زياد خداش: أنا عدو للجاهز والمتوقّع...

زياد خداش: أنا عدو للجاهز والمتوقّع... و صديق للمجهول
حاورته: منال خميس/غزة

● ● ●

أبطاله نساء متروكات، طرقات خاوية ورجال تائهون، كائناته كأنها الريح... تبدو أرواحها مجرورة بعيدا عن أجسادها، يأخذك بحميمية بالغة لعالمه، تشعر كأن بينكما اتفاق على المسار حين يقاسمك بعضاً من الضوء، ثم ودونما اتفاق ينصرف عنك، يتركك فجأة لليل أسود ، وتعب بلا نهاية... فتعرف أنك وقعت في أحد فخاخ الألم التي نصبها لك ، وتدرك أنه ليس من ملائكة على الأرض.... و أنك تسير بقدمين حافيتين على بلاط بارد.

زياد خداش كاتب قصة وأديب فلسطيني، يعيش في مدينة رام الله صدرت له مجموعتان قصصيتان

"موعد بذيء مع العاصفة ، الشرفات ترحل أيضاً " اضافة الى العديد من الكتابات التوثيقية ومقالات في التربية والأدب.
كان لنا معه هذا اللقاء...

زياد خداش متى بدأت تكتب القصة وكيف؟

*** كانت صدفة غريبة نسجها ابي مع الله بطريقة لم افهمها وكأن الله قال لأبي ذات ليلة قررت ان امنح ابنك هوية كاتب قصة فأجابه أبي قررت أن أتعاون معك.

كان يمسك أبي بالجريدة من أطرافـها ويسألني بطريقة مسرحية: هل تعرف معنى كلمة يرجىء؟

هل تعرف كلمة إدانة؟ وتوالت الكلمات وبدأت أبذل جهداً لأعرف هل أحصل على انتشاء أبي, كان انتشاء ابي وفرحه بي هو هدفي ،وفجأة وجدت نفسي ابحث عن دل دلالات كلمات كثيرة أدل أبي عليها ليسألني وبدأ حماسي وفرحي باللغة وإيقاعاتها, بلعت الطعم الرائع الذي وضعه الله لي بالتآمر مع أبي الجميل, كانت مكتبة أبي أول منهوشاتي, كنت أُقرّب الكتب التراثية ودواوين الشعر من أنفي أشمها قبل أن أقرؤها كان لها رائحة لذيذة لم فهمها حنى الآن, لكنها آسرة ومدوخة, ولم أكن أستطيع تحمل دهشة و فرح المدرسين بي حين أضع بعض الكلمات في جمل مفيدة, ما زلت أذكر تصفيق طلاب صفي السادس لي حين وضعت كلمة الخلد في جملة: فقد مجنون ليلي خلده.

ضج قلبي بالحماس وكان أبي قد نفذ وعده للقدر بأسلوب إغراقي بالقصص والمجلات، أغرقني بها حد الخوف ،وصرت أتجرأ على كتابة قصص تقلد أغلبها أسلوب القصص التي اقرؤها، عرض ابي كتاباتي المسروقة على أحد معارفه ممن يتذوقون الكتابة, فكتب لي بخط جميل جداً: كان لي مثلك كتاب قديم في طفولتي مثل هذا, وكنت اسرق جمل الكتاب الكبار وهذا شيء طبيعي لأنك بعد فترة ستسرق جملك وصورك من روحك ودمك.

وفجأة رأيت إسمي مطبوعا في صحيفة تحت كلمة قصة قصيرة, فجن جنون روحي, وهكذا صرت كاتباً, الله وأبي هما من صنعاني كاتباً, أنا أحبهما جدا.

قضية الجنس في كتاباتك دائماً واضحة ومركزية حتى ليتهمك البعض بالإسفاف والإسراف فيه ، عملياً هذا الموضوع ليست جديدة معالجته على صعيد الادب عالميا وعربيا ولكن فلسطينياً ما الذي تجده فيه وما الحاجة إليه؟

*** وهل نحن الفاسطينين نعيش خارج التاريخ وخارج الإنسانية ؟ وخارج الأمكنة؟ حتى تدعينني ا لى التبرؤ من حاجاتنا الطبيعية, نحن بشر ايضا ولنا اخطاؤنا و نزواتنا وخياناتنا, لسنا ملائكة يا سيدتي ابدا, من حقنا ان نحب زوجاتنا ونخونهن ايضا, من حقهن خياناتنا وكما يصل الاستشهادي بجسده الى اقصى طاقة الفداء والتضحية علينا أن نسمح لأجسادنا بالوصول إلى أقصى درجات الفرح واللذة, والجنس موجود كما الهواء, كما الله, كما فكرة الوطن, لماذا نخافه؟ لماذا نخفيه؟

انا ككاتب أصور ما يدور في الخفاء, وظيفتي فضح المستور, ونبش المدفون, وبلادنا مليئة بالمستور الذي أتلذذ فنياً في كشفه وأتلذذ إنسانياً في وقوفي على حقيقته وحقيقة ادراك الاحساس البشري في المستبعَد والمحتقر المحرم,

الوطن ، الجنس والموت... ثالوث علاقات لا تدركها العين وحدها ولا العقل وحده أنت تضع القاريء في صدمة الروح أيضا حين تتجاوز التعبير عن الداخل لتشتبك مع الخارج في جدلية غامضة لتصدم القارىء بفكرة انه لن يمسك بهذا العالم فتشعره بالإحباط واليأس لماذا؟ هل ينقص القاريء احباطات على الصعيد الانساني؟

*** أنا ألعب في ملاعب الخسارة, لدي ايمان كبير ان الأدب وليد رائع ووفي لخسارات قادمة, الفرح لا ينتج أدباً أو فناً, أنا على استعداد لان اطلق النار على اديب يقول لي ان غدا سيكون اجمل, الاحباط كلمة تكاد تكون مرادفة للفن, واذا سألتيني لماذا اكتب اذن فسأجيبك: لا اعرف, هي جرثومة لا شفاء منها, الموت والجنس والوطن ثالوث شهي جدا بالنسبة لي ’ استمتع جدا في صورة نهد حي ونافر وجثة رجل تتحلل في الجوار, أذوب انتشاء في تأمل صورة مقبرة ولقاء ساخن بين امراة ورجل,

الموضوع ليس موضوع شبق, اطلاقا, هو بحث مجنون عن سحر تجاور المتناقضات, سحر وغرابة اللامتوقع هنا شغلي الفني, البحث عن اللامتوقع والمفاجيء في الحياة والغريب في الاحساس, اختبار احاسيس اخري مظلومة ومقصية,

قصتك " لا بأس فأنا هنا أنا هنا " تثير جدلاً كبيراً, فيها ايقاعات غريبة, وعلاقات خفية تخنق القاريء من بدايتها فهي تبدأ بغرفة وجسدين مختلين لا يدركان العالم، لتعبر بنا الى الجبل وتنتهي بكهف تسكنه قطعان هاربة من البشر تمارس سوداها ولا تعرف صفاء الروح... ألا تشعر انك تصدم القاريء وتكسر توقعه وتقطع عليه الطريق فلا يجد مرافيء يعود اليها في علاقته مع الذات والاخر؟

*** وظيفتي أن اكسر توقع القاريء, لن اجد وظيفة اخرى اجمل من هذه ’ ان أراقب قارئي الجميل وهو يدوخ وينز عرقاً متوقعاً مسار النص وأنا أفاجئه بشعاب أخرى بعيدا عن الطريق الذي مشيت فيها معه واحاسيس اخرى بعيدا عن الاحاسيس التي اوهمته فيها, ان اقطع الطريق على قارئي فهذا واجبي وروعتي ، على القارىء أن يكون ذكيا بحيث انه هو من يقطع الطريق علي, لست في معركة مع القاريء ولكنها شروط الفن و نصيحته المتوحشة.

دائما نصك تحريضي فيه زعزعة لمفهوم ما ودائماً في كل قصة هناك دعوة لقتل القديم وأحيانا اشعر أن القصة عندك هي محاولة عبثية لفهم العالم والاشتباك مع الجاهز فيه ما رأيك؟

*** أنا عدو لدود للجاهز والقديم, هذا الجاهز الذي يحرمني من البحث والتساؤل والمغامرة وتذوق طعم المجهول, والقديم الي يحرمني من عناق الجديد والمفاجيء, دائماً في قصصي هناك بحث عن مجهول, لا أحمل أفكاراً جاهزة, ولا احب ان أمشي على آثار الآخرين, احب ان اغامر وامشي باتجاه الكهوف التي لا اعرف ما فيها, أحب أن أتفاجأ دائما بإحساس جديد ’ بحالة, بفكرة غريبة أنا صديق الغريب وحليف المجهول,اما عن العتيق او القديم فأنا ضده وعليه حين يكون مانعا لوصول الجديد المدهش، أحيانا اهرب إلى عتاقتي أو قِدَمي من الجديد المزيف والسطحي, انا مع العتيق اذا افاض عليّ من مجهوله أو غريبَهُ أو طزاجته المكنوزة,العبث ضروري حين يكون مبنياً على رؤيا, لا اطيق العبث المجاني التافه الفارغ ، احيانا احتاج هذه التفاهة لابني عليها امتلاء ما او فكرة واعية ما, ولا اقبل ما يقال احيانا عن عبثية العالم وبالتالي على ادبنا ان يكون مواكبا له بعبث, زمان كنت اتبنى هذه النظرية, عرفت لاحقا انها فارغة ولا معنى لها وهي وسيلة قد يستغلها الفارغون استسهالا لشروطها.

المكان في قصصك إما مدينة رام الله او المخيم...و التوقيت في عالمك غالبا ما يكون حاداً فنجده غالباً إما ليلة شتاء قارصة او ظهيرة قائظة لماذا هذه الحدة؟

*** قبل اشهر قليلة أوقفني شاب وسيم في الشارع وسألني بخجل: هل انت زياد خداش؟

اجبته نعم, قال اجمل ما في قصصك هو المكان, أنت كاتب مكاني, أنا أحب أمكنتك جدا ملاحظة هذا الشاب فاجأتني, لم أكن اعرف ذالك, لم انتبه ، صرت لاحقا اراقب امكنتي وافرح افرح فرحا شديدا, يا الله فثمة من يتابعني ويراقب. أمكنتي,

أما عن رام الله, اه رام الله أنا أعيشها يوميا شوارع ونساء ومقاه, وانا لا استطيع ان اكتب عن دمشق مثلا, فهناك لا توجد لي حبيبات سابقات أو رسومات وكلمات على جدران مقاهيها, هناك لا خطوات لي في شورعها ولا ظلال لجسمى في منحنياتها ودروبها هنا نما شاربي وغابة صدري اشتعلت هنا لا هناك, هنا في رام الله انا أعيش كنص من نصوصها ، في رام الله انكسرت مراراً وطرت مرات إذا صح التعبير ، رام الله كاتبة ورسامة أيضا تكتب محبيها وترسم عشاقها, فكيف لا أغمس كلماتي حتى الموت غرقاً في جحيم عينيها؟.

أما عن التوقيت الحاد في قصصي فأنا أحس أن معنى العالم يتكثف في الشتاء الصاخب والعنيف مصحوباً بالغموض وبالعواصف أو في الظهيرات الساخنة في النهارات الصيفية حيث لا معنى لشيء ولا دلالة,

سأعود الى المخيم الذي لم تجب عن سؤاله وكأنك تهرب, تلك الزفرة الطويلة الممطوطة التي اسمها مخيم ماذا تعني لك؟

*** بالفعل انا اعترف أني اهرب دائما من هذا الواقع الفظيع الذي اسمه مخيم، انا لا أستطيع أن افهم هذا الواقع ابدا, دائما كنت أتساءل: كيف يسمح العالم الواقع أن يقتلع الإنسان من بيته وشجرته ليلقى في العراء, انه منتهى الجنون ، انا عاجز عن تفسير ذالك,

وللأسف لم ينتج المخيم أدباً رفيعاً يدهش أو يصمد مع الزمن رغم الابداعات هنا وهناك, وكأن هذا العالم الغريب الذي اسمه المخيم يرفض ان يخلد في الادب دفاعا عن عدم شرعيته وعدم عقلانيته.

أبطالك نساء متروكات، طرقات خاوية ورجال تائهون حتى لتبدو كائناتك وكأنها الريح أو كأنها أرواح مجرورة بعيدا عن أجسادها, من أين يأتون؟

*** شخوصي ولا أحب كلمة أبطال أبدا، شخوصي منتزعون من عالم الخسارة, فهم محبطون ومطاردون وتائهون, وفي الاحباط والتيه والمطاردة تتجلى وتنفجر وتتلوى حدائق الفن و بساتين المعنى وسحر الكلمات, شخوصي من ر يح نعم وهذا تعبير رائع, وكأنهم آيلون لاختفاء أو هرب أو ذوبان أو موت أو سفر, كأنهم غير موجودين كأنهم حلم، كأنهم فكرة مرت عابرة في ذهن رجل حالم, وكأنهم وهم جميل, تسألين من أين يأتون؟

نعم... ياله من سؤال مخيف سأقول لك: يأتون من الندم و انكسار أمل من المستور الذي حدثتك عنه, من مخابيء الروح وكهوف النفس هناك أوطانهم, هناك قراهم.

في مجموعتك الاولي: موعد بذيء مع العاصفة كانت تتكرربعض الكلمات بشكل ممل الستارة والريح وارتعاشه والغرفة والقهوة والآن تتكرر ألفاظ أخرى مثل: الدبابة ما مدلولات التكرار في تجربتك؟

*** لدي تعريف آخر للتكرار هو الهاجس, نعم سيدتي انا اهجس دائما بكلمات دون قصد مني, اجدها ضرورية في البناء ولا اعتقد أن أي كلمة أخرى يمكن أن تحل محلها، في تجربتي السابقة كانت الغرفة والقهوة وفيروز لكل مرحلة وتجربة هواجها وكلماتها, الغرفة كانت تعبير عن وحدتي وانكماشي وصغر عالمي الواقعي, والقهوة كانت طريق سعادتي في اوقات حزني, انا لا احب الكولا ولا الشاي, انا اموت في القهوة واحب ان استضيفها دائما في نصوصي, لا احس انها ضيف ثقيل ابدا وهي تستضيفني كل الوقت في جسمها ورائحتها وغرابة تأثيرها, لا أرى اي مشكلة في تكرار بعض الكلمات في قصصي ما دامت موظفة بشكل جيد فنياً, ولو مل منها القاريء فانا لم امل حتى الان, الان استخدم الدبابة ومفردات أخرى كمفاتيح لتجربة جديدة وكإضاءات ما لعالم ومساحات مختلفة أتوغل فيها هذه الايام.

تبدو القصة شبه ميتة في الضفة وغزة لماذا؟

*** كل شيء يبدو ميتاً الآن بسبب جنون الحرب بيننا وبين أعداءنا ولكن الحياة مكتنزة في الداخل, انا اعرف كاتبات وكتاب لا ينشرون في الصحف و في نصوصهم من الحيوية والثراء ما يذهل, انتظري قليلا حتى تزول غمة الموت اليومي واللامعنى اليومي.

لغتك متقشفة ومتوترة لا تصلح لرواية ماذا تقول؟

*** أنا لا أستطيع أن أضع حدود بين لغة الرواية ولغة القصة ،هناك لغة وهناك اجواء وفضاءات وضع الحدود هو قتل واغتيال للتجريب واالمغامرة قبل سنوات كانوا يقولون لا نثر في الشعر انظري إلى الشعر اليوم وصداقته الحميمة مع النثر،وهناك رؤيا وكفى تحديدات وشروط لا شروط برأيي ولا تصنيف في الفن، ذهب زمن الرقابة والتحديد في الفن الى غير رجعة هذا سؤال قديم مخجل ان استفيض في إجابته.

الأم تظهر في نصوصك باستمرار لماذا؟

*** لأنها أمي أنا أقف حائرا أمام هذا الكائن الحريري الذي اسمه أم أقف مرتبك وعاجز عن التعبير عن الامتنان لوجوده والحيرة من طاقته القصوى على التضحية, والفظيع ان امي حتى اللحظة لا تعرف اني اقدس الهواء الذي تتنفسه والارض التي تمشي عليها, لا اتخيل غياب امي عن الوجود وكأنه غيابي أو غياب كتابتي’ لا احمل عقدة أم في داخلي ’ ولكنها الحساسية والحيرة أمام نبعها الذي لا ينتهي, ما هي السعادة الغريبة التي تحصل عليها امي حين اكون سعيدا لا ادري؟ انه الله بعبقريته وامتداد فكرته عنا وعن نفسه, كيف لا تظهر أمي في نصوصي بعد كل ما ذكرت, هي تشبه رام الله تماماً أعيشها وتعيشني.

في قصصك الجديدة ثمة رؤيا جديدة لفهم الشخصية انت تخليت عن الافراط في اللغة وجمالياتها والعبث بها لصالح الشخصية وتناقضاتها كيف تنظر لتجربتك السابقة؟

*** سؤال رائع واشكرك عليه نعم كنت عبدا للغة و اغوائها الايقاعي على حساب الفكرة والشخصية الآن أنا انفتحت أكثر على مضمون العالم وافكاره وشخوصه وصرت أبحث بدون ملل وبوعي رؤيوي عميق عن المتوحش والحار والبكر في حياتنا بعيداً عن الشعر والايقاعات الراقصة الفارغة من المضمون أحياناً, هي وقفة نقدية جريئة أقفها مع تجربتي السابقة وأتحدى آخرون أن يفعلوا مثلي هي حكمة تعلمتها من الراحل لعظيم حسين البرغوثي.

تعمل كمدرس من سنوات طويلة كيف تقاوم روتين التعليم ولا تسمح له باختراق فنك؟

*** آه يا صديقتي سؤالك موجع حقا والإجابة عليه موجعة كذالك سأجيب باختصار لان كل كلمة اكتبها ستكون عبارة عن نقطة دم من أعصابي وروحي،التدريس ورطة حقيقية أعيشها يومياً حيث هناك الروتين والنظام الاخرق والجرس المروع وحيث كل شيء معروف سلفاً ،أنا اعرف ماذا سيحدث غدا في المدرسة

طابور من طلاب عابسون ينشدون عن الوطن جميلون بعيونهم الناعسة وهم يتثاءبون ومعلمون متجهمون يتجولون بينهم ، والمدير يزعق ويهدد.....

آه أرجوك أرجوك لا أستطيع أن أكمل سامحيني.

0 التعليقات:

إرسال تعليق