بعينين باردتين

أتبدو الحكاية تافهة؟ أأبدو مجنونا جدا وفاقدا للذوق؟ ليكن، لا يهمني ما تعتقدون، هذه الحكاية وقعت ويجب روايتها كما هي، ما يهمني اكثر من ذلك هو اختبار ذلك الاحساس الغريب بالاغتراب عن المشهد والانفصال المدوي عن الم المجموع، بسبب خوف شخصي جدا، او رغبة دنيئة ورائعة بالثأر من الخواء وطعن السكون، انا احب اطفال بلادي، واكره الدبابات، واندهش بمرارة وغضب حين يجتاح جنود ما مدينتي، يعيثون فيها خرابا وينكلون بالناس، ولكن احيانا افقد الاحساس بالطبيعي بالاشياء، اراني غريبا عن مدينتي، وغير مبال بصرخاتها واتخيل الجنود الغزاة وفدا اجنبيا يعبر عن اعجابه بمدينتي على طريقته الخاصة، أو أراه فريق كرة قدم لدولة مجاورة، يستعرض مهاراته قبل المباراة بنصف ساعة، هذا ما حدث صباح ذلك اليوم حين زارتني صديقة قديمة من مدينة بعيدة، رأيتهم من نافذة المؤسسة، يتجمعون على مداخل المدينة، اعداد كبيرة من الجنود والدبابات، هرب الموظفون من مكاتبهم، بما فيهم مديري الذي يسكن في الطابق الاول من عمارة المؤسسة.‏‏‏

قلت لصديقتي:‏‏‏ هيا نمارس الحب قبل الاجتياح‏‏‏

امسكت بيدي وجرتني الى غرفة مديري، المكتب انيق جدا وكل شيء فيه فاخر، حتى سلة القمامة مصنوعة من الفخار، أو هكذا خيل لي، تمددت صديقتي المجنونة على طاولة مديري






الزجاجية الكبيرة بعد ان ازاحت بيد واحدة وبعنف كل الاشياء عنها: المنافض الفضية والاقلام والسجلات وتقارير الجواسيس، عارية كانت تنام على ظهرها صعدت على الطاولة، تمددت فوقها ثوراً اعمى لا يميز بين العظم واللحم، بين المخبوء والمكشوف، اجتحت كل زواياها، تشممت كل اقبيتها، كانت تجهش بالامتنان كنت انا اجهش بالاغتراب.‏‏‏
لم تكن حبيبتي، لم اكن حبيبها، كانت مجرد امراة مطرودة باختيارها من جنة القناعة البيتية، يدهشها نصي ويحيرها بحثي عن السري والمهمل والمعتم في جسدها، كنت انا قابلا وجاهزا لندائها، احب طعم دموعها وهي تسقط على نهديها، احب ندمها وسقوطها، وعزلتها، حين تصحو فيها الوصايا ويتململ العقل.‏‏‏
خرجت معها الى المدينة، لا ارتباك، لا خوف، صفاء كامل، فراغ مفتوح وحب للعالم، ثقة بالله غريبة، رغبة حزينة بعناق الشوارع الصامتة.‏‏‏
الدبابة قادمة نحونا، نختبيء خلف جدار، تمر الدبابة، نواصل المشي الخفيف، في الشوارع الترابية، فجأة نجد تنفسنا في بيت ما، وسط اطفال ورجل وامرأة، خائفين، وفضوليين‏‏‏:هل هي زوجتك؟‏‏‏ , نعم هي زوجتي، كنا نتسوق وفجأة حدث الاجتياح‏‏‏, لا بأس تنامان هنا الليلة، الى حين زوال الغمة‏‏‏, نظرت اليها، نظرت الي، لن يكون هناك طعم للجنس هنا، روعة الجنس تأتي من امكنته الغريبة والخطيرة: خلف جدار مصنع، على مكتب مدير صارم ومهم، بجانب مزبلة بعيدة لقرية نائية، في صف مدرسة مبتل بالطباشير وضجر التلاميذ اثناء الاستراحة بينما ضجيج الطلاب يشكل خلفية رائعة لشهقاتنا.‏‏‏
هل الجنس هو المكان؟‏‏‏

في الليل، بينما انا وهي نحدق في سقف البيت الغريب، رايت مديري يخرج من شقته صاعدا الي مكتبه في المؤسسة، هناك سيباشر مديري الخمسيني اتصالاته الغرامية، مع نسائه الكثيرات، انتابني رعب شديد، تذكرت اني لم امسح منيي عن طاولة مكتب مديري الزجاجية، يا الهي، سيكون






موقفا صعبا، ساطرد من منصب مدير مكتبه او احول الى دائرة اخرى، ستجمد ترقياتي، وسيتندر بحكايتي الزملاء، يا الهي ما الذي فعلته؟‏‏‏
خرجت من البيت كالمجنون غير آبه بصيحات صديقتي ومضيفي, ساذهب لامسح منيي عن مكتب مديري‏‏‏, همست في اذن صديقتي التي اصرت على المجيء معي،‏‏‏ استغرب مضيفنا، من خروجنا المفاجيء والمجنون في ليلة لا يمشي فيها سوى الموت والخوف.‏‏‏

المدينة ميتة، لا صوت، الدبابات كامنة بهدوء مميت في زوايا الشوارع وخلف البيوت, تذكر ذلك‏‏‏, قالت صديقتي..‏‏‏
زحفنا على ركبنا، كاتمين انفاسنا، باتجاه عمارة المؤسسة، يقف الان مصعوقا بجانب الطاولة الزجاجية يتحسس بيده المشعرة الخبيرة تلك القطرات المبعثرة المتجمدة، هو يعرفها جيدا، ، ،‏‏‏
طالما تحسست قطراته حين كنت اتي مبكرا الي المكتب، افتحه وانتظر حضوره، كنت امسح قطراته بمحارم ورقية، وانظف اثار متعته الهرمة.‏‏‏
سيغضب، وسيحطم اثاث المكتب، لا بأس سيجدد الاثاث لاحقا مدعيا ان الجنود اقتحموا المكتب، وحطموا اثاثه، سيعرف فورا انها فعلتي انا، فمفتاح المكتب معي وحدي.‏‏‏
صوت طلقات، هدير دبابة، اربع ركب مدماة تزحف ببطء نحو شارع قريب تربض فيه دبابة .‏‏‏
هل اندفع باتجاه جنود الدبابة لاشرح لهم الموقف؟‏‏‏
هل انت مجنون؟‏‏‏ قالت صديقتي وهي تهز كتفي‏‏‏..

الان نحن تحت العمارة بالضبط من جهة لا يرانا فيها جنود الدبابة، ننظر الى نافذة مكتب مديري، هي مظلمة، هذا يعني ان مديري لم يصعد بعد الى المكتب، سمحنا لبعض انفاسنا بالتحرر شعرنا بسعادة كبيرة، تبادلنا قبلات خفيفة اشعلنا سيجارتين و خبأنا وهجهما داخل راحاتنا، اتكأنا على كتفي بعضنا ونحن جالسان، ننتظر ابتعاد الدبابة عن مدخل العمارة لندخل، نمسح المني عن طاولة






مديري تجنبا لفضيحة، وخوفا من عقاب، قلت لها: انتظريني هنا, ساصعد الى المؤسس, راقبي نافذة المكتب, حين تضاء ساكون هناك. تسللت الى الدرج بهدوء بارد, لم ار الدبابة, لم ار اي سيء, رايت شبح مديري يصعد امامي الى المؤسسة, بخطوه القاسي, و انفاسه المخنوقة, كان حافي القدمين و يلبس طاقية صوف لاخفاء ملامحه, مديري في مكتبه الان, و انا في غرفة مجارورة لا ادري ماذا افعل؟, وجدت نفسي احدق في سكين طويلة و حادة, احضرها زميل لنا يؤدي في احدى المسرحيات المستوردة دور قاتل متجول و غير مفهوم, ما زلت انتظره, لماذا تاخر؟. قال لي: حين تضاء نافذة المكتب فانا هناك, النافذة مضاءة الان, اراها جيدا, لا يستغرق الامر بضع ثوان, لماذا تاخر؟ الطلقات في المدينة تزداد شراسة, الدبابات تهدر هنا و هناك, صيحات امهات حزينة تنفجر في الجوار, سيارات الاسعاف تزعق, ما زالت النافذة مضاءة, مازلت انتظره, خلف جدار, بنصف سيجارة ايلة للافول, بعينين باردتين, و رغبة كبيرة تتنامى رويدا رويدا بالهرب من كل شيء, كل شيء.

0 التعليقات:

إرسال تعليق