" عقد هيلين" على مسرح القصبة ..



" عقد هيلين" على مسرح القصبة
حين تتجاور الضياعات البسيطة والكبيرة , تنفجر الاسئلة
***

انها تحلم، تحلم، هكذا قلت لنفسي همسا، فهذه مونودرما، اما الممثلون الاخرون، السائق، ام الشهيد، المقاول، الرجل الستيني، فما هم سوى اشخاص ابتكرتهم هيلين الفرنسية، الم نشاهدهم يدورون حول المرايا ذلك الدوران الخافت والضبابي، كانوا بالفعل يدورون في ذهنها، كانت هي تقف في مركز المسرح، في وسط ذهنها المتعب والانساني، اما هم فقد وزعتهم على اطراف ذهنها، تستدعيهم وقتما تشاء، تتحدث معهم، تعذب نفسها بهم ، تكتشف عارها وفقر عالمها وندوب روحها امامهم،هل كنا نحن الجمهور حلما في رأسها ايضا، اخترعتنا السيدة لترتاح، هل حلمناها، لنهدىء من شعورنا بالخوف والعزلة والوحدة في عالم ظالم لا ينتبه لالام الاخرين؟؟, <مرة حلمت اننا نحلم محمود درويش وانه ظاهرة ممتعة مهدئة، و كبيرة تعيش فقط في اذهاننا، نتخيلها ونعيشها لاننا بلا بطولات وبلا فرسان او رموز>، لماذا تفعل هيلين كل ذلك؟ ألتخفف من قسوة احساسها بالمسؤولية عن عذابات وطن ضائع؟ ما سر اهتمامها بالموضوع؟ فالوطن ليس وطنها والشعب ليس شعبها، لم لا تعود الى بلادها حيث كل الاشياء مكتملة ومستقرة ومنطقية؟، نحن اذن امام انسانة، انسانة بمعنى الكلمة، تفتش عن صورتها في جراح الاخرين، الاخرون الذين هم بشر مثلها، يا ليت كلمة الانتفاضة لم تذكر في المسرحية، لانها حددت المشهد باطار جغرافي وسياسي، وحشرت الصورة في قضية ارضية صغيرة اسمها فلسطين، كان يجب ان تستبدل الانتفاضة بكلمة حرب، حتى يتوسع المفهوم، حى تنطبق الحالة علينا وعلى الاخرين، تخيلوا عرضا لهذه المسرحية في الارجنتين، الارجنتينيون سيفهمون فورا انها تتحدث عن فلسطين، وهذا يخفض سقف المسرحية <هذا لا يعني بالطبع ان كل كتابة او دراماعن فلسطين تخفض من مستوى الفن لكننا تعودنا ان تقترن هذه بتلك وبانتظار من يثبت عكس ذلك هناك من اثبت ذلك ولكنهم قلة وسط قاعدة كبيرة استخدمت فلسطين استخداما رديئا واساءت بذلك للفن ولفلسطين معا>، ويضيق افقها، وتصبح اقرب الى التباكي والتحريض وممارسة الانين و الحسرة والاستمتاع بكوننا ضحية دائمة وطلب الشفقة، وهذه مفردات مسرحنا الفلسطيني المعهود والمكرر، هذا ليس مطلوبا ولا منتظرا فقد شبعنا استعراضا واسترحاما لعالم فظ وغير مبال، لا يحدث هذا لو كان هناك اطار انساني اوسع، لو كانت الحرب هي التي اختطفت طفل الام،لأحس الارجنتيني ان ابنه نفسه هو الذي خطف، فقد عاش هو اجواء الحرب وما يستتبعها من مآس وموت ودمار وفقدان. الفكرة في المسرحية عالية الفضاء و تحتمل ابعد من ذلك من تحليق، فكرة ان تضيع اشياؤنا الصغيرة في بلاد كل شيء فيها ضائع، او في عالم كل شيء فيه ضائع، الضياع نسبي جدا في عالمنا، فمنا من يضيع قلمه او قبعته ، ومنا من يضيع ابنه او عائلته او طنه او عمره اوعقله، وحين تتجاور الضياعات البسيطة والكبيرة نشعر بضحكة ساخرة لكنها دموية،مبحوحة ممزوجة بدمعة مالحة، ساخنة تخترق كياننا، فتهتز ارواحنا وتزورنا قشعريرة الاسئلة، وهذا ما سبب لنا هذه الانبهار الجميل والتفكير العنيف، في المسرحية التي كان يجب كما ارى ان تنزاح اكثر عن المتوقع منها، هناك مستوى اعلى كان يجب الحفر فيه، ثمة ارتفاع تم التضحية به من اجل انخفاض معين لقضية صغيرة تحدث في العالم دائما، ثمة مستوى وجودي عميق ومغر للتأمل، في فضاء الضياعات، يشبه الامر ان نذهب الى ميت ونهزه قائلين: ببراءة ام ببلاهة: هل رأيت امراة تمر من حقلك؟ انها زوجتي وانا ابحث عنها، او ان نقرأ شعرا وسط جثث متفحمة، او نسأل رجلا اعمى: فقدت محفظتي، هل رأيتها؟. يا لها من منطقة تفكير مثيرة للانفعال والحيرة والارتجاج والاسئلة، تلك التي كانت تدور فيهاالسيدة الفرنسية فاقدة عقدها، اسمع هنا صوت شخص يحتج على ما اقول سائلا بحنق؟ هل تريد ان تأتي الينا السيدات الفرنسيات الجميلات ليمارسن في بلادنا المنكوبة وطنيا وانسانيا، اسئلتهن الكونية و الوجودية؟ هل انت مجنون؟ اجيبه : نعم صديقي انا مجنون، لاني ابحث عن غير المتوقع في المتوقع دائما، لاننا اتخمنا بالندب والتفعفل في الارض موتا ولطما و ألما، اشتاق الى ان نرقص ونحب ونسافر ونكتب عن الوحش الذي فينا، والظلمة التي تعيشنا، كما اشتاق الى من يصدم ذاكرتي ويحخلخل يقيني، ويلامس روح العالم في روحي، ويبعدني عني، ليس هربا من معالجة قضاياي او يأسا منها او استسلاما لواقع او مارسة لرفاهية مضحكة، بل بحثا عن انسايتني واحلامي وعبثي وغرابتي وشكوكي . او باختصار كبير تفتيشا عن نمرة الفن، نمرة الفن التي تأبى الخضوع للقولبة او التكرار او التسطيح، او الخطابة والهتاف. هل تسمحون لي هنا بسؤال مكرر كبير : لماذا تقترن دائما الاعمال المسرحية التي تعالج هما وطنيا او اجتماعيا بالتسطيح والتكرار وضيق الافق وقصر النظر؟؟، لماذا لا نجد مسرحا محليا يعلو بالهموم الارضية الفلسطينية الى ذرى وآفاق الفن الانساني؟, لماذا نعجز عن ربط الخاص بالعام وهذا بالمناسبة ينطبق على الادب والشعر تحديدا، درويش نجح بقوة في التخلص من ورطة الارضي المقرون بالتسطح، اخذنا الى قمم الشعر الانساني منطلقا من خصوصيتنا. هيا نعود للموضوع، وهل خرجنا عنه؟. هيلين فتاة فرنسية تزور بلادنا كسائحة، يضيع عقدها الجميل والشفاف في مكان ما، اثناء تفتشيها عنه تفاجأ بوطن كبير ضائع، اناس ضائعين، كل يبحث عن بيته او طفله او عمره او ضحكته، تخجل هيلين، حين تقارن بين ما ضاع منها وما تراه امامها، فترتاح، لانها خجلت، فهذا يعني اكتشافها انسانيتها، نقطة ضعف المسرحية الوحيدة هو تورطها الخفيف في اليومي والسائد والمتوقع، اقول تورطها الخفيف، لان المسرحية لم تقع وقعة كبرى في هذا المطب، وحافظت على جماليات العرض المسرحي بشكل فاتن،<الخبثاء هنا سيسألون : هل اصبحنا مكانا اومادة يغسل به الاخرومن ذنوبهم،> سأرد عليهم واقول كما قلت لمن يتهم الاسرائيليين التقدميين بنفس التهمة : كل من يقف بجانب ألمي فهو صديقي وانا احترمه، نحن نقف ونتعاطف مع قضايا البوسنة ودارفور وافغانستان، هل يعني هذا انني اغسل ذنبي هناك؟ وما هو ذنبي؟ ما ذنب الفرنسية هيلين هنا؟ هل مجرد كونها < اخرى> يعطينا حق الشك فيها، وفي دوافع وقوفها بجانب عذابنا؟؟ .

ما سر المرايا المتجاورة في المسرحية،؟ هل هي الضياعات نفسها؟ متنكرة في شكل مرايا؟

الاضاءة كانت موسيقى والموسيقى كانت اضاءات، لماذا احسست ان كل شيء أعار قسما منه للاخر؟. أجمل ما في هذه المسرحية هو شاعريتها، تدفقها الخفيف وحركتها الناعمة المتأنية، قربها من كونها كتاب او رقصة حزن دموية، او حديث ليلي خاص على شرفة حنين اوموت، او لوحة ضياع تتغير فيها الوجوه والاشياء، وتحافظ فقط على لون واحد هو الازرق، فالزرقة هي ابنة هذا العمل، لحمته وسداه، افقه، دمه، نسيجه، الزرقة هنا هي الحلمية الرجراجة العالية، اللعنات الواقفة على بابنا تنتظر خطفنا، الخطورة الكامنة في المرايا، وفي الدوران الصوفي حولها، شراسة الشرط الموضوعي امام بساطة حاجات الانسان. غياب منطق العدالة بشكل مخيف.

اداء الممثلين المحلوم بهم ، كان قويا، لا انفعال زائد، لا تهريج، حركة الاجساد كانت تقول كثيرا ما تتطلبه منها المشاهد، على اعتبار ان الاشخاص مخترعون ويمشون بغموض في رأس بشري متعب وحائر وماكر ايضا، صالح البكري جسد حلمية المسرحية في جسد وروح السائق، بمشيه البطيء ونظرته الثابتة وابتسامته المحددة، وكلامه المتقشف، كنت احب لو استمر غموضه حتى نهاية المسرحية، فانفتاحه على الكلام في آخر المشاهد اضر بالمستوى الحلمي الذي علا به في داخلنا، كلامه الاخير الموجه الى هيلين انزله الى الارض، وورطه في الخطابة، كان على المشاهد ان يؤول شخصية السائق، ويأخذه الى داخله، اعماقه، هواجسه، يصنعه ويقلبه ويتعمق به ويستجوبه هناك كيفما يريد. كان اداء صالح البكري مبهرا، فهذا الفنان الفلسطيني الشاب، ذي الاربع والعشرين عاما، جسد بذكاء كبير، وهدوء فاتن، وحساسية عالية، بمشاهد متقطعة و صغيرة حلما ضبابيا مشوشا في عقل انساني مهجوس بالتشتت و الضياع،

محمود عوض: لا يتوقف هذا الفنان صاحب الصوت القريب من الروح عن ادهاشنا، اما ريم تلحمي فهي تثبت هنا مرة اخرى مقدرتها الكبيرة على تجسيد دور المراة المتألمة والفرحة ففي صوتها وروحها مساحة كبيرة للتنوع والتأويل والتقمص، الألم ينز من صوتها، حين تريد كما تنز البهجة حين تريد، لكن هيئتها الانيقة آذت حقيقة شخصية الام شبه المجنونة التي تبحث عن ابنها القتيل، حسام ابو عيشة: لا يتركنا كما عودنا بدون ان نحبه ونعجب بعفويته وخفته وقوة حضوره، كل حركة يتحركها تلفت انتباهنا، كل نظرة منه تخطفنا، اما هيلين، فهي الجبل الذي ركضت في انحائه احصنة المسرح، هي قوة الفكرة وذكاء التخييل، هي الرأس الذي حلم، والروح التي انتثرت ألما، اداؤها يدل على خبرة كبيرة، وذكاء، نسيت ان اقول لكم ان هيلين حلمت بمخرج للمسرحية هو نبيل الاظن، فرنسي من اصل لبناني، هل نشكره؟ طبعا فقد لبى نداءها وجاءها من اقصى الحلم ليساعدها على تحقيق حلمها، وفاجأها بما لم تتوقعه، احسست في لحظة ما ان نبيل هو الذي حلم بكل ما ذكرنا حتى انه حلم بي واستدعاني لاكتب روعته وفتنة اخراجه، الغريب ان هيلين اخترعت ايضا مؤلفة كندية للمسرحية، اسمتها: كارول فرشت. بعد عرض المسرحية بيوم ، تحدثت مع صديقي خالد عليان، مدير مسرح وسينماتك القصبة، فاستغرب الموضوع ضاحكا: ان القصبة لم تعرض مسرحية بهذا الاسم، وانني قد اكون حلمت المسرحية. الهي هل حلمت كل هذه الضياع الفاتن؟.

0 التعليقات:

إرسال تعليق