الوجه المجنون لرام الله

بعد سبع سنوات من الـمنفى القسري، فجأةً محمد مشارقة في رام الله، صباح غريب، لـم تعد الأشياء في بيتي في مكانها، انكسرت طقوسي الصباحية، لـم أشرب قهوتي، ولـم أنظر طويلاً في الـمرآة، انفجرت رام الله التسعينيات في جسدي وبيتي وملأتني حنيناً إلى سنوات البحر الليلي والجانب الـمعتم من الشواطئ، والصراخ عبر نوافذ السيارات على طريق القدس ــ حيفا، كانت رام الله بنتاً شقراء خرجت من بيتها ولـم تعد؛ بحثاً عن إمكاناتها الـمهدورة ووجهها العبقري الـمخنوق، كان محمد أحد أبرز أصدقاء هذه البنت الذين مدوا إليها أجسادهم وخبراتهم العاطفية والثقافية والإنسانية ودلوها إلى وجهها، وملؤوه مدناً حرةً وأفكاراً غريبةً، لكن هذا الوجه سرعان ما سرق مرة أخرى، رام الله الآن في بيتها تماماً، مسروقة ومضطهدة، وغير مسموح لها بالنظر عبر النافذة، فمن يعيد إليها وجهها الـمطري ونهديها الجسورين ويديها الـمديدتين وضحكتها الساحلية، ونسغها الأخضر؟.
محمد مشارقة في رام الله، اتخذتُ قراراً بإجازة (من طرف واحد طبعاً)، خرج صالح من عمله، وتهيأنا لـملاقاة وجهنا القديم، الـمدفون تحت ركام سنوات ضخام من الـموت العبثي والدم ورنين الشعار والخوف والحواجز، محمد وصل في الليل الـمتأخر، نام في بيت أحد الأصحاب في أطراف الـمدينة، كان متهيباً من دخول مدينة البطولات الـمجنونة كما سماها، يريدنا صالح ومهيب وأنا معه، قد يحتاجنا ليتكئ بحنينه الهرم إلى أكتاف دهشتنا لعودته. البدوي رَبع القامة، يهبط إلى مدينته التي غزاها قبل ذلك بسنوات بصعلكته العفوية وبحثه عن الهامشي الدال والثانوي الجوهري من الأصحاب والأماكن، والظواهر، أولى الخطوات كانت إلى مطعم شعبي معتم في عمق حسبة رام الله، محمد يحب مطعم الحمص هذا، فقط لقربه من الناس العاديين جداً، هو مهووس بالعاديين، يتنفس أفضل وسطهم، يعتبرهم بوصلةً لاتجاهات بلدنا السياسية والثقافية والحضارية، ومختبراً لأفكاره حول الهوية والـمواطنة والصمود والتحرر من الاحتلال، طالـما تردّد على هذا الـمطعم في صباحاته القديمة مع أصحابه من الشباب العاديين، ابن الصباحات الطازجة هو، رفيق أول خيوط الشمس، وآخر خيوطها، كم هو صديق للعاديين جداً بقدر ما هو صديق لغير العاديين، فمن صداقته لإدوارد سعيد إلى صداقته لبسطاء الجلزون والأمعري، كم تحتاج رام الله من يهزها من كتفها الـمترهلة، ويشدها شداً خفيفاً محباً من شعرها الذي غزاه الشيب، ويصرخ فيها: اصحي رام الله، اصحي، حلقي كما كنت يا أحلى مدن العالـم في سماء الغريب والعنيد والهادر والأخضر من الأفكار، وافتحي رأسك للجنون والأمنيات الـمستحيلة وأبنائك الـمختلفين. واقعية صارت رام الله، واقعية ومحافظة هذه الأيام، بليدة وسمينة، وجهها مليء بالـمساحيق والحذر وخال من الشجر والاقتحام والندى، رأسها أصلع ولونها كالح، محمد يطل على رام الله حزيناً؛ فهي ليست تلك الـمتمردة على تمردها والواسعة والكبيرة الحلـم، والـمنتهكة لكل مغلق جبان، ولكل محتشم كاذب، محمد يطل الآن على أماكن بطولات رام الله الـمجنونة حين أصر أبطالها على الـموت أمام دبابات شارون حين غزا رام الله، يحدثنا محمد حزيناً عن الشهيد أبو فادي الذي أصر على قذف الدبابة بـ(الآر.بي.جي)، كان محد يحاول إقناعه بأن التكافؤ معدوم في الـمعركة لكن البطل الـمجنون ذهب إلى نقائه بجمال حميم وقاتل.
سيغادر محمد رام الله، بعد أيام، إلى لندن، سيعود عودات قصيرة بجنسيته البريطانية، (حامية حضوره الفيزيائي) وقلبه الـمليء بالـمقاهي والقرى والحب، والفكاهة والحزن والـمخيمات والأصدقاء الشهداء والـمطاعم الشعبية والحمص، ستواصل رام الله بعادها عن معناها الذي منحه إياها نخبة من صعاليك كتّابها وفنانيها كحسين البرغوثي ومحمد مشارقة وآخرين سيأتون حتماً، فكل الـمدن وكل الناس يبتعدون عن معناهم هذا العصر... عصر الابتعاد عن الـمعنى بامتياز، سنواصل نحن ضحايا بعاد رام الله عن معناها طقوسنا الصباحية البليدة، لـم نعد مجانين فقد كبرنا أو فقدنا الإحساس بمعنى الجنون، أو خانتنا مدينتنا، وباعتنا للأمراض والكسل وأوهام الـموت، لكن ما يبهج حقاً هو تلك اليقظات القصيرة التي يفاجئنا بها صعلوك قديم يهبط الـمدينة كبدوي معذب يبحث عن أغنامه الضائعة في مهب الحضارة النيئة.
zkhadash@yahoo.com


تاريخ نشر المقال 29 أيلول 2009
جريدة الايام الفلسطينية

0 التعليقات:

إرسال تعليق