حنين و جبل

على جبل عالٍ جداً وجدنا أنفسنا قريبين جداً من الغيوم، ست مدرسين وسبعون طالباً متفوقاً من مدرستنا، كان من الـمقرر أن تكون الرحلة إلى أريحا، لكن السائق الـمقدسي بحافلته التي تحمل لوحة صفراء صرخ في وجوهنا محبّةً: سآخذكم إلى البحر إلى عين جدي، فتجمّد الدم في عروقي ذهولاً من الفكرة، هل يتجمد الدم في العروق ذهولاً؟؟ نعم، فأن أزورَ عين جدي التي تحتفظ لي في أغصان أشجارها وسعف نخيلها وبوصها بأكثر من شهقة أو رقصة أو عتاب أو غضب أو فرح أو صدمة لأكثر من امرأة، فهذا أمر مذهل ولا أعرف كيف سأتصرف تجاهه، هل أحزن أم أفرح أم أحزن وأفرح معاً؟ هل أخاف؟ هل أبكي؟. "أستاز، اطلع هناك في إشي أزرق اكبير واسع"، قطع تلـميذ يجلس بجانبي حبل أفكاري بصرخته التي هزت فضائي، نظرت حيث يشير فإذا بالوحش الحبيب يجلس بحنكته الوجودية الزرقاء كعادته صابراً وملوّحاً بحب لكل ناظر. "أستاز، نفسي ألـمس البحر، عمري ما لـمسته في حياتي"، "أستاز، انت بتعرف تسبح؟ أنا بخاف". "أستاز، يلا ننزل على البحر إحنا وين رايحين؟" "أستاز، البحر شكله ما بخلص يا الله ما أطوله". "أستاز سيدي حكالي إنه كان زمان يسبح في بحر يافا، وستي كانت اتخاف واضلّها قاعدة على الشط، وين يافا أستاز؟ يلا انروح عليها". كانوا يصرخون حولي بينما كنت أنا أتذكر، فقط أتذكر. قبل النزول للبحر، اقترح أحد الـمعلمين أن نصعد إلى جبل قريب يدعى محمية عين جدي، صعدنا مشياً، سمعت أصواتاً هامسة: "أستاز، احنا جايين نمشي؟! يا الله، نفسي الـمس البحر خلينا انروح نلـمسه". ساعات من الصعود الـمتقطع، طلاب الـمدارس اليهود يمرون عنا أو نمر عنهم، نظرات خائفة وتشكيك ومخيلات مزروعة بالقنابل والـموت، قلت لنفسي: كان يمكن أن تكون الرحلات مشتركة بيننا وبينهم لو أنهم فقط يعترفون أن الشمس تشرق كل يوم. نواصل الصعود ونحن الـمدرسين نجر أجسادنا القديمة لاهثين خلف التلاميذ الخفيفين، وأخيراً نصل إلى قمة الجبل بعد أن سبقنا التلاميذ ركضاً إلى هناك، غير مدركين ما ينتظرنا من مفاجآت، وفجأة أدركنا متأخرين أننا وقعنا في مصيدة جبل عال بلا إمكانية للعودة منه إلى البحر إلا عبر طريق الصعود نفسها، وطريق الصعود مخيفة، فقد تنزلق أجساد التلاميذ والـمدرسين وتهوي إلى قاع الوادي، جلسنا على القمة الواسعة والطيور الغريبة تحلّق خلفنا، كان الـمدير مرتعباً أما التلاميذ فكانوا يضحكون فرحين، الـمدرسون كانوا مشغولين بالتقاط أنفاسهم، ولـم يقرروا بعد الهلع أو الذهول.
"أستاز، يلا نرقص رقصة الخوف من الجبل"، نهر الـمدير الطالب الـمجنون: "إحنا في إيش وإنت في إيش". وأمام ذهول الـمدير والـمدرسين أشرت لأصدقائي في نادي أصدقاء الجسد للاستعداد، أشعلت الـموسيقى من هاتفي الخلوي انتحينا جانباً، ورحنا نرقص خوفنا وحنيننا إلى الوادي، إلى البحر، إلى البيوت. الـمدير ضحك، الطلاب الآخرون كانوا يصفقون، الـمدرسون كانوا محتارين. "أستاز، يلا ننزل على البحر، نفسي ألـمسه يلا مشان الله".

0 التعليقات:

إرسال تعليق