محمود درويش يبدأ بيتاً جديداً




الشاعر في الصندوق، الصندوق في الأرض، الأرض فينا، فينا الشاعر، الشاعر في الصندوق. خمسة عشر عاملاً، مهندسان ومهندستان، جرافة وسائق، شرطيان، ثماني أشجار سرو، طائر غريب الشكل واللون يشبه قصة الشعر، سمير ونهاد وأنا، هادئة رام الله؛ لأنها لا تعرف، يوم عادي جداً في كل المدن العربية والفلسطينية، فهي لا تعرف أن الشاعر سينهض من نومه الطويل، وسينتقل بعد قليل إلى بيت جديد، هناك قرب الشجر، آه الشجر يا محمود، قبل يومين حاولت أن أحصي كم مرة وردت مفردة الشجر في قصائدك، فأعياني العد، أتعبني تسلق الشجر، لكني صنعت من شجرك غابةً صغيرةً أمام بيتي، أستعذب في الصيف ظلالها ونداها، وفي الشتاء أستمطر موقدها وأستحلب روحها. صندوق فولاذي سيطلّ بعد قليل من بين أيدي الرجال، التراب ثم البلاط ثم الصندوق فمحمود، العيون على وسعها والقلوب على رجفها، ومعاول الرجال تنبش نبشاً خفيفاً لطيفاً خجولاً في تراب البيت القديم؛ خوف إزعاج أمير البيت وهيبة الأميرة القصيدة، مفاجئاً إيانا نهض الشاعر من الصندوق، مبتسماً خرج من بيته القديم، نظر إلى وجوهنا بتمعن، بعينيه الطيبتين ضغط على أيدينا: "لا حاجة لي بشيء سوى أن تفسحوا لي الطريق" نطقت يداه، مشى بهدوء القصيدة وهي تستحم في النار الأخيرة إلى البيت الجديد، على بعد عشرين متراً، مشينا وراءه متهدلي الأطراف مخطوفي البصر، كان يعرف دربه، كما تعرف الشمس زمنها، تعثرنا خلفه بأنفسنا وبالحجارة والخشب والعجز عن التفكير والكلام، وقف الشاعر على حافة البيت الجديد، نظر إلينا من جديد، ابتسم ابتسامةً قويةً، جال بنظره طويلاً في أفق المكان، أطال التحديق في الطائر الواقف بثبات غريب فوقه، كنا نريد أن نقول الكثير من الكلام، لكن يديه قالتا لنا بلطف مرةً أخرى: "لا حاجة لي لشيء سوى أن تفسحوا لي الطريق"، رأيناه بأم غيبوبتنا يهبط درج البيت، ويبدأ بيتاً جديداً. رام الله وحيفا هادئتان، فهما لم تعرفا، لم تريا، لم تسمعا. الشاعر في الصندوق، الصندوق في الأرض، الأرض فينا، فينا الشاعر، الشاعر في الصندوق.


0 التعليقات:

إرسال تعليق