حشرة عمياء يقودها طفل

على سور الشارع الذي ينحدر باتجاه متنزه رام الله، مقابل فندق صغير تحول لاحقا الى مقهى شبابي غريب الاسم، كلما لفظته امام احد، ضحك علي، اجلس منذ ساعتين،لا افعل شيئا سوى الجلوس، مستريحا من تعب طريق صاعد، لاهيا بمنظر الاولاد بائعي العلكة الفقراء وهم يتراكضون خلف وامام الشبان والشابات الميسورين، قادما كنت من المقهى الشعبي الذي اهرب اليه من ملا حقة كابوس لا يترك روحي ابدا، هناك في زاوية المقهى اجلس، وحدي مختبئا خلف احدى الطاولات، حولي المسنين، يلعبون الشدة غارقين حتى اخر تجاعيدهم و نهاياتهم ومخاوفهم في الارقام والورق، يشتمون بعضهم البعض بجدية طريفة يضحكون ضحكات عبثية،و وحده مثلي في زاوية اخرى يجلس، سبعيني او على مشارف الثمانينيات، يرمش بعينيه باستمرار قصير القامة، حزام بنطاله مرتفع عن اطاره، كرشه يتقدمه، يمشي كأنه يبكي او يتذمر او يعتذر، وجهه معتم ومهجور عيناه مغارتان فارغتان مقفلتان، بالحجارة والشوك والطين، عرفت ان اسمه ابو الياس، لا احد يكلمه، يجلس على طرف الطاولات، يقول مرحبا ولا احد يسمع، يتلصص على لاعبي الشدة بعينبيه المزيفنين، يحاول ان يحك كتفه بكتف احد اللاعبين المسنين، كأنه يعلمه بوجوده او حتى يمارس فعل الاعتذار معه، فلا تنتبه الكتف الاخرى، يغادر بعد دقائق، ويعود بعد دقائق، يلف حول الطاولات، يحدق في الوجوه واحدا واحدا، ولا احد يراه، حتى النادل عزام لا يعيرة انتباها، ولا يسأله عما يرغب في شربه، ابو الياس الحارس القديم لمخازن وكالة الغوث في الخمسينيات يتكور على نفسه، يفمض عينيه، ويختفي اماما،

على السور اجلس وحيدا، خلفي حاكورة مظلمة مليئة بالشجر، امامي ذلك المقهى الشبابي غريب الاسم، التقط نفسا مريضا، اجمع صورا مبعثرة من ذاكرة متكسرة، اليوم هو عيد ميلادي، بلغت اليوم اربعين عاما، لم اكن لاتذكر ذلك لولا اني سمعت مارا يقول لاخر اليوم هو 28 - 6، ابتسمت، ياه كم من اعياد ميلاد مرت دون ادري !!، شعرت برغبة في ضحك مجنون، لم افعل، لذت بصمت او لاذ الصمت بي، الصمت صار ملاذي وقيثارتي، فان تكلمت، سمعني الحارس، وهجم الكابوس من جديد، كاسر هو الحر هذا اليوم وهمجي، لا نسمة هواء في الجو، كل شيء واقف، انظر خلفي نحو الشجر المعتم، فاشعر اني انظر لتماثيل شجر منحوتة في صخر، على طرف المقهى، هناك فندق كبير بشرفات جميلة، امرأة بقميص نوم ازرق، تخرج من غرفتها، تتكيء على طرف الشرفة، تتثاءب، تتمطى، تنقل نظرها هنا وهناك، فجأة ارى شعرها يطير، فتقبض عليه وتجمعه في يدها، وتبتسم للريح، يا الهي ! من اين اتاها الهواء؟؟ لماذا خصها وحدها بهبوبه ؟؟ تعال قليلا الي ايها الهواء الا تراني ؟ انا الكائن ذو القميص المبلول، الجالس على الرصيف زرني لدقيقة ولا تعد، دقيقة واحدة فقط، اني اختنق من السكون، ومن العرق ومن جمود الاشياء، الهواء لا يأتـي، بينما تواصل المراة، لململة خصلاتها، ارى فمها يتحرك، هل كانت تشكر الهواء ام تغني له،؟؟ ام كانت تمارس معه الحب ؟؟

فجأة رأيته، كان يمشي ببطء شديد على الرصيف الاخر، مقابل المقهى تماما، يا الهي، انه اعمى الان، يقوده ابنه من يده،حارس الجامعة الشرس الذي كان يطاردني في سنتي الاولى في الجامعة، اينما ذهبت : ممكن البطاقة الجامعية من فضلك ؟

فانظر اليه مستغربا، اعطيه اياها، ينظر اليها،، يسلمها لي مشككا، لكنه يلحق بي في كل انحاء الجامعة، يراقبني، ويطلب البطاقة مرة اخرى : ممكن البطاقة من فضلك ؟ فاعطيه اياها، وانا اكاد اضحك، كان ضخم الجثة، فظ النظرات، تفخر به ادارة الجامعة لانه استطاع ان يكتشف متسللين من القوات الخاصة الاسرائيلية،

على مدى اشهر راقبني هذا الحارس، كنت اراه ينظر لى خلسة من نوافذ قاعات المحاضرات، واحيانا كان يدخل الحمامات ويجاورني في دلق بولي او غائطي، في الكافتيريا كان يأكل بجانبي، ويقترب من وجهي :

ممكن البطاقة من فضلك؟ فأتوقف عن الاكل، ويندلق الشاي على بنطالي،

وأعطيه بطاقني، يتأملها كانه يراها اول مرة، يسلملها لي على مضض، ويذهب وهو ينظر خلفه،

اصابني هذا الحارس بالرعب، مالذي يريده مني؟ لماذا انا بالذات،؟؟ صار يأتيني في نومي، صارخا في فرائصي، البطاقة، البطاقة، البطاقة، فانهض فزعا من نومي،وأركض الى البطاقة اخرجها من قميصي، واضعها تحت وسادتي، حتى اعطيها له حين يعود،

هل يشك اني قوات خاصة مثلا،؟ لكني اريه دائما بطاقتي وهي شرعية تماما، يشهد على ذلك اصحابي، وادارة الجامعة بختمها الساطع،

مرة من المرات لحقني الحارس حتى موقف السيارات، بعيدا عن حدود الجامعة، فكمنت له في مراب سيارات، وهناك امسكته من رقبته، كدت اخنقه، وانا اصيح فيه، لماذا تلاحقني ؟؟ ماذا تريد مني ؟؟

لم ينطق الا بثلاث كلمات، حارس، انا حارس، حارس، ونظر نظرة غريبة الى ملابسي غير الانيقة، تراخت قبضتي عن عنقه، لا اعرف لماذا يمتلك هذا الرجل طاقة كبيرة على اخافتي ؟؟. فيما بعد تركت الجامعة هربا من هذا الكابوس، ذهبت الى جامعة اخرى في بلد اخر، وفي احدى العطل الصيفية كنت اجلس وحدي في مقهى اشرب شايا، هناك في البلد الغريب،رأيته يجلس قبالتي يحدق بي، كان قد كبر، وانحنى ظهره قليلا، لكن نظرته كانت هي هي، رأيت فمه يتحرك، سمعته يقول بنفس التشكك واليقين القاسي، :ممكن البطاقة من فضلك، رايت نفسي اهرب، في ازقه البلد الغريب و شوارعه الكثيرة، تخرجت من الجامعة عدت الى بلدي، عملت مدرسا وما زلت، ونسيت موضوع الحارس، او توهمت اني نسيته، كنت في الصف حين طرق مديري الباب، سلمني بطاقة دعوة لحضور حفل تكريم لادوار سعيد، في نفس الجامعة التي هربت منها، على مدخل الجامعة، كنت انيقا وسعيدا ادخل، سمعت صوتا ينادي : يا استاذ ممكن البطاقة من فضلك؟

يا الهي، هو نفسه الحارس الغريب، تجمدت في مكاني، لم استطع النطق بكلمة، نفس الوجه الجامد والعينين الباردتين،

سمعت نفسي اقول، انا ضيف هنا يا عم جئت لحضور تكريم ادوار سعيد، ساغادر فورا بعد التكريم،

ابتسم الحارس، لاول مره اراه يبتسم، كدت اتوهم انه سيصيح الان بكامل زهوه و فرحه : انها الكاميرا الخفية، سامحنا يا بني، لكننا سنعطيك مكافأة، نظرت حولي متوقعا انهمار الصحفيين والمتفرجين والناس، لم ار احدا .

سمعت الحارس يقول : تكريم ادوار سعيد الثلاثاء القادمة يا بني وليس اليوم

ربت على كتفي كان يحدق في ملابسي،و يهز راسه،

خرجت الى العالم شخصا اخر، شخص يعتقد بقوة انه ضحية مؤامرة جهنمية من جهة غامضة،

مذ تلك اللحظة، تغيرت حياتي، حين تذكر كلمة بطاقة امامي اصاب بالذعر واهرب، دهش مديري حين صحت في وجهه، مهددا و رافضا، وهو يطلب مني تعبئة بطاقات الطلاب، تسللت ذات ليلة الى خزانة امي ومزقت بطاقات الاعاشة، جن جنون امي، رمت ورائي الكراسي والملاعق، ودعت علي ان يأخذني الله،



هو امامي الان اعمى تماما يمشي ببطء قبيح كانه حشرة يقوده ابنه الطفل، ما اجمل هذا المشهد، زال كابوسي الان سأشفى من فوبيا البطاقات، لن اقبض بيدي الاثنتين، بعد الان على تذاكر السفر في المطار، لن اخبيء، بطاقات هوياتي المهنية والشخصية في جيب خاص داخل الجيب نفسه، اخترعته في بنطالي، لن ارتعد خوفا وانا اقف في طابور طويل لحضور فيلم سينمائي وبيدي بطاقة الدعوة، بينما الاشخاص امامي وخلفي يضحكون وينكتون، لن اهرب حين تضيع مني دعوة مؤتمر او مهرجان او فيلم او ندوة،

، خوفا من الحراس المتربصين عند بوابات القاعات ، ومداخل المدن، وخلف الاسوار، وحين اقف امام حاجز اسرائيلي مع عشرات الواقفين، بانتظار دوري للتفتيش، لن تصطك ركبي واسناني، فقد فقدت الحشرة بصرها، لن تراني بعد الان، لن تلاحقني، انا حر، حر وخفيف،

رغبت بشدة في الضحك والرقص، لن ادفن رغبتي هذه المرة، ذهب الحر، وجاء الهواء مدرارا، جفف كل العرق االذي كنت اسبح فيه، سارقص واغني واضحك بصوت عال، هانذا ارقص ارقص، لن اكترث للعالم المستغرب ولن تخيفني الوجوه الغريبة، المتجهمة المطلة من السيارات،، لدي سببي الخاص والمثير للفرح المجنون، يا مرتادي المقهى الفاخر امامي، انظروا هذا المجنون الراقص، انظروا واضحكوا، الناس يتجمعون حولي، الحشرة العمياء تبتعد، اراها تغيب رويدا رويدا في زحام السيارات والناس وزحام صوتي، اطلي علي يا امراة الريح، انظري جمالي وانا ارقص، واغني اغنية الحشرات العمياء الهاربة،

فجأة وفي منتصف هياج روحي واصطخاب جسدي، احسست بيد قوية تهزني من كتفي , وتصيح :

ممكن البطاقة من فضلك،

0 التعليقات:

إرسال تعليق