ايها المثقف العربي رساما كنت ام روائيا ام نحاتا ام شاعرا ام راقصا ام مسرحيا ام الخخخ، كم ارثي لحالك! فأنت بكل احساسك بالعظمة والاختلاف، عاجز تماما عن تقديم مساعدة مباشرة لجرحى وشهداء ومشردي لبنان والعراق وفلسطين، في الوقت نفسه انت غير قادر على السكوت، انت الذي اوهمت نفسك ان للكلمات تأثير مطر شرس على ارض رملية رجراجة وجبانة، فما العمل؟؟ انت تعرف ان دورك الحقيقي ككاتب او فنان هو حراسة الحلم وحفظ نبض المرحلة، وتخزين روحها في وعيك، تمهيدا لكتابة قادمة قد تطول، لكنك تعرف ايضا انك لا تستطيع السكوت والتفرج على لحم اطفال امتك المحروق، مسكين ايها المثقف العربي، اني ارثي لحالك، فأنت تجلس امام الفضائيات وتبكي بصمت او علانية والصفحات الثقافية في معظم المجلات والصحف العربية الالكترونية والورقية تتبارى هذه الايام في استقطاب الكتاب والشعراء والفنانين للكتابة عن احساسهم ومواقفهم تجاه هذه الحرب المجنونة، ان سوق الكتابة الحزينة والباكية رائج الان في بلادنا، و حين تنهض ايها المثقف الشفاف كالاسد لتكتب عن احساسك تلبية لطلب محرر ثقافي في جريدة عربية او موقع، تفاجأ بنفسك تتوقف و تقول: ماذا تفيد الكلمات للحم المحروق؟؟ لكنك حتى تحافظ على وهم قوتك واختلافك تواصل الكتابة السخيفة ا لتي بدأتها كالعادة تماما كما يبدؤها الكل: < الكلمات عاجزة عن تصوير ما يحدث وعن مقاومة ما يصير > في لحظة غريبة الاطوار نهضت من جلستي مع اصدقاء منفعلين ورحت انبش في ارشيف الصحف والمواقع الاكترونية عن كتابات الادباء العرب اثناء الحروب والمعارك العربية مع اسرائيل، فوجدت انها تبدأ دائما بهذه الجملة: الكلمات عاجزة عن التعبير، اذا كانت الكلمات عاجزة فلم تواصل الكتابة،؟ ساقترح حلا، رغم اني افشل اسوأ مقترح للحلول:، اقنع نفسك انك محض مواطن واخلع عن كتفك عباءة الكلام السحري، حطم جهاز التلفاز في غرفتك الانيقة، واذهب متطوعا من فورك الى الحدود السورية اللبنانية لتمسك يد نازحة عجوز لبنانية او لتربت على كتف امراة تبكي بجنون لفقد ابنها او زوجها او تقدم وجبة ساخنة لطفل لم ينم منذ ثلاث ليال، تماما كما فعل سمير الشاب الاردني العادي الذي يعمل حلاقا ولم يكتب كلمة ادب في حياته ولم يقرأ رواية منذ عشر سنين مع صديقته الاردنية الطالبة في الجامعة، والتي تكره الشعر وتحب الرقص و السباحة، قال سمير للجزيرة: انا هنا مع هيام منذ بداية الحرب، فكرنا في الموضوع فبدلا من البقاء امام التلفاز نبكي ونتحسر ونهدد، قررنا التطوع لمساعدة النازحين، اذا لم تستطع يا عزيزي المثقف العربي ان تكون مواطنا عاديا و تذهب الى الحدود السورية اللبنانية، باعتبار ان المواطن العادي على الاقل خال من الاوهام ويتعامل مع الامر ببراءة وواقعية مفيدة، فماذا ستفعل؟؟ هل ستبقى تتفرج على لحم امتك المشوي وتبكي مع اطفالك، ارحم حالك يا صديقي، وغب عن الوعي، ما دمت لا تستطيع ان تعيش هذه الايام دون عمل شيء مفيد، فلا انت قادر على كتابة سريعة مفيدة فائدة مباشرة، ولا انت قادر على السكوت، الغياب عن الوعي له اشكال عدة، لا ادري ما هي، لكني متاكد انك بمخيتلك الفظيعة وروحك الواسعة المتقدة، ستصل الى ابتكار احدى هذه الاشكال، ايها المثقف العربي: افعل اي شيء يفيد فائدة حقيقة بعيدا عن الكلمات النادبة والمحرضة والمقهورة والبلاغية الرنانة، او غب عن وعيك حتى تنتهي الحرب، وهنا اجد في داخلي من يصيح: كيف تطلب من المثقف ان يحرس الذاكرة ويروي عن النبض الحي ويحكي عن الروح في الامة، وهو غائب عن الوعي اثناء احتدام المعركة؟؟ اسمع نفسي اجيب لنفسي: الغياب عن الوعي لا يعني الغياب عن روح ما يحدث، هناك منطقة بالتأكيد هي متعبة ومؤلمة تقع بين مراقبة ما يحدث ببدائية مواطن عادي وصفاء عقل متواضع، والاصغاء لما يمور تحت ركام بيوت و عمارات ارواحنا المهدمة وبين الغياب التام عن فكره كونه مثقفا وعن احلام القوة والجبروت والتغيير الفوري بالكلمات، طالما واصل المثقف العربي الاحساس بأنه مثقف بينما هو يتفرج منفعلا ومكسورا على الفضائيات فسيدفع من دمه واعصابه وروحه وقلبه وكرامته ما سيذهب به الى مهاوي الجنون او المرض. ليس استعلاء ما اقول ولا هو تسفيها لدور المثقف واعلاء للعمل على الفكر كما قالت لي الصديقة عادلة هنية، انني اتهم نفسي قبل اتهام الاخرين، فأنا لست الا واحدا من هؤلاء الواهمين والجالسين بغباء شديد امام الفضائيات يقلبون المحطات بحثا عن مزيد من الموت المهين والتنهدات والتساؤلات الحمقاء والاطفال المحروقين والمعتقدين بسحرية حل الكلمات، والصور والروايات والتخيلات. لكني احاول ان اقترح ممرا علنيا للهروب من حالة المرض والألم والرعب والعجز التي يعيشها المثقف الذي يرى الجثث المحروقة ولا يستطيع ان يفعل شيء. الا اذا استطاع ان يحمل السلاح ويذهب الى الحرب او الى الحدود حيث المهجرين والجائعين ليساهم بالربت على الاكتف المتعبة، وتقديم الطعام وايواء المشردين، دون ان يحمل معه كتابا او مقالا او حتى صحيفة، ودون ان يقول لزملائه المتطوعين مفاخرا: انا الكاتب او الشاعر او الروائي فلان الفلاني. هل يستطيع المثقف العربي ان يفعل ذلك؟؟ وهل استطيع انا؟؟.
ايها المثقف العربي.. في وقت الحرب كن مواطنا فقط!
بقلم
زياد خداش
في الأحد، 25 أكتوبر 2009
التسميات:
قصص و نصوص و تأملات
0 التعليقات:
إرسال تعليق