دعوا لبنان ينتصر على نفسه

(التنوع)، يا لهذه الكلمة الشاهقة التي تضيء في عقلي مثل حفلة عيد ميلاد مستدامة، وتنام في قلبي مثل طفولة منسية، منذ سنوات بعيدة، منذ تفتح وعيي الجمالي وأنا أتخيّل لبنان امرأةً نادرةً لا شبيه لروحها وعينيها، امرأة بشعر طويل ينبع من السماء ويصب في السماء، امرأة ذات كبرياء غريب، عصية على التصنيف والتعيين والاستقطاب والتفسير، لا أسوار تحوّطها، ولا آثام تعذبها ولا أساطير تذيبها، مفتوحة على الواضح والغامض، الجميل والقبيح، المريض والصحي، الليل والنهار، السماء والأرض، القدسي والمدنس، الصاخب والهادئ، لكن لا أحد استطاع فك طلاسم قلبها، كلهم يركضون خلفها لتمنحهم فقط حفنة نظرات، لكنها تواصل مشيها النبيذي الطيّب الفراشي الجناح والنسري النظرة، تستأذنهم بأدب، تدخل إلى مدائن أعماقها لتواصل هناك نحت نظريتها التي تشتغل عليها منذ ميلادها: الجمال الحقيقي غير قابل للتملّك، أنا لست لأحد منكم، أنا لي وللعالم ولله، أنا لطبيعتي، لا أريد أن أتحول إلى مختبر لمشاعركم ومعبر لنزواتكم وأساطيركم وحكايات ماضيكم وعقائدكم اليابسة، ومزاجيتكم العكرة، لا أريد أن أُنتهك كما تنتهك اللوحات أصالة المشاهد والصور الطبيعية، كالروايات والقصص والقصائد والمسرحيات والأفلام التي تزيف حقيقة الحكاية وطزاجتها وصفاء المشاعر وتفسد هواءها الأول البدائي، لكن الرجال ضيقي القلوب الباحثين عن متع عابرة غضبوا وراحوا يشنون عليها حروبهم وإشاعاتهم ونميمتهم متحرشين بشعرها الموجود ببراءة وكرم في كل مكان، وبابتسامتها الكريمة الجاهزة، ومنذ ذلك الوقت ولبنان / المرأة تعيش الدمار والهدم والقتل، والخراب، لكن لبنان ما زالت صامدة، لم تستسلم، رافضة تسليم خارطة مدائنها الداخلية إلى عصابيي الأسطورة، وشياطين الماضي وكارهي الجمال.
هذه هي الشخصية الحلمية التي كونتها عن لبنان، على افتراض أن كل شخص فينا لدية أسطورة شخصية يعيش عليها ردحاً من الوقت، ما زلت أؤمن بأن العالم المتوحش ما زال غير قادر على استيعاب جمال لبنان واتساعه للمتعدد والمختلف والمتنوع، عالمنا العربي ما زال يخاف التنوع، يرتعب من الاختلاف، وهذا هو سر هزيمته على المستوى الوطني والفكري والإنساني، كفلسطينيين تحديداً مؤسسات وأشخاص وفصائل، علينا أن نتأمل هذا الدرس، إذ لا مجال للواحدية والتفرد والتعصب إذا أردنا أن ننتصر على الاحتلال وننهض بالبلاد، حين قالت لي الصديقة الكاتبة اللبنانية البيروتية المسيحية عناية جابر، أثناء حرب تموز: إن أمها الشيعية عندها الآن بعد هربها من الجنوب، أحسست كم هو لبنان قوي باتساعه وتنوعه وتسامحه، وكم هي هزيمته صعبة على أعدائه، وأنا لن أنسى كلمات صديقي اللبناني أشرف الذي قال لي والحرب مستعرة: إن كل أقاربه ينحدرون من طوائف لبنان كلها، وهم مجتمعون الآن في ملجأ واحد، فأمه درزية وأبوه ماروني مسيحي وجدته لأمه شيعية، وجدته لأبيه سنية، هذا هو لبنان، الذي يجب أن ينتصر تنوعه، إنه التنوع والتسامح واحترام الاختلاف، تأملوا شخصية الإنسان اللبناني ــ نساء ورجالاً وأطفالاً وشيوخاً ــ وليدة هذا التنوع، إنه/ها، جذاب وخفيف وواسع ومتأمل، ومستمع وعميق ومبدع وذو صحة نفسية لا تخفى على أحد، في المقابل تأملوا شخصية الرجل الطالباني على سبيل المثال كم هو ضيق وكالح ومتشنج ومتشكك، ومريض وخائف وهزيل ومتلعثم ومحدد، لينتصر التنوع، لينتصر لبنان.


0 التعليقات:

إرسال تعليق