المهرجان. ونشرت صحيفة جيروزليم بوست (21/10/2003) مقالاً ساماً ضد المهرجان جاء فيه أنّ المهرجان كان "معبأً بالشعراء المؤيدين للقوميّة العربية وفلسطين أكثر من أولئك المؤيدين لإسرائيل".
ومن المؤسف، كالعادة، أنّ بعض أدعياء الوطنية والحماس الدّيني من العرب أيضاً، هاجموا هذا المهرجان، جهلاً واعتباطاً، فالتقوا في ذلك، من حيث يدرون أو لا يدرون، بغلاة العنصريين الصهاينة والمستوطنين وصبّوا الزيت على نارهم الحاقدة، التي تريد إحراق أخضرنا قبل يابسنا!
- هل تؤيّد إذن علاقات طبيعية بين الشعراء العرب والشعراء الإسرائيليين التقدميين؟
* النقاش والحوار ضرورة وواجب ومسؤولية والتزام. أمّا التطبيع فغير وارد بالحسبان ما دام شعبنا على ما هو عليه من محنة وكرب وعذاب، وما دام الإحتلال الإسرائيلي مستمراً. نحن لسنا عنصريين لكننا نرفض رفع الرايات البيضاء أمام جحافل الظلم والطاغوت والإحتلال والإستبداد. نحن نحن أصحاب الخندق المدافع عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.
10) ماذا تقول في رحيل إحسان عباس وادوارد سعيد وعزت الغزاوي ومحمد القيسي وإبراهيم أبو لغد ومروان برزق؟ ما الذي يريده الموت منا يا سميح؟
* الموت حقّ. لكنّه حقٌّ مرٌّ وموجع. بيد أننا عرب وفلسطينيون وندرك أنّ الموت أصبح واحداً من أفراد العائلة. يشاكسنا ويؤلمنا وينغّص علينا عيشتنا، لكنّه يظل واحداً من أفراد العائلة. واحداً من الأهل، وليس لنا سوى أنْ نُعايشه بمثل ما نعايش أشجارنا المقلوعة وحقولنا المجرّفة وقبور شهدائنا ومخاوفنا على أطفالنا وبيوتنا وأحبائنا.
الذين ذكرتهم إخوتي وأصدقائي ورفاقي. وها هم يحملون أوجاعهم وينضمون إلى المسيرة، مسيرة الشهداء الأحياء والأحياء الشهداء. لكنهم يرحلون ولا يرحلون، بمثل ما نبقى ولا نبقى. هذه هي سُنّة الحياة عندنا. هذه هي سنّة الموت فينا. ولا إله إلا الله!
- لماذا لم نقرأ لك قصيدة كبرى عن الموت العادي، الموت بلا سبب، كحالة وجودية غامضة بعيداً عن السبب الوطني؟
* لا أعرف شاعراً آخر في العالم تعامل مع الموت بمثل ما كان بيني وبين الموت من أخذ وعطاء. في أحد الكتب التي تناولت تجربتي الشعرية دراسة لطالبة جامعيّة في هذا الموضوع. وقد لفتت نظري تلك الطالبة إلى عناوين عدد من مجموعاتي الشعرية مثل: "الموت الكبير"، "قرآن الموت والياسمين"، "أحبك كما يشتهي الموت"، "مراثي سميح القاسم"، "إلهي ألهي لماذا قتلتني"، وسواها. ولم أقتصر في كلّ ذلك مع معاني الشهادة والشهداء، بل كان هناك موت الأب وموت الصديق وموت المنفى والغربة، أي الموت الذي تعتبره عادياً. غير أنّ الموت "غير العادي" في حياتنا هو الأكثر شيوعاً ومن هنا فهو الأكثر حضوراً في أعمالي. وقد يكون من المجدي أن أُشير إلى اهتمامي الشعري الواضح بموت الوردة والشجرة والعصفور والفراشة والنملة.. والحجر!
11) ماذا تقول للجندي الإسرا 4;يلي الذي يقف على عنق رام الله يخنق الحياة ويحاصر البراءة. وماذا تقول للجندي الدرزي الذي يقف بجانبه حائراً أو لا مبالياً؟
* ليس لديّ ما أقوله للجندي الإسرائيلي الذي يقف على عنق رام الله، لأنّه ليس لديّ أيضاً ما أقوله للطيّارين الإسرائيليين الذين تمرّدوا على قيادتهم وأعلنوا رفضهم الأوامر بقصف المدنيين الفلسطينيين. وليس لديّ ما أقوله للجندي العربي الدرزي المجنّد قسراً بقانون التّجنيد الإلزامي او للجندي العربي السّني والجندي العربي المسيحيّ المتطوعين لخدمة العلم الإسرائيلي.
لا. ليس لديّ ما أقوله لهؤلاء الجنود. لكن لديّ ما أقوله لنفسي ولك أيضاً. نحن نعيش في حقل ألغام وثمة شراك كثيرة تُنصب لشعبنا ومنها شرك العنصرية وشرك الإقليمية وشرك الطائفية. وأعتقد أنّنا مُطالَبون بالحذر، والحذر الشديد من الوقوع في هذه الشراك المُهلكة.
وإنْ كان لا بدّ لي من أن أقول شيئاً للنقيض فإنني أوجّه كلامي إلى الزعماء والقادة وأصحاب القرار مؤكّداً لهم بما لا يقبل الشك والجدل أنّ احتلالهم يتنافى مع مفاهيم الحرية والديمقراطية وشريعة حقوق الإنسان التي يتشدّقون بها، وأقول لهم إنّ جميع الضحايا، ضحايانا وضحاياهم، هم فرائس أطماعهم وعنصريتهم وشهواتهم الدمويّة الهمجيّة. وأقول لهم إنّ دماءَ جميع الضحايا في أعناقهم هم. وأقول لهم إنّهم لن يقهروا أشواقنا ولن يكسروا أعماقنا وإنّ إرادة شعبنا في الحرية والانعتاق هي من إرادة الله سبحانه وتعالى. وأقول لهم إنّهم الخاسرون في نهاية المطاف لأنّ الشمس لا تستطيع إلاّ أنْ تُشرقَ مهما تتكدّس الغيوم وتتلبّد الآفاق بالغبار والدخان والظلام.
وحتى تكونَ إجابتي كاملة وواضحة بعون الله، فبودّي التّأكيد على أنّ العرب الدروز الذين أعتزُّ بأنّهم إحدى حلقات انتمائي، يشغلون موقعاً متقدماً في صدارة الجهاد العربي لأجل الحرية والإستقلال والوحدة. ولا أريد هنا أن أسوقَ الأدلّة التاريخيّة لأنّها ماثلة وواضحة وكثيرة. ولمزيد من الوضوح فلا بأس في القول إنّ بني معروف (الدروز) كانوا أوّل مَن شكّلوا تنظيماً للكفاح المسلّح في بلادنا هو تنظيم "الكف الأخضر" في العام 1929، بقدر ما أعلم. وقدّموا المناضلين والشهداء والأسرى في ثورة 1936 وفي حرب 1948 وفي جميع حروب بلاد الشام في سبيل الحرية والانعتاق والإستقلال. أمّا دروز فلسطين فلم يزد تعدادهم في العام 1948 عن 15 ألف نسمة ولا يزيد تعدادهم اليوم عن تعداد سكان مدينة الناصرة. وحاولت حكومات إسرائيل المتعاقبة ممارسة سياسة "فرّق تسد" الموروثة عن الإستعمار البريطاني، ففرضت التجنيد الإلزامي على الأقليات الطائفية مثل الدروز والشركس وشجّعت التطوّع بين السّنة بدواً وحضراً وبين المسيحيين. ولا يعنيني من هذه المسألة سوى أنّ سياسة "فرّق تسد" فشلت في الماضي وآمل أنّها ستفشل اليوم أيضاً. فالاحتلال واحد ومصير شعبنا واحد، ولو شاء ربك لجعل الناس أُمّةً واحدةً. ولا غضاضة في تعدّدية شعبنا الدينيّة والمذهبيّة ففي كلّ طائفة ما يكفيها من المناضلين والضّالين والمُضلّلين. ويبقى علينا أن نحذر شراك التشرذم المبثوثة بيننا، وأنْ نصونَ وِحدة هذا الشعب لأنها سلاحه السّريّ وخندقه الأخير في معركة البقاء والحرية والتقدّم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق