دوائر أختي الناقصة

لا تستطيع اختي منال ان تعيش دون قلم حبر سائل، وورق ابيض كثير، اختي منال في اواخر العقد الثاني من عمرها، لو كتب لها ان تكون عادية، لبدت جميلة، ففي ملامح وجهها مشروع ملغي او غير مكتمل لجمال خاص، يجمع بين براءة وسلام ونعومة النظرة وبين كبريائها وشراستها، اختي تعيش بيننا في البيت،
تأكل معنا، تستخدم اشياءها الخاصة من صابون ومنشفة، ومعجون وفرشاة اسنان، وحين نضحك على موقف لاخ او ابن اخ، تضحك معنا، حين تبكي امي على لقطة حزينة في مساسل عربي، تبكي مع امي، حين تظهر صورة صدام حسين قبل اعتقاله على الشاشة، تصرخ منال فرحة وفخورة احيانا تقفز وتجرنا من ثيابنا الى التلفاز، بعد اعتقال صدام، وظهوره بهيئته التعيسة و المحزنة، كانت منال تشد شعرها وتطلق صيحات استنكار وحسرة، وتدفن راسها تحت اللحفاف احتجاجا، مغمغمة بلغة لا نعرفها نحن البشر،، لا يمر يوم دون ان تتنفس منال فيه دوائرها، وخطوطها الحزينة و الغريبة، محملا باوراق بيضاء كثيرة واقلام حبر زرقاء سائلة، اعود الى البيت مساء كل يوم، تنتظرني منال على الباب، تصفق او ترقص، اسلمها خبزها اليومي، تتلقفه، تسرع الى غرفتها، هناك على سريرها، يمشي قلم منال على الورق، مشية كائن يعرف من اين اتى، و الى اين هو ذاهب، مشية بنت كانت ستصير امراة سمراء وطويلة، جميلة ومثقفة، لو لم يتوقف فجأة مشروع الجمال الخاص المقرر، في سنة من السنوات فرض منع تجول على المخيم، وانقطع الورق،





وجفت الاقلام، جن جنون اختي، راحت تمزق ثيابها، وتكسر اواني المطبخ وتنهض في الليل فزعة، وتهذي بكلمات غير مفهومة كأنها تخاطب احدا غير مرئي، فاهتديت الى طريقة مبتكرة لتهدئتها، اعطيتها سطل فحم، واشرت لها بيدي على الحيطان، ابتسمت و راحت ترسم دوائرها المجنونة
هناك بخط اسود كبير وثقيل، كنت احيانا اجلس قبالتها، اراقب يدها القوية وعينيها المشغولتين الضائعتين في متاهات عالم غريب، من صنعها، من نسيج روحها، قالت لي مرة صديقة : ان هذه الكائنات الرائعة لا تنتمي لعالمنا، هي متورطة بوجودها على الارض نتيجة خطأ ما، ولها عالمها الخاص ولغاتها وحضارتها، وتقاليدها، صدقت صديقتي، صرت اتصرف مع اختي منال، وكأنها ضيفة عزيزة على عالمنا، اتحمل نزقها ومزاجها، ومطالبها، واعتقدت انها ذات ليل هاديء، ستتسلل من فراشها ودوائرها الى وطنها البعيد، لماذا ترسم اختي دوائرها ناقصة ؟؟ لماذا تترك ثغرة ما، في الدائرة؟ ارقني هذا السؤال طويلا، وما زلت منشغلا به، حتى اللحظة .
مرة من المرات، وضعت يدي فوق يدها، ومشيت بيدها في منحنيات دائرة كبيرة، وحين اوشكت الدائرة على الانغلاق، شعرت بيد اختي توقف يدي بقوة مجنونة، وندت عنها صرخة مرعبة اطاحت بي بعيدا عنها، خرج من فمها زبد، واشتعل في عينيها حريق كبير، وصلت السنته الى وجهي، لم استطع ان اكمل الدائرة، بقيت ثغرة ضيقة جدا، مشت يدها الى دائرة اخرى، ستتركها ناقصة، وهكذا امتلات غرف بيتنا باوراق بيضاء مرسوم عليها هذه الدوائر الغامضة، في احدى الليالي، حلمت بدائرة مرعبة و ضخمة مرسومة بالنار، مترافقة مع اصوات حيوانات بشعة، تقترب من سريري، فجأة تذكرت الثغرة قفزت من فراشي، وانا اصيح : الثغرة، الثغرة، اين الثغرة يا منال، اخرجيني من النار يا اختي، اخرجيني، اخرجيني،
ماذا تريد منال من الثغرات ؟ التتسلل منها الى وطنها ؟؟ ام لتحتج على المشروع الناقص لجمالها؟؟؟ ام لانها عرفت ان الاكتمال موت ونهاية، والنقصان حياة ؟ ؟؟، ام لمعنى اخر لا ادركه بذهني البشري المحدود،
ارسمي دوائرك يا اختي - الضيفة، ارسميها ايتها الحرة الجميلة، المشاغبة، يا اختي، يا دائرتي الناقصة . فالاكتمال موت موت موت،

0 التعليقات:

إرسال تعليق