لـماذا أكتب؟

حتى أؤخر الإحساس بالنهايات؛ فأنا رجلٌ محاطٌ برعب النهايات: نهايات أصحابي، نهاية مدينتي، نهاية وطني، نهاية نقودي، نهاية أمتي، نهاية نهايتي، نهاية مهنتي، نهاية يومي، نهاية حبيبتي، نهاية جسدي، نهاية قلـمي ...
أنا رجلٌ مدرعٌ بالكلـمات من رأسي حتى أخمص قدميّ، الرصاص ينهال على جسدي من كل مكان، لكنني أمشي وأبتسم؛ فأنا محروس بالكلـمات ... 0
أكتب؛ حتى أحشو كلـماتي في فوهة بندقية الجندي الـمحتل على حاجز زعترة، فأربكها وأخلخل ميزانها وأحرجها.
أكتب؛ حتى أصير الـمطر والليل والحب والعشب والـمدن البعيدة.
حتى أتوهم أنني قوي؛ فأنا في الأصل مفطور على الهشاشة والضعف ومنذور للعري.
الدنيا حولي دائماً برد، ولا أثق بجلدي؛ فألبس الكتابة جلداً ومعطفاً وقبعةً، وأمضي برموش شهوانية تجاه أنهار الشتاءات الصلبة، رجل الجليد الـمبتسم أنا؟.
أكتب؛ حتى أتلذّذ صامتاً بموقف مؤلـم أتعرّض فيه للسخرية من زميل دراسة قديم صار الآن متعهد بناء مشهوراً؛ حتى أفهم ماذا يعني أن نعيش يوماً لا نعرف شكل غده.
أكتب؛ حتى أستدرج قلب الغد، بالناعم والسحري والغريب من الكلام، أنوّمه أو أنامه؛ فأحصل على سرّه، وأهرول إلى العالـم بصيحة انتصار: "عرفت الغد، عرفت الغد".
أكتب؛ حتى أتفهّم منطق الصيف الذي لا أحبه ولا أفهمه.
حتى أدرك العلاقة الـمعقدة بين الله والجسد والـموت والحب!!!.
حتى أمتلك الشعور الجميل بالثراء دون أن أملك فلساً زائداً على راتبي.
حتى أغير حياة امرأة تبحث عن وميض بعيد لنفق حياتها الطويل، فتكون نصوصي ذلك الوميض، وحين تكبر تلك الـمرأة وتصبح جدة، تجمع أحفادها وتقول لهم: "كانت حياتي كذا، فقرأت نص كذا فتغيّرت حياتي".
أكتب؛ حتى أملأ نصوصي بالرجال من ذوي الشعر الناعم وأنتقم من امرأة قديمة شبّهت شعر رأسي بحقل الشوك.
أكتب؛ حتى أستمتع بعزلتي وفرادتي وانقطاعي عن العالـم. وأعيش وهمَ أنني على صواب والعالـم كله على خطأ.
أكتب؛ حتى أهز يقين الأصوليين بالإجابات الثابتة والجاهزة غير القابلة للدحض؛ فأملأ نصوصي بالاحتمالات والعبث والتخبّط وتنوّع الإجابات وتجاورها.
أكتب؛ حتى أجرّب الـموت في الحياة؛ فأرتاح حين أموت من مفاجآت وصدمات الـموت.
حتى يتوقّف الناس عن مطالبتي بالزواج!!!.
حتى يقولوا: "هو متزوج من الكلـمات فاتركوه، هو مشغول، لديه ما يبهجه غير الأطفال ورائحة الـمنازل الـمعتادة؛ فاتركوه اتركوه".
أكتب؛ حتى أغيظ جاري الأصولي الذي يخاف الكلـمات العارية، ويهرب دوماً من زغاريد جسده إلى أعراس غده البعيد.
أكتب؛ حتى أستطيع أن أصف متعة أن تضع امرأة فنجان قهوة على طاولتك بينما أنت تكتب نصاً.
حتى أتخفف من ضغط ثقل جسدي بمطالبه السمينة؛ لأقترب أكثر من جسد الفراشة باحتمالات موتها الرائعة وضيق خيارات حياتها.
حتى يفرح أبي حين يرى كتابي الجديد، فيصيح في وجه منتقدي ابنه: "ابني كاتب، فمن أنتم؟".
أكتب؛ حتى تعجب بي امرأة في الأربعين، فتهرب من بيتها وزوجها وأطفالها لتراني، وتحس ببشريتي وتبكي على غلاف كتابي الأخير.
أكتب؛ حتى أقنع الـمحتلين أن لدينا مخيلة حب وفرح كبيرة، وطاقة رقص داخلية وخارجية وحياة طبيعية هائلة، وأننا لسنا فقط مقاتلين وشهداء ومطاردين ... .
أكتب؛ حتى أجرب جمال أن أخطئ، وأشتم الوصايا، وأخلق وصاياي الشخصية.
حتى أقنع الجندي الإسرائيلي على الحاجز أنني أهمّ منه، فهو مخبول وصغير وخائف وقاتل، وأنا فنان وكاتب وطبيعي وإنسان.
أكتب؛ حتى أناضل ضد حيوانيتي الـمستيقظة، وألطّف من وقع حوافر انتظام الأشياء واصطفافها الجبان في اتزانها الكاذب وتكرارها، وأسلب من هاوية الـموت وقعها وحقيقتها، وأحوّلها إلى حلـم أو كابوس يزول مع صباح جديد؛ حتى أخرج للفناء لساني وأرقص أمامه ممارساً حركات تهريجية، ومقلداً أصوات الحيوانات أو رؤساء وملوك العالـم؛ حتى أضحكه فيؤجل الحضور أو قد يلغيه.
أكتب حتى لا أنسى أن هذه الأرض يسكنها آخرون غيري.
حتى أتذكر ــ أحياناً ــ احتمالية التخلي عن حلـم أن أكون كاتباً.
أكتب؛ حتى أحصل على ذريعة للتحرّش بالخلود، فأتنكر بهيئة جابي رسوم الكهرباء، أقترب منه، أسهر عند رأسه، أحكي له الحكايات الـمسلية، بينما هو مصاب بالحمى، ومشرف على الـموت، أعانقه، مدعياً كفاءتي لعشقه، وحين يتحسس كتفي يفاجأ بمهنتي وهشاشتي وبشريتي؛ فيلطمني على خدي ويأمر بإخراجي من قصره؛ فأعود حزيناً وباكياً إلى كهفي الحجري أعدّ خطة أخرى للتحرش.
أكتب؛ حتى أشم رائحة كتبي وشخصياتي وحبري في زمن فقدت فيه الروائح الأصيلة.
أكتب؛ حتى أعرف زياد خدَّاش؛ فأحبّه ... .

0 التعليقات:

إرسال تعليق