تماما في القدس، بالضبط مع محمود درويش

يوم الجمعة الماضي كنت في القدس، قرأت في الجريدة أن الاختلال عفواً أقصد الاحتلال قد سمح لمن هم فوق الأربعين بدخول القدس للصلاة ، لأول مرة منذ بلغت الأربعين أجد نفسي أؤكد لشخص ما هو المجندة الإسرائيلية السمراء على حاجز اللطرون بأني رجل كهل ولا أشكل خطراً على إسرائيل ، تجيبني المجندة حاملة رسالة الألم لمن هو غير يهودي : أنت عمرك واخد وأربعين يس بعد أربع سنين تعال هون أدخل القدس. بطريقة ما استطعت مغافلة المجندة وهي تغني بالعبرية، واندسست بين الشيوخ والنساء ، أنا الآن في القدس ، أمامي آلاف الرجال والنساء الزاحفين إلى صلاتهم وخوفهم من يوم تصفية الحسابات ، إلى أين أنا ذاهب ؟اليس لي موعد مع صلاة ما؟؟ مع حساب ما؟ هل اللقاء مع ذكريات ونوع من أنواع الصلاة؟؟ سألت نفسي بينما أحاول أن أتفكك من نهر الكتل البشرية المتراصة على مداخل القدس القديمة، تذمر محمود درويش الذي رافقته في هذه الرحلة من إعداد الجنود الإسرائيليين المنتشرين على مداخل القدس ومنحنياتها وأزقتها، سمعته يقول: " ويوقظنا وجع في المفاصل من نومنا أو بعوض يطن كأستاذ فلسفة". ابتسم أنا ونمضي معاً شاقين الضجيج السميك بعصي أنفاسنا الصلبة. أسأل محمود أثناء مشينا" رافعاً صوتي ليتخلص من مشنقة الأصوات العالية في الأزقة الضيقة: محمود من أنت؟ يجيب: أنا هو حوذي نفسي ولا خيل تصهل في لغتي " ماذا تقول في هذا الخريف الصيفي الذي يمشي معنا يا صديقي؟ أليس هذا نفاقاً أو تزورًا أو رخاوة مستهجنة أو تشوشاً غريبًا بين حدود الفصول؟.
يجيب محمود:" صيف الخريف تلفت الأيام صوب حديقة خضراء لم تنضج فواكهها وصوب حكاية لم تكتمل : ما زال فينا نورسان نورسان يحلقان من البعيد الى البعيد " في مقهى دافئ مختبئ في إبطي فندق صغير جلست مع محمود، شربنا الاسبرسو ، تصفحنا جريدة كل العرب الناصرية، ضحكنا ونحن نسمع على الرصيف المقابل عراك المتسولين على شبان ماكرين وكسالى وفقراء ومتمردين.انتشينا من الضحكات التمرية والنمرية للسيدات الاربعينيات في الطابق الثاني من المقهى. فجأة سمعت محمود ينشد كمقهى صغير على شارع الغرباء هو الحب يفتح ابوابه للجميع ، كمقهى يزيد وينقص وفق المناخ، اذا هطل المطر ازداد رواده، واذا اعتدل الجو قلوا وملوا.." تعالت الضحكات في الاعلى سقطت فوقنا سماوات هائلة وكثيفة من زهر اللوز ، رقص الفندق القريب. أن اكون في القدس فجأة، انا الذي ترعرعت وجدانياً هنا، انا الذي اكتشفت حاسة اللمس هنا ، فهذا في حد ذاته سبب كاف لنوبة بكاء خفيفة او رقصات صوفية دائرية او صرخات هستيرية أو نصوص مركبة ، فأنا لا اذكر اني زرت القدس ولم ابك ،او ارقص او اكتب او اقع في حب بنت ما. عشرسنوات لم ازر فيها القدس، عشرسنوات وانا انتظر ان اصل الاربعين من عمري لاقنع السمراء الملفعة بالحديد والنار والمزنرة باغنيات الدود و الطحلب والصدأ بأني هادئ وبريء ولا اسيء لاحد. بعد نصف ساعة سأكون على موعد مع بكاء صغير، فبينما كنت اهم بصعود الباص اغمي على عجوز تسعينية طاعنة في قناعتها بقرب لقائها مع الله ،ابن العجوز واسمه صالح صرخ بقوة : امي ارجوك لا تموتي الآن ، الابنة الخمسينية صرخت في وجه امها : انهضي يا امي لقد اخفت صالح ، هل يهون عليك صالح انهضي ارجوك ، فتتحرك التجاعيد وتصحو ، وتهمس التسعينية : انا بخير لا تخف يا صالح ، تغالب العجوز سقوطها وتعتدل في جلستها فيما يشبه رشوة حارس قاعة غامضة و محرمة على الناس العاديين ، التسعينية خاضت حربا ضخمة مع الموت ، وقد اجبرته على التراجع لسبب واحد : حتى لا يخاف صالح عليها ، هل اشفق الموت عليها واعطاها فرصة اخيرة مؤجلا قبضا لروحها؟؟ هل همس في اذنها : ايه ايتها الطيبة، سأؤجل لقائي بك تعاطفا مع خوفك على خوف صالح، هل ماتت العجوز الآن بينما كان صالح الثلاثيني يصلي او يتسحر او يلعب الشدة مع اصدقائه في المقهى او يحرث ارضه، متخلصا من صدمة و خوف الرحيل المفاجيء لأمه ؟؟
في الحافلة البطيئة ، المتجهة الى رام الله والمليئة بالصمت والتمتمات والصلوات السرية ، امتدت يد صغيرة وبيضاء جدا لبنت ثانوية الى وجه محمود النائم في حضني ، امسكته بلطف طالبة الاذن ، راحت تتصفحه وهي تقول : كزهر اللوز او ابعد، كزهر اللوز او ابعد، وهجم هاجس غريب : البنت الصغيرة التي تجلس بجانبي هي نفسها المرأة التسعينية التي تموت الآن، هل اعطاها الموت فسحة كبيرة مؤقتة من شباب لتعود الى نضارتها وفتنتها ؟؟ يا الهي لن اكمل ما احس به، هل انا مجنون او مريض؟؟
من الذي يهتف داخلي الآن او يغني، كزهر اللوز او ابعد هذا السفر الى القدس

16-2-2007

0 التعليقات:

إرسال تعليق